كيف لدول العالم أن تختار بابا «علمانياً»؟!

نشر في 27-03-2013 | 00:01
آخر تحديث 27-03-2013 | 00:01
No Image Caption
كان داغ همرشولد، المحامي السويدي، شخصية مغمورة اعتُقد خطأ أنه بيروقراطي حذر، فتبيّن أنه عملاق استقطب انتباه العالم، ما أثار سخط كل أعضاء مجلس الأمن، فاستُبدل بسلسلة من الرجال الهادئين، بعضهم محبوب وبعضهم لا.
 James Traub دُعيت الأسبوع الماضي لأتحاور في الأمم المتحدة مع مجموعة من الطلاب من كلية كولومبيا للشؤون العامة الدولية، فاستهللت حديثي بالقول: "لنتحدث عن البابا الجديد".

جلس الكاردينال خورخي ماريو برغوليو لتوه على كرسي القديس بطرس ليصبح البابا فرانسيس، وأشرتُ إلى أن البابا والأمين العام للأمم المتحدة هما النسخة العلمانية والدينية لمنصب واحد، إلا أن طريقة اختيارهما تختلف كثيراً. نتيجة لذلك، يحظى الكاثوليك بالبابا فرانسيس الأول، في حين يحصل العالم على بان كي مون. صحيح أن فرانسيس قد يخيب أملنا لاحقاً، لكنه يبدو راهناً ما تحتاج إليه الكنيسة بالتحديد، إلا أن اختيار بان كي مون كان مخيباً للآمال منذ البداية.

منذ ذلك الحين، بدأت أفكر: هل هذه على الأرجح إحدى المشاكل القليلة في العالم التي قد تنجح الولايات المتحدة في الحد منها أو ربما حلها؟

لنبدأ بطرحي أن هذين المنصبين صورة أحدهما عن الآخر. يُطلق على الأمين العام للأمم المتحدة أحياناً "البابا العلماني" لأن هذا المنصب يتيح له، أو بالأحرى يفرض عليه، التحدث باسم كل الرجال والنساء، فالعالم رعيته. وعلى غرار البابا، لا يتمتع بأدوات النفوذ المعتادة، إلا أنه يملك سلطة أخلاقية كبيرة (إذا كان يتحلى بالمهارات اللازمة لاستعمالها). وكما البابا، على الأمين العام أن يكون دبلوماسياً ماهراً، فضلاً عن تأديته دور المدير التنفيذي لبيروقراطية بالغة التشرذم. لا شك أننا نادراً ما نرى شخصاً واحداً يتمتع بكل هذه المهارات؛ لذلك يُضطر صانعو القرار إلى تحديد أي من هذه الصفات يُعتبر الأهم.

صحيح أن هذين المنصبَين متشابهان، إلا أن المؤسستين مختلفتان كل الاختلاف، فالفاتيكان دولة ذات سيادة، وملكية غير وراثية يختار فيها الأمراء الملك، ولا شك أن لكل كاردينال وجهة نظر خاصة بشأن صفات البابا الجيد، إلا أنهم يريدون كلهم بابا جيداً. أما الأمم المتحدة، فهي منظمة تضم مجموعة من الدول ذات السيادة التي تختار شخصاً لا ليحكمها، بل ليسهّل أعمالها الجماعية. تتولى الجمعية العام للأمم المتحدة رسمياً تعيين الأمين العام بتوصية من مجلس الأمن، لكن الخيار يعود فعلياً إلى الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، فتستطيع هذه الدول الخمس اللجوء إلى حق النقض (الفيتو) لرفض أي مرشح. وترغب الدول الأقوى في أمين عام يدرك تماماً أنه يخدم مصالحها أولاً وأخيراً. لذلك لا تختار هذه الدول الرجل الأكثر كفاءة لهذا المنصب، بل الرجل الذي يُستبعد أن يعيق طريقها.

لا شك أن الباباوات المحافظين يختارون كرادلة محافظين، الذين يعيّنون بدورهم باباوات محافظين (يبدو الوضع كما لو أن المحكمة العليا الأميركية تنتخب رئيس الولايات المتحدة).

يبدو فرانسيس راهناً بابا ناجحاً، فقد أذهل الكاثوليك وغير المؤمنين على حد سواء بتواضعه، وفكاهته الرقيقة، وقدرته على التحدث من القلب وإلى القلب مباشرة.

نستطيع أن نجزم أنه ما من أمين عام اختير لسبب مماثل، كان الأمين العام الأول، تريغفي لي، عديم الكفاءة بكل بساطة، وكان داغ همرشولد، المحامي السويدي الذي تلاه، شخصية مغمورة اعتُقد خطأ أنه بيروقراطي حذر، فتبيّن أنه عملاق استقطب انتباه العالم، ما أثار سخط كل أعضاء مجلس الأمن، فاستُبدل بسلسلة من الرجال الهادئين، بعضهم محبوب وبعضهم لا. وفي عام 1992، استلم هذا المنصب بطرس غالي، الذي اعتُبر مناهضاً للولايات المتحدة، بغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أو لا، لكن واشنطن استبدلته بعد أربع سنوات بدبلوماسي موالٍ لها يُعتمد عليه، كوفي أنان، بيروقراطي صنع لنفسه مسيرة طويلة في الأمم المتحدة، لكن أنان أيضاً فاجأ الجميع، فقد نادى بضرورة الحفاظ على حقوق الإنسان، ما أشعل غضب حكام العالم الثالث المستبدين واستفز اليسار المناهض للغرب، وقد بذل أنان قصارى جهده ليروج لأفكار التدخل الإنساني و"مسؤولية الحماية".

