أسطورة العجوز... والمرأة اللعوب

نشر في 12-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 12-07-2013 | 00:01
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. ورغم ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
يا له من يوم كئيب على نساء حي الغورية!

سألن جميعاً عن اسم المرأة الشقراء التي صارت جارة لهن وسكنت الشقة الخالية... سألن عن أصلها وفصلها وعمرها... ومن أين أتت؟ لكن لا أحد يعلم عنها شيئاً... ربما أرادت «لولا» أن تظل امرأة مجهولة، خصوصاً بالنسبة إلى النساء، أما الرجال فيكفيهم تفاصيل جمالها... وحكاية أنوثتها... وقصة فتنتها، ولغز السحر الذي يشعّ من عينيها الواسعتين الملونتين!.

نساء الحي كان معهن حق... نجحت السيدة «لولا» في أن تتزعم انقلاباً خطيراً في الشارع الذي تسكنه والشوارع المجاورة... كلما خرجت إلى «البلكونة» بملابسها الصيفية الخفيفة والمتحررة ازدحم المقهى المواجه لبيتها بزبائن من كل حدب وصوب... تزايد الطلب على المشروبات والشيشة وصار المقهى الذي كان يغلق أبوابه في منتصف الليل، يظل ساهراً حتى تغادر «لولا» بلكونتها وتدخل حجرتها وهي تتثاءب فتزداد فتنة، وتثني ذراعيها خلف رأسها فتتحول أنوثتها إلى عصا سحرية تجذب إليها العيون وتشرئب الأعناق!

حديث الصباح والمساء في الحي أصبح عنوانه الرئيس من كلمة واحدة «لولا»... يريد الجميع أن يعرفوا من هي... إنها نوع غريب من النساء وليست من طينة أو عجينة سكان الأحياء الشعبية... شقراء مرمرية الجسد... ذهبية الشعر... ممشوقة القوام... أنيقة المظهر... وحيدة بلا زوج أو أولاد رغم  أنها في عز الشباب... لا يزورها أحد ولا تختلط بأحد... الناس يرونها إما وهي في الشارع تتسوق حاجياتها... أو تطالع صحيفة أو تقرأ كتاباً في بلكونتها... أو تنشر غسيلاً فتسافر إليها العيون من كل الاتجاهات! إذا مشت أفسحوا لها الطريق وإذا تكلمت سرحوا في جمال صوتها! وكان طبيعياً أن تصبح نساء الحي في حالة تربص وتحفز وخوف على أزواجهن... أطلقن عليها الإشاعات... ولفقن لها الاتهامات... امرأة حاولت أن تفتك بها لتضربها، لكن «لولا» فوتت عليها الفرصة بذكاء. وأخرى أشاعت عنها أنها مريضة بالإيدز وحذرها الأطباء من الاختلاط بالناس... ولم تهتم «لولا»... وثالثة فبركت قصصاً وحكايات ادعت أنها حصلت عليها بطريقتها الخاصة... هدف النساء كان واحداً هو تشويه السيدة «لولا» وإثبات أنها امرأة سيئة السمعة... لكن الرجال تطوعوا للدفاع عنها ورفضوا الكيد لها أو العدوان عليها أو إيقاع الظلم بها... والمثير أن النساء لم يكن تحت أيديهن دليل واحد على إدانة «لولا»... والرجال أيضاً لم يمتلك أحدهم دليلاً واحداً على أنها بريئة!.. لكنها الفتنة التي أصابت الحي الشعبي العريق!...

العجوز الثري

الوحيد الذي لم يهتم بالسيدة «لولا» كان فؤاد أفندي صاحب السوبر ماركت الكبير... رجل عجوز في الستين من عمره... ثري... مهذب... طيب القلب... محبوب من الجميع... يرفض أن تلوك الألسنة سيرة أحد، لهذا كان يغضب من حقد النساء على الجارة الشقراء وحرب الشائعات التي أطلقنها وأشعلن شرارتها ضدها... وكانت «لولا» تعجبه بثقتها بنفسها وعدم الرد على عدوّاتها وإنما تركت جمالها الصاعق يزيد من حسرتهن!

ذات يوم قررت «لولا» أن تدخل السوبر ماركت للمرة الأولى رغم أنها تسكن بالقرب منه منذ عامين... فاستقبلها فؤاد أفندي بحفاوة الأب تجاه ابنته... استراحت إليه وتعمدت أن تطيل الحديث معه والاستماع إلى نصائحه، ثم فاجأته بدعوة صريحة لزيارتها واحتساء القهوة معها لتحكي له حكايتها... تردد فؤاد أفندي في الموافقة... لكن «لولا» همست له بأنها مقطوعة من شجرة ولا أحد لها في هذه الدنيا يسأل عنها أو يهتم بها... ولولا بعض المال الذي ورثته عن أبيها لكانت في خبر كان!.. رق قلب فؤاد أفندي لها... وهمس لها بحماس:

* وما له يابنتي... أنا زي أبوك... والدنيا بخير لسه!.

