هذه الثورة الصينية قد تبدل العالم
يشير كتاب Modelling، الصادر أخيراً لجون هولي من مصرف إنكلترا، إلى أن تحرير رؤوس الأموال قد يرفع حصة الصين في الاستثمار الدولي الإجمالي من 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو 30% بحلول عام 2025.
عندما أُطلق سراح مانديلا من جزيرة روبن عام 1990، كان يعيش مرحلة من التشويش الزمني، فخلال السنوات السبع والعشرين التي قضاها خلف القضبان، واصل العالم تقدمه، تاركاً مانديلا عالقاً في حالة من الغموض الفكري القائم على معتقدات اقتصادية يسارية سلبية. فبدت فكرته عن تأميم وسائل الإنتاج قديمة على نحو غريب.لكنه خرج من حالة الغموض هذه بعيد ذلك، خلال مأدبة طعام على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في "دافوس"، فأثناء جلوسه بين اثنين من أبرز شيوعيي العالم آنذاك، لي بينغ، رئيس وزراء الصين، ولو مين شو، شخصية بارزة في الحزب الشيوعي الفيتنامي، قيل له: "لا تؤمم. إذا كنت تريد الاستثمارات، فتبن الرأسمالية".لا أذكر هذه الرواية لأنها تشكل في فترة الحداد هذه طرفة معبرة عن انتقال جنوب إفريقيا من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية. أوردتها لأنها تذكرنا بأن الطريق ما زال طويلاً أمام الصين لتتبنى الاقتصادات الرأسمالية التي حضت مانديلا عليها رغم مرور أكثر من 20 سنة، ولا شك أن الصين اعتمدت عدداً من أسس الاقتصاد الحر، ما مهد الدرب أمام مرحلة من النمو غير مسبوقة، إلا أنها لا تزال إلى حد كبير اقتصاداً موَجهاً، حتى إنها تُعتبر من ناحية مهمة (حرية حركة رؤوس الأموال) عالقة في القرون الوسطى.لا تستطيع الأسر والشركات الصينية إنفاق المال وادخاره بحرية، فلا تزال الدولة إلى حد كبير تدخره وتستثمره نيابة عنهم؛ لذلك لا يُعتبر أداء الصين عاليا كنظام سوق حرة فاعلة.لكن هذا الوضع قد يتبدل قريباً، فإذا صدقنا القادة الصينيين، فستُرفع الضوابط المفروضة على رؤوس الأموال تدريجيا خلال السنوات العشر المقبلة، ومن المؤكد أن هذا تطور إيجابي كبير يعِد بأن يُنهي أخيراً مسيرة الصين الطويلة نحو اندماج كامل بالاقتصاد العالمي.علاوة على ذلك، يقدم هذا للمملكة المتحدة، التي تتمتع بمكانة بارزة في الأسواق الرأسمالية الدولية، فرصة نادرة. يشير كتاب Modelling، الذي صدر أخيراً لجون هولي من مصرف إنكلترا، إلى أن تحرير رؤوس الأموال قد يرفع حصة الصين في الاستثمار الدولي الإجمالي من 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى نحو 30% بحلول عام 2025، وهذا تحول تبدو بريطانيا في موضع مميز لتسهيله.لكن المحزن أن الخطط المرسومة لتحويل لندن إلى مركز لتبادل الرينمينبي باتت مهددة اليوم بسبب عرقلة وزارة الخارجية البريطانية طلبات التأشيرات، وبإمكان المصرفيين الصينيين التوجه إلى أي دولة أخرى بسهولة، إلا أننا لن نتناول هذه المسألة الآن. في مطلق الأحوال، لا يمكننا المبالغة في التعبير عن أهمية التزام الصين برفع القيود عن رؤوس الأموال، خطوة أُعيد تأكيدها خلال الاجتماع الثالث للجنة المركزية للحزب الشيوعي. إذاً، يبدو أن عشق الصين للأسواق الحرة يزداد قوة، رغم أن الاقتصادات الغربية، التي ترزح تحت وطأة الأزمة المالية، تهرع في اتجاه آخر.عندما أطلقت الصين عملية إصلاح عام 1979، وسمت هذه، على ما يبدو، آخر انتصارات اقتصادات السوق الحرة على البدائل الشيوعية الموَجهة، لكنها لم تحقق النتائج المرجوة بالنسبة إلى الغرب، فقد ألحقت العولمة أضراراً بالغة بالكثير من الاقتصادات الغربية، سالبة إياها أسواقها ونموها، كذلك قوضت صناعاتها وساهمت إلى حد كبير في تضخم دينها، فبلغ هذا التدهور ذروته خلال الأزمة المالية، وأدى تبني الصين التجارة الحرة من دون الموافقة على حرية حركة رؤوس الأموال إلى زعزعة النظام الذي كان قائماً.إليكم كيف ولمَ قد يعيد تحرير السوق إرساء التناغم، في الاقتصادات النقدية مفهوم يُعرَف بـ"الثالوث المستحيل" أو "المعضلة الثلاثية". يشير هذا المفهوم إلى أن البلد لا يستطيع أن يجمع بين سعر صرف ثابت، وحرية حركة رؤوس الأموال، وسياسة نقدية مستقلة، ويمكنه الجمع بين اثنين منها، إلا أن الجمع بينها كلها مستحيل.على سبيل المثال، إذا كان معدل الفائدة الدولي السائد يساوي 2%، إلا أن المصرف المركزي يحاول كبح الطلب المحلي، رافعاً المعدلات إلى 4 ، فسيؤدي ذلك تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة. وسيعمد المستثمرون إلى بيع الأصول الدولية ذات المردود المنخفض ليشتروا أصولاً محلية عالية المردود، وما من طريقة لوقف ارتفاع قيمة العملة إلا من خلال التحكم برؤوس الأموال.هذا ما تفعله الصين اليوم، فإذا أردتم أن تثبتوا سعر الصرف على معدلات منخفضة كي تستفيدوا من قطاعات الصادرات، وتحددوا معدلات الفائدة الخاصة بكم، فلا يمكنكم التمتع بحرية حركة رؤوس الأموال. الوضع في بريطانيا معكوس: فنحن نتمتع بحرية حركة رؤوس الأموال واستقلال نقدي، إلا أننا لم نستطع تحقيق ذلك إلا باعتماد سعر صرف غير ثابت.تخطط الصين اليوم لاعتماد هذه المقاربة البريطانية من الثالوث المستحيل، ولا شك أن تداعيات هذه الخطوة ستكون كبيرة، فما عادت الصين تستطيع الحصول على نمو أكبر من الغرب الغارق بالدين من دون أن تتسبب بالمشاكل. إذاً، بلغ النموذج الصيني المرتكز على الصادرات (حقق نجاحاً كبيراً في تعزيز التنمية الصينية، إلا أنه ألحق الضرر بالغرب المتطور) أقصى حدوده، وللانتقال إلى المرحلة التالية، على الصين أن تتبنى نموذجا مختلفاً، نموذجاً أكثر اعتماداً على الإنفاق المحلي منه على الاستهلاك الغربي الذي غذَّى نموها حتى اليوم.لا شك أن إصلاح حساب رأس المال سيشكل دافعاً رئيساً وراء هذا التبدل، وستساعد الدولة الصينية التي تنفق، لا تدخر، الاقتصادات الغربية في التخلص من الدين وإطلاق أشكال أكثر توازناً من النمو. نقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة من العولمة ستكون أكثر ديناميكية وستعود بالفائدة على الجميع، وهكذا قد يتحقق أخيراً وعد عام 1979، حين بدأت الصين إصلاحات السوق الحرة.