عام 2006، اختارت الصين والولايات المتحدة كلتاهما خلف أنان خلال عهد جورج بوش الابن، الذي لم يكن على وفاق من الأمم المتحدة، فقد أدركت هاتان الدولتان أنهما تستطيعان الاتفاق على بان كي مون باعتباره التجسيد البشري للقاسم المشترك الأدنى.

يبدو بان أشبه بسكرتير لا أمين عام، كما يردد كثيرون في مقر الأمم المتحدة أثناء وجهودهم في منتجع "ترتل باي" الفخم. بذل هذا الأمين العام جهوداً حثيثة لإصلاح فريقه العنيد، ولكن خلال عهده، تراجعت الأمم المتحدة بحد ذاتها إلى الظل، ويعود ذلك إلى بعض الأسباب البنيوية: بات النموذج التقليدي للكثير مما تقوم به الأمم المتحدة، بما في ذلك حفظ السلام وتعزيز التنمية، بالياً ويحتاج إلى إعادة صوغ. كذلك قام لاعبون آخرون، مثل المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإقليمية والدول الناشئة، بالاستيلاء على جزء من دور الأمم المتحدة في مسائل حفظ السلام والدبلوماسية. لذلك صار على الأمين العام الجديد التأمل من جديد في مكانة هذه المنظمة في القرن الحادي والعشرين، ولكن لا أحد سيصغي إن لم يتحلَّ الأمين العام ببعض خصال همرشولد وقدرته على جذب الاهتمام العام.

عندما تنتهي ولاية بان نحو أواخر عام 2016، أقترح أن يجتمع كل سفراء الأمم المتحدة المئة والأربعة والتسعين في الجمعية العامة ويستمروا في التشاور إلى أن يتصاعد الدخان الأبيض، ولكن لا شك أن القوى العظمى، خصوصاً الولايات المتحدة، ستتخلى عن الأمم المتحدة، إذا لم يؤخذ قرارها في الاعتبار في مسائل عدة، ولاسيما اختيار أمين عام هذه المنظمة. إلا أن الولايات المتحدة، التي تقود هذه العملية أكثر من أي دولة أخرى تتمتع بحق النقض، قد تبحث ولو لمرة واحدة عن شخص يتحلى بالصفات الضرورية للاضطلاع بهذه المهمة بشكل أفضل.

سيكون هذا أحد آخر قرارات باراك أوباما، الرئيس الأميركي الذي ضمّن استراتيجيته في مجال الأمن القومي التزاماً "بتركيز سعي الولايات المتحدة على تقوية المؤسسات الدولية وتعزيز العمل الجماعي الذي يخدم المصالح المشتركة...". وخلال سنواته الأولى في سدة الرئاسة، جعل أوباما الأمم المتحدة محور أجندته للحد من انتشار الأسلحة النووية ومقاربته من القضية الإيرانية. ولكن منذ ذلك الحين، يبدو أنه فقَدَ اهتمامه أو ربما فقَدَ الأمل بالتغيير، ويعود ذلك على الأرجح إلى عناد روسيا أكثر منه إلى عدم كفاءة بان، وما من أمين عام جديد يستطيع حل هذه المشكلة.

في وقت لاحق من هذه السنة، ستصبح سفيرة أوباما إلى الأمم المتحدة، سوزان رايس، مستشارته في مجال الأمن القومي، ومن المتوقع أن تحل محلها سامانثا باور، التي تُعتبر مسؤولة جزئياً عن ثقة أوباما بالأمم المتحدة (وبمسؤولية الحماية)، وإذا كان أوباما يرغب حقاً في تقوية المؤسسات الدولية، فستكون كل الأوضاع مؤاتية. يستطيع أوباما، وباور، ورايس، ووزير الخارجية الأميركي جون كيري اختيار شخص يملك الصوت والرؤية المناسبَين ليجدد هذه المؤسسة ويعيد إليها دورها، هذا إن أرادوا ذلك.

كما تجري العادة، يأتي دور أوروبا بعد بان، وبما أن آخر أوروبي تبوأ هذا المنصب كان كورت فالدهايم، لا شك أن هذه المنطقة ترغب في المشاركة. لا أحد يؤمن بدور الأمم المتحدة بقدر الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية. ويوضح ريتشارد غوان، خبير في شؤون الأمم المتحدة في مركز التعاون الدولي: "يجب أن تُعلِم رايس، وكيري، وباور الاتحاد الأوروبي أنهم يبحثون عن مرشّح كفء لإدارة الأمم المتحدة. ومن الضروري أن يُرسلوا هذه الإشارة قريباً، وإلا سيحاول عدد من السياسيين الأوروبيين المسنين الترشح، في حين ستركز الشخصيات الأوروبية الأكثر كفاءة على عملها في الاتحاد الأوروبي. وهنا ينشأ سؤال مهم: هل منصب الأمين العام للأمم المتحدة أفضل من منصب المفوض الأوروبي للشؤون البحرية في الاتحاد الأوروبي؟".

تملك الأمم المتحدة راهناً مفوضاً للشؤون البحرية بدل أمين عام، لذلك يجب أن يكون الأمين العام التالي "بابا علمانياً".

back to top