الإدارة الأميركية وأوجاع الضياع في صحراء العرب!
المؤسسات التي قد تؤمّن لمصر تمويلاً إضافياً لن تحرك ساكناً قبل أن توقع مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الذي يُطالب بأن تجري مصر أولاً بعض الإصلاحات التي تبدو مؤلمةً سياسياً لأنها تؤدي إلى اقتطاع الإعانات التي تخفض أسعار الطاقة والغذاء.
تحدثتُ في الأسابيع الأخيرة إلى مسؤولين في إدارة أوباما عمّا يظنون أنهم يحققونه في مصر. حتى مع تردد أوباما في دفع الولايات المتحدة إلى النار المتأججة في سورية، يتهمه النقاد بتدليل دكتاتور في القاهرة. فينتقد عدد من الجمهوريين في الكونغرس، أمثال ماركو روبيو، الإدارة بتقديم شيك بقيمة 250 مليون دولار إلى نظام محمد مرسي الإسلامي المستبد، لكن المحللين الذين لا يملكون أي مصالح شخصية، مثل مايكل وليد حنا من مؤسسة "القرن" (Century Foundation) أو بيتر جول من مركز التقدم الأميركي، فيدلون بتصريحات أكثر اعتدالاً عن أن الإدارة الأميركية كافأت مرسي على تعاونه بشأن أهداف الأمن القومي الأميركية، تماماً كما فعلت الإدارات السابقة مع حسني مبارك.هل هذا منصف؟ لا بد من الإشادة بأوباما لقبوله علانية باختيار الشعب المصري حكومة إسلامية بعد سنوات طويلة اعتبرت خلالها واشنطن الشراكة مع الإسلاميين خطوة مستحيلة. ولكن من الضروري الإشارة أيضاً إلى أن رد فعل الإدارة الأميركية لم يكن على المستوى المطلوب، حين حصّن مرسي نفسه ضد الإشراف القضائي، ومرر عنوةً دستوراً غير قانوني، وازدرى بخصومه. ولربما شعر مرسي أن هذا الصمت الاستراتيجي أعطاه الضوء الأخضر ليواصل السير في درب نظام الحكم المستبد الذي يتمتع بالأكثرية، مع أن إثبات ذلك مستحيل. لم يشأ أوباما أن يهز سفينة مرسي الهشة جداً. يقرّ مسؤول أميركي ترك إدارة أوباما مع انتهاء الولاية الأولى: "لا نرفع صوتنا". ويضيف: "تركّز الكثير من الاهتمام على دعم أعضاء الطرف الآخر".لنفترض أن أوباما أخطأ باعتماده الحذر في التعامل مع مصر، لكن هذه طبيعته، والحذر أفضل من البديل الذي اختبرناه خلال عهد بوش. اعتمد النمط العام، الذي اتبعه أوباما خلال الربيع العربي، على فعل الصواب إنما في وقت متأخر قليلاً. وماذا عن تصرفه اليوم؟ ما نظرة مسؤولي الإدارة إلى مرسي؟ وكيف يستطيعون، في رأيهم، التأثير في تصرفه؟ يظنون باختصار أن مرسي والمحيطين به يعانون مشاكل جمة وأنهم قلقون حيال عدم كفاءتهم أكثر منه حيال عدم تسامحهم.تشبه نظرة الإدارة إلى المعارضة، على الأرجح، نظرة الجميع إليها: فهي معارضة عديمة الكفاءة، وكسولة، وغير منظمة، وتحب الانزواء في القاهرة على قيادة الحملات في الريف. عندما زار وزير الخارجية الأميركي جون كيري القاهرة الأسبوع الماضي، تحدث إلى شخصيات بارزة، مثل محمد البرادعي وعمرو موسى، فحضهم على ألا يقاطعوا الانتخابات البرلمانية المقبلة، كما يخططون راهناً، خصوصاً أن تراجع شعبية مرسي يتيح لخصومه تحقيق مكاسب كبيرة، مع أن الكثير من هذه المكاسب سيصب على الأرجح في مصلحة السلفيين لا العلمانيين. لكن المفرح في هذا الصدد أن الانتخابات قد تؤجَّل لثلاثة أو أربعة أشهر، ما يمنح المعارضة وقتاً كافياً لإعادة النظر في قرار بالغ السوء. أخيراً، تشعر إدارة أوباما، على ما يبدو، براحة أكبر في تعاملها مع الجيش المصري، مقارنة بأي مؤسسة أخرى اليوم. يقوم منطقها هذا على أن الجيش أطاح بمبارك، أعطى السلطة إلى رئيس منتخب، وساهم منذ ذلك الحين في دعمه. وعن هذه المسألة يقول المسؤول الذي أشرنا إليه أعلاه: "أعربوا عن ثبات في عملهم مع الإسرائيليين، فضلاً عن معالجتهم مسألة الحدود". لذلك لا تسعى الإدارة الأميركية إلى إجراء اقتطاعات كبيرة في المساعدة العسكرية المصرية أو إعادة برمجتها جذرياً، كما يعلن نقاد كثر. فلم يأتِ كيري على ذكر أمر مماثل في القاهرة.