الأديب والناقد الجزائري حبيب مؤنسي: الربيع العربي لن يفرز مشاريع إبداعية

نشر في 29-04-2013 | 00:01
آخر تحديث 29-04-2013 | 00:01
No Image Caption
يرى الأديب والناقد حبيب مؤنسي أن الحالة الأدبية في الجزائر تشهد راهناً حالة من الرواج الإبداعي من خلال الأعمال الأدبية المختلفة، خصوصاً الشعر والقصة والرواية، مؤكداً أن هذا الحضور الإبداعي يعود بالجزائر إلى مكانتها الأدبية التي تستحقها بين الدول العربية. حول المشهد العربي والواقع الأدبي بعد ثورات الربيع العربي تحدث مؤنسي إلى {الجريدة}.
بين أعمالك المختلفة من رواية {العين الثالثة} و{نظريات القراءة في النقد المعاصر} و{توترات الإبداع الشعري} و{مقامات الذاكرة المنسية} و{المشهد السردي في القرآن الكريم} وغيرها، كيف ترى تلك الرحلة الأدبية وأي من هذه الأعمال الأقرب إليك؟

لكل كتاب مكانة، مثل الأطفال في الأسرة الواحدة، منهم السلس الذي أسعدني في جلسات ومنهم المشاكس الذي أتعبني وأطال سهري ومنهم الوقور المحترم الذي عاملته وكأنه الراشد الكبير ومنهم النزق الذي جاء رداً على أحدهم. وكتبت الرواية لأن الكتاب الدراسي ضاق عن الفكرة التي تكونت ولا أريد انتظارها، فاتسع لها السرد وأفرغت في نصوصي السردية كماً كبيراً من الرؤى الفكرية لأنني لم أشأ أن أقدم حكاية يتسلى بها القارئ في ثوب أدبي جميل، بل أردت أن تكون القصة مشجباً أعلق عليه الأفكار. ما يهمني هو الفكر، أي أن يخرج القارئ من قراءته وقد كسب شيئاً. أما القصص والأخبار ففي سواد الصحف ما يكفي من خبر سار وآخر محزن ومن حدث بشع وآخر غريب. مهمة الأدب أن يؤدب بمعنى يعلم، ولكن تعليماً خاصاً مختلفاً عن التعليم التقليدي، أن ينقل تجربة... ليست تجربة عملية، وإنما تجربة وجدانية تقر في القلب وتتحول مع الأيام إلى فكر وسلوك.

يرى البعض أن المشهدين القصصي والروائي في الجزائر يتفوقان على الإبداع الشعري، كيف ترى ذلك؟

نعم هذا هو الظاهر، لأن وسائل الإعلام تعلي من شأن الرواية لأسباب معروفة من بينها المهرجانات والجوائز ومعارض الكتب ودور النشر يهمها الصدى الذي تصنعه الرواية أكثر من الصدى الذي يصنعه ديوان من بضع قصائد أو صفحات، فأحجام الرواية دخلت بدورها مجال التنافس لتزيد الطين بلة وكأن الحجم صار مقياساً نقدياً لنجاح الرواية، ومنه غرقنا في النصوص الهامشية المحشوة والثرثرة الفارغة التي تطول بها الصفحات، والوصف الفارغ الذي يعترض السرد بما يمكن حذفه أو تخطيه من غير أن تفقد الرواية شيئاً من أخبارها، هذا ما سميته ترهل النص وجشع الرواية التي بدأت تسطو على الفنون المجاورة من مسرح وسينما وموسيقى وغيرها. أما مشكلة انحسار الشعر فتقع على عاتق الشعر الحر والقصيدة النثرية التي غرقت في الذاتية المريضة، فجعلت من فسحتها مجالاً لهموم الذات الضيقة وأحاديثها الخاصة، وانحسر الشعر في العتاب والشكوى وبث الهواجس الخاصة. أعتقد أن مشكلة الشعر العربي لا يمكن أن تعالج بشكل حقيقي إلا من خلال استرجاع مكانة القصيدة العمودية الحقيقة، وإيجاد تسمية لما يسمى اليوم الشعر الحر وقصيدة النثر، ليكون جنساً أدبياً إلى جوار الشعر يستفاد منه جمالياً وفكرياً، ففي ابتعاده عن الشعر تسمية أولاً وإحلاله مكانة أدبية جديدة تجنيساً سيفي الخلط الذي تعانيه المدونة القيمية في النقد الأدبي، وستكون للأذواق المتلقية مجالات للتلقي واضحة الحدود بينة المعايير.

كيف ترى خصوصية الشعر الجزائري الحديث؟

ليس للشعر الجزائري من خصوصية إذا ما نظرنا إليه في جملته من خلال الوسط العربي الذي ينتمي إليه، فقد قلت سابقاً إن الشعر الجزائري كغيره من الشعر العربي واقع تحت سلطان الصوتين: النزاري والدرويشي، وإن العبارات النمطية تتكرر باستمرار، والاستعارات التي استعملت والأساطير التي وظفت والمعاني التي طرقت هي هي هنا وهناك. نعم يشقى كثير من الشعراء الجزائريين في إيجاد تميز خاص بهم يأتيهم من المحلية ومن طبيعة المكان والثقافة، لكنه تخبط يرسف في قيد الذاتية التي سقط فيها الشعر العربي. صحيح أن الشعر كله ذاتي المنزع ولكن للشعر أيضاً أن يحمل فكراً، وأن تكون له فلسفته الخاصة، وأن يتجاوز المرأة وهمومها، وأن يشق في الحياة نهجاً سلوكياً تربوياً، يخيل إليك اليوم وكأن الشعر الجزائري مثله مثل الشعر العربي يكتب نصاً واحداً كبيراً يشارك فيه جميع الشعراء شرقاً وغرباً، وعلى اختلاف العمر والجنس.

