الخلاص العربي من المأزق التعليمي

نشر في 19-06-2013
آخر تحديث 19-06-2013 | 00:01
 د. شاكر النابلسي -1-

يقول لنا بعض المؤرخين إن "حبر الأمة"، عبدالله بن عباس، نُصح بالرجوع إلى الشعر الجاهلي لفهم القرآن الكريم فهماً حديثاً، يحرر الوعي من مخاوفه اللاعقلانية.

ولكننا كنا سنفهم القرآن الكريم جيداً فيما لو درسنا تاريخ الأديان المقارن وسوسيولوجيا الأديان وعلم النفس والألسنية، فمثل هذه الدراسات لتراثنا يحرر وعينا من سلطة "الطاعة العمياء"، التي قادت إلى نشوء الجماعات الدينية المسلحة، وقادت مجموعات من الشباب الى تنفيذ فتوى إهدار الدماء، دون أدنى نقاش.

-2-

وعندما نتذكر وقائع محاكمة الإرهابي الذي قتل المفكر المصري فرج فوده تنفيذاً لفتوى الشيخ عمر عبدالرحمن، تصيبنا دهشة عظيمة.

فالقاضي سأل القاتل:

لماذا قتلته؟

أجاب القاتل:

لأنه علماني.

فسأله القاضي:

وما معنى علماني؟

أجابه:

لا أعرف.

وعندما سأل القاضي الكاتب الإسلامي المعروف الشيخ محمد الغزالي، الذي حضر المحاكمة كشاهد، عن عقاب قاتل فرج فوده، أجابه:

لا عقاب له، لأنه نفذ في القتيل حد الردة الذي تقاعس الإمام عن تنفيذه.

وعندئذ صرخ القاتل:

"الآن أموت، وضميري مرتاح".

-3-

فلو درس قاتل فرج فودة، في المدرسة والجامعة العلوم الحديثة كسوسيولوجيا الأديان، وعلم الأديان المقارن، وعلم الألسنية، وخلاف ذلك، لما قتل- ربما- فرج فودة تعصباً.

فالتعصب، هو الذي يحوّل الظاهرة التاريخية من حقيقة نسبية خاضعة لمتطلبات الزمان والمكان إلى حقيقة مطلقة، لا يرقى إليها الهمس. ودراسة العلوم السابقة هي التي تزيح اللثام عن أسرار الظاهرة التاريخية وألغازها، فلا تعود مستعصية على التحليل العقلاني، السوسيولوجي النفسي، اللغوي، أو الأنثروبولوجي، أو الفلسفي، وبالتالي عن النقاش البرهاني.

فالتعصب- كما لاحظ فيلسوف فرنسي معاصر- غير ممكن في المجالات التي يكون فيها البرهان ممكناً.

لذلك، لا وجود للتعصب في الرياضيات والفيزياء.

فالعلوم السابقة والمعارف الإنسانية تجعل الظاهرة التاريخية في متناول العقل، وقابلة للقراءات العلمية لتحليل خط تطورها، ووظائفها الاجتماعية، والنفسية، والثقافية. أما القراءة القديمة، فهي ليست عقيمة معرفياً فحسب، بل هي منتجة لليقين الأعمى، أيضاً.

-4-

إذن، نتيجة لرفض العقلانية في التحليل، يعتبر التشريع الوضعي مقدساً، والديمقراطية كفراً، وحقوق الإنسان ضلالاً مبيناً. وهذا هو فقه القرون الوسطى، لكنه لن يكون منطقياً، بل ربما لن يكون موجوداً أصلاً في مناهج التعليم التنويري الذي ندعو إليه، والمؤطر بالعلوم السابقة المذكورة.  فتاريخ الأديان المقارن- مثلاً- الذي نقترح تدريسه في الثانوي والجامعة، سيساعد الطالب على فهم تطور الظواهر التاريخية، وتلاقح المعتقدات وتناسلها من بعضها بعضا، حتى ليبدو كل منها كحلقة في سلسلة، منذ المعتقدات الأسطورية، فالوثنية، فالتوحيدية.

وفي إطار هذه الإضاءة التطورية التاريخية المقارنة لا تعود ظاهرة التاريخ طلسماً مغلقاً على الفهم، يسمح للمرتزقة وتجار التاريخ  الادعاء أن العقل قاصر أمام هذه الظاهرة. لا يستطيع تحليلها لأنها تتعالى على الفهم العقلي. ولا ينفع معها إلا الإيمان التقليدي، والتسليم الأعمى.

فنحن نعرف مثلاً، أن إمام دار الهجرة، (مالك بن أنس) تسلح بالحقيقة السوسيولوجية، فلم يرو في "الموطأ" غير 300 حديث نبوي شريف. ولم يعتمد منها إلا القليل لعلمه أن الفرق الإسلامية المتنافسة أو المتناحرة، وضعت الأحاديث لاستخداماتها الخاصة، لتغدو سلطة فوق المساءلة.

والإمام أبو حنيفة (صاحب فقه الرأي) أدرك هو الآخر، بحسه النقدي، هذه الحقيقة السوسيولوجية، فلم يعتمد في "مسنده" إلا بضعة أحاديث، معطياً الأولوية في استنباط الأحكام الفقهية للرأي والقياس.

لكن الإمام أحمد بن حنبل المتأخر عنهما، تناسى تلك الحقيقة، فملأ مسنده بـ55 ألف حديث نبوي شريف. وتم اعتمادها من قبل المتطرفين، لتكفير شرائح بكاملها من المجتمع، وما زال المتطرفون والحركات الظلامية، تتخذها مرجعاً لتكفير المجتمعات المعاصرة.

-5-

من الضروري والمفيد أن يصبح علم النفس في المناهج الدراسية، ليعلم التلميذ والطالب، أن الدين، يلبي حاجتين أساسيتين في النفس البشرية، هما الحاجة إلى الحماية الأبوية، والحاجة إلى الخلود. ويعلمه أن تجذر هاتين الحاجتين النفسيتين، جعل الدين متجذراً في النفسية الإنسانية.

فالله- سبحانه وتعالى- في اللاشعور الإنساني، هو رمز الأب الرؤوف الرحيم الحامي. والدين يساعد الإنسان على إعطاء حياته معنى بعد الموت. وبالتالي يجعل الموت، وأرزاء الحياة محتملة.

أما الفلسفة فهي بدورها تساعد الإنسان على إعطاء حياته معنى في الحياة بالتطابق مع القيم الإنسانية.

وبذا، فالدين، يعطي معنى للوجود، كما أن العلوم الإنسانية تعلم التلميذ والطالب الفكر النقدي؛ أي مساءلة المسلمات غير الرياضية عن إثبات شرعيتها أمام العقل.

* كاتب أردني

back to top