باختصار، يبدو أوباما قلقاً بشأن تفكك مصر أكثر من خوفه من تراجعها إلى نظام مستبد، فكمية النقد الأجنبي التي تملكها الخزانة المصرية اليوم لا تكفيها إلا لثلاثة أشهر، خصوصاً أنها لا تحصل على المال من قطر ودول أخرى. لذلك يعرض صندوق النقد الدولي على القاهرة قرضاً بقيمة 4.8 مليارات دولار يشكّل فرصتها الوحيدة لتفادي الإفلاس. أما المؤسسات الأخرى التي قد تؤمّن لمصر تمويلاً إضافياً، مثل البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقية، فلن تحرك ساكناً قبل أن توقع مصر اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي. لكن هذا الأخير يُطالب بأن تجري مصر أولاً بعض الإصلاحات التي تبدو مؤلمةً سياسياً لأنها تؤدي إلى اقتطاع الإعانات التي تخفض أسعار الطاقة والغذاء. لذلك كان رد مرسي على هذا الطلب أن على واشنطن أن تدعو صندوق النقد الدولي إلى منح مصر المال. يستند خوف واشنطن إلى أن قيادة مصر المتعثرة تسير بالبلد نحو حافة الهاوية. يشمل السيناريو الأسوأ عجز مصر عن تسديد فواتيرها، ما سيدفع بنصف سكان القاهرة إلى ميدان التحرير. وقد يشعر الجيش عندئذٍ أنه مضطر مرة أخرى إلى الإمساك بزمام الأمور. هذه المشكلة التي تواجهها مصر اليوم. لذلك شدد كيري علانية في القاهرة على ضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن القرض. أما في السر، فانتقد (أو بالأحرى وبّخ) مرسي وحضه على اتخاذ خيارات سياسية قوية وأن يبدأ بالتعاون مع المعارضة، كذلك قدّم له كيري الحوافز: دفعة أولى بقيمة 250 مليون دولار من المليار دولار التي وعد أوباما بمنحها لمصر، فضلاً عن 300 مليون دولار إضافية ما إن يوقع مرسي اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي.إذن، تشمل الوسائل التي اعتمدتها إدارة أوباما حوافز مالية متواضعة، وانتقادات وراء الأبواب الموصدة، وتشجيعا علنيا، مع غياب أي عقوبات. ولكن هل يُعتبر هذا حقاً رداً كافياً لأزمة بهذا الحجم تصيب القلب التاريخي للعالم العربي؟ من الواضح أن أول ما يجب أن يُقال: هذا أفضل مما يفكر فيه عباقرة السياسة الخارجية الجمهوريون، أمثال ماركو روبيو، لأن حجب المساعدة الاقتصادية عن مصر إلى أن تجري التغييرات السياسية التي يريدها سيؤدي لا محالة إلى مأساة تجعل من التسوية السياسية أكثر هموم مصر تفاهةً. ونظراً إلى الحظ العاثر الذي يواجهه مرسي (فضلاً عن ردود الفعل المحتملة تجاه الانتقاد العلني للولايات المتحدة)، قد يكون الحض في السرّ أكثر فاعلية في الوقت الراهن من الانتقاد العلني.ترتبط المشكلة الرئيسة بالمال. يشير ولي نصر في كتابه الأخير Dispensable Nation إلى أن الولايات المتحدة قدّمت مساعدة واسعة النطاق عندما اجتاحت أمواج الديمقراطية أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، إلا أنها مساعدتها جاءت ضئيلة في العالم العربي، خصوصاً مصر. ولا شك أنه محق، فحتى المليار دولار التي وعد بها أوباما تتألف بمعظمها من ضمانات قروض. صحيح أن ليبيا وتونس لا تحتاجان إلى مساعدة مالية كبيرة، إلا أن الوضع يختلف في مصر. لذلك بدأت الإدارة الأميركية العمل على خطة متعددة الأطراف هدفها تعزيز الاستثمار الخاص في الدول العربية التي تسعى إلى تبني الديمقراطية. وهذا بالتأكيد حافز إضافي يدفع مرسي إلى توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولكن ما من خطط مارشال أخرى في القريب المنظور لأن الموارد نضبت.أوافق زميلي مارك لينش رأيه عموماً، فقد ذكر أن أوباما قام بكل ما يستطيع فعله في مصر، لكن هذا الواقع يثير مسألة حدود ما يمكننا فعله. تحتاج الديمقراطيات العربية الهشة والدول الأخرى في العالم العربي التي تسعى إلى تبني الديمقراطية إلى مساعدة أكثر إلحاحاً، مقارنة ببولندا والمجر، لكن مساعدتها أكثر صعوبة أيضاً، فلا تستطيع إدارة أوباما القيام بالكثير لحمل المعارضة السياسية المصرية على الانخراط في السياسات الديمقراطية، كذلك لا يمكنها جعل مرسي يدرك أن الفوز بالأكثرية البرلمانية لا يمنحه صلاحية التحكم بخصومه بأسلوب مستبد. فلن يتوصل المصريون إلى خلاصات مماثلة إلا من خلال التجارب المؤلمة، كذلك ما عادت الولايات المتحدة تملك الزخم اللازم. فتحجم واشنطن عن التمويل، وتكتفي بالمساعدة في الحصول على الهبات، ومن هذا المنطلق، يصيب مَن يقول إن الولايات المتحدة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي.يذكر نصر أن واشنطن تخلت عن العالم العربي أو حتى عن العالم أجمع، لكني أعتقد أن من العدل القول إن أوباما لا يستطيع عقد الصفقة الجيدة التي يريد، وأنه يسعى للحد من وطأة هذا الواقع، مقترحاً أن من الضروري السماح للعالم العربي برسم مصيره هو بنفسه. فهل هذا تشاؤم؟ ربما قليلاً، لكني أفضل أن أعتبره واقعاً.