انحسار الارتقاء الطبقي

نشر في 10-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 10-02-2014 | 00:01
 ريتشارد هاس في الغالب الأعم، تنتشر المخاوف المتعلقة بانعدام المساواة الاقتصادية في كل مكان، والمسألة هنا لا تتعلق بانعدام المساواة بين بعض البلدان مع بعض والتي تراجعت على أرض الواقع في العقود الأخيرة بفضل ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة متوسط العمر للمواطنين في العديد من البلدان الناشئة (خصوصاً الصين والهند)، لكنها ترتبط في واقع الأمر بانعدام المساواة- التي يطلق عليها أحيانا تفاوت الدخل- داخل حدود البلدان نفسها.

أحد أسباب ذلك يكمن في أن مشكلة انعدام المساواة نفسها هي مشكلة حقيقية، وتزداد سوءاً في العديد من الأماكن، وفي العقود الأخيرة أصبحت الثروة والدخل أكثر تركيزاً في قمة الهرم- أي ما يسمى نسبة 1%- بينما الدخول الحقيقية ومستويات المعيشة للفقراء والطبقة الوسطى في العديد من الدول النامية لم تتغير أو انحدرت. لقد كان الوضع كذلك قبل الأزمة المالية العالمية سنة 2008، لكن الأزمة وتداعياتها (بما في ذلك مستويات أعلى من البطالة ولفترات طويلة) جعلتا الأمور تزداد سوءاً بالرغم من بعض الاستثناءات البارزة في شمال أوروبا وأجزاء من أميركا اللاتينية فإن ارتفاع انعدام المساواة قد أثر في الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء.

هناك شخصيات بارزة سارعت إلى لفت الانتباه لهذه المشكلة أكثر من أي وقت مضى، فمن جانبه حض البابا فرانسيس العالم على رفض اقتصاد الاقصاء وانعدام المساوة لأن "مثل هذا الاقتصاد يقتل." أما الرئيس باراك أوباما فتحدث عن اقتصاد اميركي أصبح "غير متساو بشكل كبير". لقد جعل عمدة نيويورك الذي انتخب أخيراً هذه القضية حجر الزواية في حملته الانتخابية، حيث أشار مراراً وتكراراً إلى"قصة مدينتين" و"أزمة انعدام المساواة". هذا التركيز من جانب الشخصيات العالمية يمكن تفهمه، لكن هناك خطر حقيقي في توصيف المشكلة على أنها مشكلة انعدام مساواة، فالمهم هنا هو ليس انعدام المساواة بحد ذاته، حيث نفهم من "إنجيل متى" أن الأغنياء سيبقون دائماً معنا- لكن المشكلة هي ما إذا كان السكان فعلياً يتمتعون بفرصة حقيقية ليصبحوا أغنياء أو على الأقل لتحسين وضعهم بشكل معتبر. إن جوهر المشكلة هو الافتقار إلى الارتقاء الطبقي وليس انعدام المساواة.

فالنظر الى انعدام المساواة على أنه جوهر المشكلة يمكن أن يؤدي الى أنواع عدة من "العلاجات العكسية" التي في واقع الأمر قد تجعل الوضع أكثر سوءاً، ولعل أكثر الإجراءات إغراءً في تلك الحالة هي السعي إلى تقليص انعدام المساواة من خلال فرض ضرائب على الأغنياء. إن الخطأ في سياسة إعادة التوزيع هو أن تلك السياسة تركز على نقل الثروة بدلاً من خلقها، فالسعي إلى جعل الأغنياء أفقر لن يجعل الفقراء أغنى.

بالطبع لكل قاعدة هناك استثناءات، فعلى سبيل المثال في حالة الفساد الشديد والمحسوبية الرأسمالية فإن موارد الدولة مخطوفة من القلة المسيطرة على الثروة. ويقع العديد من الدول الغنية بالطاقة ضمن هذه الفئة، لذا يتحدث العديد من المراقبين عن الطاقة والثروات المعدنية على أنها "لعنة" بدلاً من اعتبارها منفعة. لكن، لحسن الحظ فإن مثل هذه الحالات هي الاستثناء، وكقاعدة عامة، فإن السياسات الذكية لا تتطوي على إسقاط الأغنياء لكنها تعمل على الارتقاء بالفقراء والطبقة الوسطى. إن تقليص مستويات التمييز على أساس العرق والدين والجنس والميل الجنسي هو أحد سبل الحد من انعدام المساواة أو القضاء عليه. علاوة على ضمان حقق التملك وذلك حتى يتسنى للناس اقتراض الأموال بضمان منازلهم من أجل البدء بمشاريع تجارية.

التعليم من الجوانب الحيوية أيضاً في هذا المضمار، لكن هذا لا يعني صرف المزيد من الأموال على التعليم، فالمهم هو كيفية استخدام الأموال وليس كم المبالغ التي يتم صرفها؛ فالمتغير الأهم الذي يؤثر في أداء الطلاب هو نوعية التعليم. فالموارد المطلوبة من أجل التدريب الإضافي للمعلمين، ودفع رواتب أعلى لاجتذاب الموهوبين من أجل الالتحاق بسلك التعليم وضمان البقاء فيه يمكن موازنتها عن طريق الرغبة بالتخلص من المعلمين غير الأكفاء، حتى لو ارتفعت بعض النفقات في سبيل تحقيق هذا الغرض فإن ذلك سيكون مبرراً لو كانت المحصلة مواطنين أكثر تعليماً وأكثر إنتاجية.

كما أن إصلاح المناهج من الجوانب المهمة، ولا شك أن المدارس الثانوية و"كليات المجتمع"- وهي مؤسسات تعليمية ما بعد الثانوي في الولايات المتحدة التي عادة ما تمنح دبلوماً جامعياً بعد سنتين من الدراسة- تحتاج إلى أن تقدم دورات تتلاءم مع الوظائف المتوافرة أو التي ستتوافر قريباً. ويتعين ضمان تعاون وثيق بين أصحاب العمل والمدارس كما هي الحال في بلدان مثل ألمانيا، وينبغي توفير فرص تعليم غير مكلف وفعال للمواطنين طيلة حياتهم وليس فقط في بداية حياتهم المهنية.

من المهم أن نكون أكثر حذرا حيال بعض الأفكار التي تطرح كحلول مثل المطالبة بزيادات كبيرة على الحد الأدنى لأجور العمال الذين يشتغلون بالساعة. فمثل هذا الأمر ينطوي على مخاطر إثناء الشركات عن التوظيف؛ لذا فمن المفضل أن تكون الزيادات في الأجور متواضعة، وذلك حتى يتمكن الناس من إيجاد وظائف وبعد ذلك البحث عن طرق أخرى من أجل دعم التعليم والرعاية الصحية لأولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة.

انعدام المساواة هو قضية حقيقية ولا يمكن التعامل معها بشكل فعال إلا من خلال سياسات وبرامج تعزز النمو والفرص ذات المعنى التي يمكن الاستفادة منها. إن هناك الكثير من القضايا على المحك، فالنمو الاقتصادي والتجانس الاجتماعي يعتمد على عمل الشيء الصحيح في ما يتعلق بهذا الموضوع، ولكن حتى نعمل الشيء الصحيح نحتاج إلى أن نفهم أن انعدام المساواة لا يعتبر سبب المشاكل التي نعانيها بل هو نتيجة لتلك المشاكل.

* رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب

«السياسة الخارجية تبدأ في الوطن».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top