نزهة في الخريف الماضي

نشر في 20-03-2013
آخر تحديث 20-03-2013 | 00:01
 زاهر الغافري عادة ما أحب الخريف الاسكندنافي، إنه على الأرجح خريف مشوش. وهو ليس مستعجلاً على أي حال. بل يمشي على مهل، كأنما يأتي من جهة غير متوقعة، كأنما لا يريدنا أن ندخل في العادة، لذا تبدو الأشجار ذاهلة، والسماء الزرقاء سعيدة بقدرها، ولا يهب إلا نسيم خفيف في آخر الليل أو في الساعات الأولى للصباح. خريف يلعب بنا بذائقة تكاد تكون مجهولة، كأنما يطل علينا ليقول لنا:

تذوقوا هذا الجمال الملتهب، تيهوا في الطبيعة، توّجوا أجسادكم بما تبقى من أنفاس الصيف، هذه الخيوط الذهبية القليلة سترفع عنكم الوحشة.

وقت الكآبة، الذي يلف الروح، لم يحن بعد. هناك متسع أذن لمتع صغيرة، لتأمل بحيرة ما، للتنزه في الغابة، لإلقاء نظرة على الصبايا من الشرفات المزهرة. هذا خريف لا يذكّر كثيراً بصور الخريف الموحش التي ترد في قصائد جورج تراكل إنه بالأحرى خريف الهايكو.

صباح ثمل

طير يغرد

كي يصحيه.

لا شيء أجمل من استعادة بعض صور قصائد الهايكو، تلك اللقى اليتيمة، النقية، المشغولة بنفَسٍ تأملي وذات صامتة تتأمل الأشياء.

سيقول أحدهم إنه غناء خفيف، أجل غناء صامت يعيد الكلام إلى جذوره.

أنشودة قادمة من الينابيع الخفيفة.

القمر الخريفي

تشردتُ طوال الليل

حول البحيرة.

هكذا كتب باشو (1644 – 1694) أشهر راهب ياباني وأكثرهم أصالة في شعر الهايكو.

ولأنك تتنزه قليلا بين الحدائق أو في الغابة، ستسمع في أذنك وشوشة باشو أيضاً.

هذا الدرب

لا أحد يطرقه

إلا المغيب الخريفي.

ليست اللغة هي التي تتكلم، بل روحك. كلا الهايكو شعر لا يُفسّر.

اتبع خطواتك إلى ضفة النهر، أو قفْ قليلاً في الساحة الصغيرة الخالية وانظرْ

مطرٌ خريفي

الشارع ينتظر

عابراً.

الهايكو فن روحي، (قصيدة تتألف من ثلاثة أسطر، خمسة، سبعة، وخمس وحدات صوتية). فن التأمل والحدس، والإصغاء إلى الفصول والطبيعة. ومضة من الحنين، حقل من الفكاهة، جوهر مقطر من المحبة والحرية والصمت.

حسناً ها أنت جالس في وسط الحديقة العالية "بيورس بارك"، لا تفكر بالزمن، لست غاضباً من شيء، ولا تريد شيئاً من العالم وفجأةً:  

على غصنٍ عارٍ

حط غراب

مساء خريفي.

ينبغي ألا ترتبك، ألا تنظر إلى الساعة، اترك لنفسك، حرية التأمل، تجرد من الهواجس، انزع القناع من على وجهك، لا تحقد على أحد، لا تكن عاطفياً أكثر من اللازم، عليك أن تقطف اللحظة بقوة الصمت فحسب.

ورقة صهباء

سقطتْ

صمت.

ماذا ستقول للسنديانة المعمرة وأنت تتجول وحيداً، ورأسك إلى الأرض؟ على الأرجح لن تقول شيئاً، بل ستسمع صوتاً من الأرض يقول:

العشب الصبور

يتلقى

الأوراق الخريفية.

هناك رؤى شعرية تتصادم مع العالم، بعض هذه الرؤى قادمة من ذات حقيقية، متألمة ومحتدمة، وبعضها قادم من ذات لها علاقة مزيفة بالعالم، (وهذه يمكن كشفها بسهولة).

الهايكو لا علاقة له بهذا كله.

كيف تعبر بوابة الحنان، كيف تنظر إلى النباتات والحشرات والأزهار.

بالهايكو يمكن أيضاً إضاءة نافذة الغفران.

هذا ما كان ريوكان يفعله وهو أحد معلمي الهايكو اليابانيين الكبار في القرن الثامن عشر. وقد سميّ في ما بعد بشاعر الحنان.

back to top