العقوبات على نظامي كوريا الشمالية وإيران لن تفلح!!
تفترض «العقوبات الذكية» أن من الممكن معاقبة الأغنياء من دون التأثير في الفقراء، وأن زوجات الحكام المستبدين لن يسافرن إلى الخارج للتسوق في متجر "هارودز". وتفترض أن التجارة تتحكم في السلوك السياسي، وأن ذلك سيكبح لجام الديكتاتوريات.
أجرت كوريا الشمالية اختبارا نووياً ثالثاً، متحدية بذلك الأمم المتحدة والولايات المتحدة واليابان، وحتى راعيتها الصين، حسبما يُقال. وضربت كوريا الشمالية بتحذير كل هذه الدول عرض الحائط في تعليق قاسٍ على العقوبات الاقتصادية الغربية.عقد مجلس الأمن في الأمم المتحدة اجتماعاً قبل أيام، وهددت واشنطن "بعواقب وخيمة"، عبارة باتت تُعتبر اليوم إشارة إلى "عقوبات أشدّ". لكن كل الأدلة المتوافر تؤكد أن هذه العقوبات لن تنجح في تحقيق الغاية المعلنة منها. فكل ما ستحققه هو مضاعفة إفقار الحكومة الكورية الشمالية لشعبها. لذلك تُعتبر العقوبات اليوم الأداة الأقل فاعلية في الدبلوماسية. رغم ذلك، مازلنا متمسكين بها. فما السبب؟يفترض مبدأ العقوبات أن كل الدول تتفاعل مع الضغوط الخارجية بالطريقة عينها كما الديمقراطيات الرأسمالية. كذلك يرتكز على فكرة أن النظام المتهور سيبدل رأيه ويعطي الأولوية للقضايا المالية مقابل تعريفه الخاص للمصالح القومية. كذلك تفترض "العقوبات الذكية" (العقوبات الغبية حقاً) أن من الممكن معاقبة الأغنياء من دون التأثير في الفقراء، وأن زوجات الحكام المستبدين لن يسافرن إلى الخارج للتسوق في متجر "هارودز". وتفترض أيضا أن التجارة تتحكم في السلوك السياسي، وأن هذا الأخير يكبح لجام الديكتاتوريات.تحظى العقوبات الاقتصادية بشعبية كبيرة بين السياسيين الغربيين. ولا يعود ذلك إلى تأثيراتها، بل إلى سببها: الرغبة في الوقوف على مسرح دولي والظهور بمظهر مَن "لا يفعل شيئاً". لا شك في أن العقوبات هي الحل الأقل كلفة بالنسبة إلى قادة التدخل الدولي العصريين. فتبدو العقوبات قاسية، وتُعتبر وسيلة قصاص ملائمة لا تحمّل مَن يفرضونها أي مشقة.بعد كوريا الشمالية، تُشكّل إيران الهدف الأبرز للعقوبات. لكن كل الأدلة تكشف أن العقوبات القاسية لم تنجح في الحد من تقدّم برنامج إيران النووي، بل يبدو أنها حققت نتائج عكسية، إذ دفعت بالإيرانيين إلى جنون الارتياب. لاشك في أن العقوبات أثرت "سلبا" في إيران، ما يفرح داعميها. فقد أدت إلى التضخم وانهيار العملة الإيرانية، الريال. كذلك آذت المواطنين العاديين وعززت شعور الكره تجاه الغرب و"الشيطان الأكبر"، الولايات المتحدة. كذلك قضت الاغتيالات وأسلحة عالم الفضاء الافتراضي على بعض العلماء وعطلت عدداً من أجهزة الكمبيوتر.لكن ما لم تحققه العقوبات إضعاف قوة آيات الله وجيشهم الخاص، "الحرس الثوري". ينعم هؤلاء، على ما يبدو، بحالة من الطمأنينة، في حين أن السياسيين المدنيين المعتدلين (نسبياً) منهمكون بالتخاصم واعتقال بعضهم أولاد بعض. كذلك نلاحظ أن برنامج إيران النووي يتقدم بمعزل عن كل ما حوله، حتى عناصر دولته الخاصة. حاول مقال نشرته مجلة Economist السنة الماضية تخيل القائد الإيراني الأعلى، آية الله خامنئي، وهو يفكر في موقف الأمم الغربية المهووس من بلده. فظن أن الدول الغربية أماكن غير مستقرة ولا يُعتمد عليها، فضلاً عن أنها خطيرة، مع أنها ليست كلها مجنونة. ولكن بما أنه لا يستطيع أن يجزم، فكر: "كنت سأشعر بأمان أكبر لو أننا انتهينا من تطوير القنبلة". دفع خوف مماثل كوبا، التي عانت العقوبات، إلى قبول الصواريخ الروسية في ستينيات القرن الماضي. كذلك حمل العراق وليبيا، اللذين كانا يرزحان أيضا تحت أعباء العقوبات، إلى بناء أسلحة دمار شامل في تسعينيات القرن الماضي.