سر الشقراء

تكررت زيارة العجوز للشقراء الشابة من دون أن يجرؤ أحد على الشك بأخلاق الرجل الذي كان فوق مستوى الشبهات... خصوصاً أن «لولا» كانت تستضيفه في «البلكونة» على مرأى وسمع الجميع الذين حسدوا العجوز على حظه! تمضي الأيام والأسابيع... العجوز يزداد ارتباطاً بالشقراء الشابة التي أباحت له بسرها... ومنحته شرف أن يجفف لها دموعها... قالت له:

** كنت أعمل سكرتيرة بإحدى الشركات الاستثمارية... لم أكن بحاجة إلى الوظيفة لأن أبي كان ثرياً وحياتنا لا ينقصها شيء... تزوجت وتركت أبي وحيداً... عشت مع زوجي في شقته بسراي القبة... وبين حين وآخر أتردد على أبي وقلبي يتمزق على حاله ومرضه... وفوجئت بزوجي يمنعني من العمل... كان شديد الغيرة وكثير الشك... ثم أراد أن يمنعني من الذهاب إلى أبي، وحينما رفضت أشاع أنني على علاقة بأحد الجيران في الشقة المجاورة لشقة أبي... هكذا صورت له غيرته المجنونة...

 حاولت أن أشرح له أن هذا الجار طبيب حديث التخرج ومن مكتبه الطبي يرعى أبي في غيابي... لكنه ذهب إلى الدكتور كمال هذا وحذره من الحديث معي أو دخول شقة أبي... ثار جاري كمال ودافع عن نفسه وعني، وتكهرب الموقف وفوجئت بزوجي يضربه بعنف حتى سالت دماؤه... حضرت الشرطة وحررت محضراً بالواقعة وأحيل زوجي إلى محكمة الجنح... انتهز الجيران الفرصة وراح كل منهم يروي الحكاية بطريقته الخاصة وبالشكل الذي يسيل معه لعاب المستمع حتى لو كان الثمن هو سمعتي وشرفي... ومات أبي متأثراً بالحزن الذي أصابني... وزاد إصراري على طلب الطلاق حتى حكمت به المحكمة! حصلت على ميراثي وقررت الابتعاد من المنطقة التي يسكنها أبي... وبحثت عن شقة صغيرة لا يزيد ثمنها عن نصف الميراث الذي حصلت عليه... جئت إلى هنا... وأودعت النصف الآخر من الميراث بالبنك أتعيش منه... هذا هو سر عدم اختلاطي بالناس... وحياة العزلة التي اخترتها لنفسي!.

وانخرطت «لولا» في بكاء طويل... وراح فؤاد أفندي يهدئ من روعها ويقسم لها أنها من الليلة ستكون تحت حمايته ورعايته... ثم عرض عليها أن تتولى إدارة السوبر ماركت لتسلي وقتها... وتسليه بالحديث معها فهو الآخر يعيش وحيداً... ابنه الوحيد يعيش خارج مصر ولا يأتي لزيارته إلا مرة واحدة في العام... لم تتردد «لولا» في الموافقة!.

على رغم السيرة العطرة لفؤاد أفندي لم ترحمه ألسنة الناس... ويبدو أن «لولا» شعرت بالأزمة التي سببتها للرجل فطلبت منه أن تعود إلى سابق حياتها وعزلتها واعتذرت عن الاستمرار في إدارة السوبر ماركت... حاول فؤاد أفندي أن يقنعها بشتى السبل ليثنيها عن قرارها... لكن بقدر جمالها كان عنادها... تركت العمل بعد ثلاثة أشهر فقط من استلامها له!

... ويبدو أن الأيام التالية كانت عصيبة على فؤاد أفندي... رآه الناس لأول مرة متوتراً، وعصبياً، وحاداً في تعاملاته... بل أدرك الرجل نفسه في النهاية أن حياته لم يعد لها طعم... ولا لون... ولا رائحة بعدما خرجت منها «لولا» لتغلق الباب على نفسها وتبتعد عن الجميع... ويا دار ما دخلك شر.

 صارح العجوز نفسه بضرورة أن يتخذ القرار الصعب قبل فوات الأوان... أغلق السوبر ماركت ومنح عماله إجازة... صعد إلى «لولا»... رحبت به... فاتحها في قرار لا يحتاج إلا لقرار حاسم منها إما بنعم... أو لا... سألته:

** خير...

* نتجوز؟!

* يا ريت..!

لم يتمالك العجوز نفسه من الفرحة... طلب منها أن ترتدي ملابسها من دون أن تسأله لماذا... ضحكت ونفذت ما طلبه! اصطحبها إلى المأذون... عقد عليها... وعاد معها إلى الحي مرفوع الرأس بينما «لولا» تتأبط ذراعه وفوق وجهها ابتسامة النصر.

احترم الناس زواج العجوز من الشقراء الشابة... لا أحد يغضب من الحلال... هدأت النساء بعدما دخلت «لولا» معتقل الزوجية ولم تعد تهدّدهن! وبقي فريق من الرجال في حالة دهشة من الشقراء التي قلبت حياة الرجل الوقور رأساً على عقب...