هل صنعت الحداثة فجوة بين المتلقي والمبدع اليوم؟

نعم. ألقت الحداثة بكم كبير من المقولات في الساحة الفكرية دفعة واحدة، ولم يكن القارئ العربي مستعداً للتفاعل معها، فصدم أول الأمر ثم انساق وراءها كثير من النقاد خوفاً من أن يوصفوا بالتخلف والرجعية وعدم مسايرة التقدم، فقد كانت الجامعات تضم عدداً من الشيوخ وسيلاً من الشباب الذي يحمل في صدره مشاعر متناقضة تجاه التراث والغرب، واندفع هذا الجيل إلى البحث عن التميز فكانت ضريبة التحديث أن قبل بالمقولات على علاتها من غير أن يناقشها، وأن يعرف منازعها وأن يتبين أهدافها، ولم يستمع للأصوات الضعيفة التي كانت تحذر من ذلك الانزلاق الخطير. كان الغرب هو القبلة وكل ما تهب به رياح الغرب جديد ومستملح ومتطور ومقبول، ومنه جاءت كلمات القطيعة، والتجديد، والتجريب، والتحرر من القيد، ورفض الأبوية، وكسر الطوفق، وقدم المعيار، ونسبية القيمة، وتجريد الأدب من الأخلاق، وليس للأدب أن يعلم، وليس له أن يربي وليس له أن يحمل فكرا، وأنه لعب باللغة، وأنه خال من المعنى، وأن المعنى شركة بين المبدع والقارئ.

هل ترى أن الثورات العربية ستفرز إبداعات للأمة في المستقبل؟

لا، لن تفعل شيئاً من هذا أبداً، لأن هذه الثورات من قبيل ما قلناه عن الشعر الحر وتدبير أمره استخباراتياً لهدم أسس بنيت أركانها منذ أكثر من 17 قرناً أو أكثر، كأن ثورات الفكر الوافد لتقويض مرتكزات الأمة والفكرة باختلاف توجهاتها ومشاربها، وقد حدث ذلك ولم تقدم الحداثة بديلاً البتة وإنما أورثتنا أرضاً خراباً نطل عليها اليوم في أدبنا وفكرنا وذهنيات جيلنا. والثورة اليوم هدم على مستوى البنيات القاعدية المادية ننجزه بإيعاز خفي لنهدم ما بنيناه حضارياً منذ آلاف القرون. إنها الخطة الممنهجة تبلغ دورتها الثانية، هدم العقلية المتسقة المتناسقة التي تأسست أجيالاً وأجيالاً، فإذا حلت الفوضى مكانها وسكنتها الحيرة وعدم اليقين، انتقل التدبير إلى الهدم الممنهج الذي يخرب الدور على رؤوس أصحابها، فهل تنتظر بعد الخراب إبداعاً. سأقول هنا أمراً قد يصفني بعضهم بعده بالمتدين الأصولي: علينا أن نعيد قراءة ما أخبرنا به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الخراب الذي سيصيب الأمة في فتن متلاحقة.

ما رأيك بالمبادرات التي تقام لدعم الشعر في الوطن العربي؟

ثمة أمر خطير يحدث الآن، إنه عودة الشعر العامي أو ما يسمى في المشرق بالشعر النبطي، لأنه يرضي في العربي ما سلب منه في الشعر الفصيح، فيقوم هذا الشعر على الإنشاد أساساً وحضور الشاعر مع نصه في المشهد الشعري، غير أن الشعر النبطي يتجه إلى الماضي في كثير من نصوصه إحياء لسلوكيات ونعرات، وتمجيداً لقبائل، واختلاقاً لبطولات، وهذا الجانب الذي بدأنا نسمعه هو ما يزعج فعلاً وما يخيف، وهي حال الدراما التي تسمى بالتاريخية والتي تكتب تحت الطلب خدمة لجهات تملك المال ولا تملك التاريخ والجاه. وثمة عودة للقصيدة العمودية والخطابية مدفوعة بما يعتري الواقع العربي من رجات ونكسات، فالعمودية هي الوعاء الذي تصب فيه اليوم دعوات المواجهة والتصدي والصمود ونقد الذات، إنه المسار الذي ربما يربط الصلة مجدداً بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والجواهري وعمر أبو ريشة وإلياس أبي شبكة وإيليا أبي ماض والشابي ومحمود طه ومفدي زكريا ومحمد العيد آل خليفة... وغيرهم الكثير.

تحدثت كثيراً عن قضية الرواية والتاريخ وثمة من يعتبرها تؤرخ للواقع فعلا كأعمال نجيب محفوظ مثلا، فكيف للرواية أن تنأى بنفسها عن ذلك والبعد عن الأهواء الشخصية؟

ينبغي أن نفهم أولاً ما يراد للرواية حتى نستطيع الإجابة عن هذا السؤال بشكل واضح ومسؤول. الرواية اليوم عند الغرب، وبعد رواية {شفرة دافنشي} لدان براون وقبلها بسنوات {اسم الوردة} لأمبرتو إيكو، يراد لها من جهات معينة أن تكون بديلاً للتاريخ الرسمي، وأن تتولى مهمة إعادة النظر في المسلمات التي رضعتها الأجيال على أنها من مرتكزاتها وأسس هوياتها. فمهمة الرواية أصبحت اليوم تقوم على مراجعة التاريخ الرسمي الذي كتبته السلطة الحاكمة لتطرح إلى جواره تاريخاً آخر يقوم على المساءلة والتشكيك وعرض وجهات النظر المختلفة، ومنه صرنا اليوم نتخاصم في تحديد مهمة الروائي والمؤرخ ونجتهد في تحديد الفوارق بينهما.

back to top