لا توقف العقوبات التطورات السلبية الخطيرة. على العكس، ترسخ أنظمة الحكام المستبدين، وتبني اقتصادات الحصار، وتُضعف الطبقة الوسطى في المدن التي تنبثق منها معارضة لتقف في وجه الأنظمة الظالمة. كما ذكر خامنئي في خطاب أدلى به قبل سنة، كانت العقوبات "مؤلمة... إلا أنها جعلتنا نعتمد أكثر على أنفسنا". إذن، يبدو فرض العقوبات على نظام ما أشبه بمنحه إكسيراً: تأملوا كاسترو، والقذافي، وآيات الله، والمجموعة الحاكمة في بورما، وأفغانستان، وكوريا الشمالية. وإن سقطت بعض الأنظمة التي عانت من العقوبات، فهذا لا يشكل دليلاً على أن العقوبات فاعلة، فهي تحتاج غالبا إلى وقت أطول وتتطلب في النهاية حرباً "لتنجح".لا تتناول أبحاث كثيرة هذا الموضوع لأن العقوبات عقيدة دبلوماسية، لا علم. ولكن في مناظرة نُشرت عام 1998 في مجلة "الأمن الدولي"، لم يواجه الأكاديمي روبرت باب من شيكاغو معارضة تُذكر حين أكد أن العقوبات لم تحقق نتائج مقبولة إلا في خمس من الحالات المئة والخمس عشرة التي فُرضت فيها. لكنها أدت بمعظمها إلى "كلفة بشرية كبيرة تكبدتها شعوب الدول المستهدَفة، بمن فيهم مدنيون أبرياء لا يملكون أي تأثير في سلوك الحكومة". ولا شك في أنها دعوات صريحة إلى الحرب.عندما كنت أغطي أخبار جنوب إفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، زاد اقتناعي بأن العقوبات تعزز إبدال الواردات وتعود بالفائدة على اقتصاد طبقة الأفريكان (الجنوب إفريقيين البيض)، ما أضاف إلى حياة نظام الفصل العنصري عقداً من الزمن على الأرجح. على نحو مماثل، أطالت هذه العقوبات حياة نظام إيان سميث في روديسيا. بالإضافة إلى ذلك، جعلت العقوبات معمر القذافي في ليبيا فاحش الثراء إلى درجة بات معها ينفق المال على كلية الاقتصاد في لندن. كذلك جعلت صدام حسين أحد أغنى عشرة أشخاص في العالم. وأدت العقوبات إلى ابتكار طرق لإفشالها، التي تحوّلت، كما المخدرات، إلى قطاع إجرامي عالمي ولد برمته من غباء الدبلوماسية الغربية.قبل سنة، دافع مكتب الخارجية البريطاني عن جولة جديدة من العقوبات ضد إيران، متحججا بأنها قد "تسرّع انهيار الاقتصاد الإيراني وتعمق الانقسامات داخل النظام، على أمل أن تعتبر الأصوات الأكثر تعقلاً ثمن السعي وراء أسلحة نووية عاليا جداً". لكن الاقتصادات لا تنهار، تماما كما أن الفقر لا يبدل الحكومات. حتى اليونان، التي تُعدّ اليوم الدولة الخاضعة لأكبر عدد من "العقوبات" في أوروبا، لم تنهر. تزداد هذه الدول فقراً فحسب. أما "الأصوات الأكثر تعقلا"، فتُرسل إلى المنفى، تختبئ، أو تُسجَن، وكل ذلك بفضل العقوبات.إيران أمة فخورة تعدّ نحو 80 مليون نسمة معظمهم من المسلمين، وهي واحدة من دول آسيوية وإفريقية كثيرة تتأرجح بين الثيوقراطية والديمقراطية، التقاليد والحداثة. لا شك في أن هذه صراعات مؤلمة بين الشعوب وداخل كل منها. ولم يكن للغرب أي مساهمة في هذه الصراعات غير مفاقمة العدائية والعنف. فتَحْتَ عباءة "محاربة الإرهاب"، شن حملة قاسية شعواء تذكر بالحملات الصليبية. لا شك في أننا لا نرغب في انتشار الأسلحة النووية. فقد حاولت روسيا منع الصين من تطويرها. وحاولت الصين منع كوريا الشمالية. وسعى الغرب لوقف الهند وباكستان، متساهلاً بخبث مع إسرائيل وإعادة بناء ترسانتَي فرنسا وبريطانيا. لكن كل هذه الضغوط لم تحدث أي فارق.إذا كانت إيران ترغب حقّا في تطوير سلاح نووي، فستحقق هدفها، خصوصاً إذا هُددت بقصاص مرير إن أقدمت على خطوة مماثلة. فمنذ انتخابات عام 2009 غير النزيهة، لم تُضعف العقوبات والتهديدات تصميم النظام على المضي قدماً، بل أضعفت معارضته. وإن كان من دولة لا ترضخ للتهديد الدبلوماسي، فهي بالتأكيد إيران. وإن كان من دولة تتجاوب مع التقرب الإيجابي والتعاملات التجارية والحكومية والثقافية، فهي بالتأكيد إيران. ولكن لِمَ يريد الغرب تحويل إيران إلى دولة كورية شمالية أخرى؟ هذا أمر يفوق فهمنا.