 بعضهم كان يردد أن الشقراء انتحرت بزواجها من العجوز... والبعض الآخر كان واثقاً من أن «لولا» حققت الثراء، لكنها ستظل تبحث عن الحب!.. ومع الأيام تحولت حكاية العجوز والشقراء إلى أسطورة يتندر بها الجيران، فالشقراء تزداد جمالاً وسحراً والعجوز يزداد شحوباً ونحافة! وبدأت بصمات «لولا» تظهر يوماً بعد يوم... اتسع السوبر ماركت... وراجت بضائعه وانتقل الإعلان من المطبوعات إلى شاشة التلفزيون... ونجحت «لولا» في أن تقنع فؤاد أفندي بفتح السوبر ماركت 24 ساعة من دون توقف... تديره هي نهاراً... وتترك لفؤاد أفندي إدارته ليلاً... وما بين النهار والليل ساعات قليلة يضمهما خلالها فراش الزوجية. وكلما شعر العجوز بأنه ما زال قادراً على ترويض النساء ازداد ضعفه نحو «لولا»... نقل إليها ملكية السوبر ماركت والشقة ولو استطاع أن يمنحها عينيه لفعل.

عامان من الزواج... لم يعد فؤاد أفندي يخشى شيئاً في حياته سوى الموت... إنه الشيء الوحيد الذي سيحرمه من ساعات الحب مع امرأة لا تجيد في حياتها غير الحب... مهما طالت ساعاته. لكن جاء اليوم الذي لم يحسب له فؤاد أفندي أي حساب... كان قابعاً في مكتبه في مدخل السوبر ماركت حينما فوجئ بابنه الوحيد رامز يدخل عليه... قفز الأب من مقعده وارتمى الابن بين ذراعيه... كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحاً... البرد قارس... الأمطار لا تتوقف... والأب يعاتب ابنه لأنه لم يزره العام الماضي... يعتذر الابن ويعود الأب ليفاجئ ابنه بخبر زواجه، ثم يمسك بيده ويدعو العمال إلى إغلاق السوبر ماركت... وبمنتهى السعادة يتجه فؤاد أفندي ممسكاً بيد ابنه إلى بيته... هامساً له وهو يحمل عنه حقيبته:

* سترى أجمل نساء الأرض... لا بد من أنها نائمة... سنوقظها على أحلى مفاجأة... ونسهر معاً

حتى الصباح... أعرف أنك جئت من المطار إلى هنا مباشرة... ولا بد من أنك متعب... لكن لا نوم الليلة!.

فرح الابن لسعادة أبيه... ومضى الاثنان حتى وصلا إلى الشقة، فإذا بالأب يفتح الباب بحذر شديد ويطلب من ابنه أن يسير مثله على أطراف أصابعه ليفاجئ «لولا» بالزيارة التي تنتظرها منذ عامين.

وقف الأب في منتصف الشقة مذهولاً... دق قلبه بعنف... نور حجرة نومه مضاء... موسيقى صاخبة تنبعث من داخل الحجرة... أسرع الأب بفتح باب الحجرة... شهق من صدمة المشهد... زوجته الشقراء الشابة بين ذراعي رجل فوق فراش الزوجية... سقط الأب فوق الأرض... حاول الرجل الغريب الهرب... أمسك به الابن... وصرخت الزوجة حينما وضع الابن ساقه في طريقها وهي تحاول الهروب شبه عارية... تجمّع الجيران... اكتشفوا أن فؤاد أفندي فارق الحياة. حبس الجيران الزوجة وصديقها من دون أن يسمحا لهما بارتداء ملابسهما... حضرت الشرطة وألقت القبض على الشقراء والرجل الغريب!

داخل النيابة وقفت «لولا» وجهاً لوجه أمام الابن الوحيد لزوجها يتهمها بالزنا مع المتهم الثاني... وتجمع الناس أسفل سرايا النيابة للفتك بالمتهمة وشريكها... لكن النيابة تفجر كبرى المفاجآت وتأمر بالإفراج عن لولا وشريكها طبقاً للقانون الذي منح الزوج وحده حق إقامة دعوى الزنا... وانقضاء الدعوى بوفاته. طلب الابن اتهام زوجة أبيه بالدعارة فردّ وكيل النيابة بأن شروط الاتهام لا تنطبق عليها فهي لم تمارس الفاحشة مع الرجال من دون تمييز... ومقابل أجر. يتم الإفراج عن لولا... وشريكها الدكتور كمال. وحفظت النيابة المحضر في حالة تتطابق مع حالات الحفظ حينما تقيد الاتهام ضد مجهول. وبقيت حكاية العجوز والشقراء أسطورة بين أهالي الغورية يضيفون إليها ما يشاؤون  ويحذفون منها ما يروق لهم... لكنهم يجمعون على سحر وجمال «لولا» التي سكن الشيطان جسدها... وقلبها... ماضيها.. وحاضرها... وربما مستقبلها أيضاً!

back to top