ابكي عليّ ... أيتها الأرجنتين!
تعاني الأرجنتين حالة بالغة السوء بكل معنى الكلمة، فلا تزال هذه الأمة واقعة تحت تأثير خلطة سياسية مثالية تُدعى البيرونية، كذلك تخوض حرباً مفتوحة ضد كل البيانات الاقتصادية المثبتة، وتسيء التلاعب بسعر الصرف المتعدد المستويات، وتعزل نفسها عن الأسواق الرأسمالية العالمية، بالإضافة إلى ذلك تتعدى الأرجنتين على حقوق الملكية حين تشاء.
يتداول الناس في أميركا الجنوبية في مرحلة ما بعد طفرة السلع مقولة ذكية عن أن البرازيل تتحول إلى أرجنتين ثانية، والأرجنتين تتحوّل إلى فنزويلا ثانية، وفنزويلا تتحول إلى زمبابوي ثانية، ولا شك أن هذه المقولة قاسية بالنسبة إلى البرازيل وفنزويلا.لكن الأرجنتين تعاني حالة بالغة السوء بكل معنى الكلمة، فلا تزال هذه الأمة واقعة تحت تأثير خلطة سياسية مثالية تُدعى البيرونية، كذلك تخوض حرباً مفتوحة ضد كل البيانات الاقتصادية المثبتة، وتسيء التلاعب بسعر الصرف المتعدد المستويات، وتعزل نفسها عن الأسواق الرأسمالية العالمية، بالإضافة إلى ذلك، تتعدى الأرجنتين على حقوق الملكية حين تشاء، وما زالت مهووسة بحرب صغيرة خسرتها في جزر فوكلاند (مالفيناس) قبل نحو ثلاثة عقود، وهي مقتنعة بأن سبب هذا الإخفاق يكمن في محاولة قوى نافذة إرغام أمة عريقة "على تناول الحساء مجدداً، إنما بالشوكة هذه المرة"، وفق قائدها.قبل نحو قرن، كانت الأرجنتين أكثر ثراء من السويد، وفرنسا، والنمسا، وإيطاليا، كذلك كانت أغنى بكثير من اليابان؛ لذلك اعتادت الازدراء بالبرازيل المسكينة، وبما أنها شاسعة وفارغة، مع تمتعها بالتربة الأغنى في العالم في سهول البامبا، بدا للمهاجرين الأوروبيين، الذين تقاطروا إليها، أنها تملك كل فرص النجاح، تماماً مثل الولايات المتحدة (بات الدخل الفردي اليوم نحو ثلث معدل الدخل في الولايات المتحدة أو أقل). ما كان هؤلاء يعلمون أن كولونيلاً يُدعى خوان دومينغو بيرون وزوجته إيفا (إيفيتا) سيؤسسان ثقافة واهمة تقوم على قوة واحدة. يذكر خافيير كوراليس، عالم سياسي في جامعة أمهرست: "تُعتبر الأرجنتين حالة خاصة أنهت انتقالها إلى التخلف".من الناحية النفسية (وتحفل بوينس آيرس بأناس يتمددون على الكنبات ليفضوا بمخاوفهم للمعالجين النفسيين)، تُعتبر الأرجنتين الطفل بين الأمم التي لم تكبر مطلقاً، فلا تجيد هذه الدولة تحمل المسؤولية، ولمَ عساها تقوم بذلك؟ فثمة الكثير لنهبه مثل ثروات الحبوب والماشية. لذلك تبدو المؤسسات الثابتة وحكم القانون مضيعة للوقت، فكم بالأحرى النظام الضريبي الفاعل؟احتشد المهاجرون في هذا البلد، حاملين جوازات سفر أجنبية، فقد فضلوا تفادي عملية الدمج التي تكوّن الأمم والتي تميزت بها البرازيل والولايات المتحدة. كانت الأرجنتين دولة في أسفل العالم، كتلة من الأرض الخصبة بعيدة عن مراكز القوة، تستطيع عيش أحلامها الهامشية أو دفن حزنها في ما يُعتبر على الأرجح الرقصة الأكثر حزناً (وإثارة للخوف) في العالم. وكي تُعبّر الأرجنتين عن تميزها وتفردها، ابتكرت فلسفة سياسية جديدة: مزيجاً غريباً من القومية، والرومانسية، والفاشية، والاشتراكية، والتخلف، والتقدمية، والطابع العسكري، والإثارة، والوهم، والموسيقى، والحزن، وعدم تحمل المسؤولية، والقمع. أما الاسم الذي اتخذتها هذه الفلسفة، فكان البيرونية، واتضح أن من الصعب التخلص منها.بعد أن اختبر بيرون التقدم السياسي الذي قد ينعم به مسؤول في الجيش نتيجة إقامته روابط مع المغمورين من الناس في أميركا اللاتينية وتوزيع المال (درس تعلمه منه هوغو تشافيز)، خُلع خلال أول الانقلابات الأربعة التي تلت الحرب. كانت الأرجنتين، التي غطيتُ أحداثها في ثمانينيات القرن الماضي، تنهض من صدمة الحكم العسكري. وإذا أردت تقديم صورة رمزية واحدة للقارة في تلك الفترة، أختار صورة النساء الأرجنتينيات اللواتي ينحن ويبكين وهن حاملات صور أولادهن الذين أخذوا منهن للخضوع "لاستجواب وجيز" ومن ثم اختفوا، فقد حول المجلس العسكري الحاكم في تلك المنطقة كلمة "اختفى" إلى فعل شائع الاستعمال، وهذا كان مصير كل مَن اعتبره عدواً: 30 ألف "عدو" في الأرجنتين.