خاطِب العالم مثل ريغان

نشر في 08-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 08-10-2013 | 00:01
No Image Caption
بينما تمضي إدارة أوباما قدماً، يبقى العنصر الرئيس درجة التنسيق بين الرئيس ووزير الخارجية، لأن الخطاب يُعتبر أولاً وأخيراً المؤشر الوحيد إلى مدى الانضباط السياسي داخل الإدارة، فكلما انحسرت الصراعات على النفوذ، ازداد الخطاب وضوحاً وصار الجو أكثر ملاءمة لطرح أفكار مهمة، وهذا بالتأكيد معيار ريغان.
 Robert Kaplan كانت خطابات الرئيس الأميركي رونالد ريغان بشأن الاتحاد السوفياتي حازمة وواضحة، فقد نعت الإمبراطورية السوفياتية بـ"الشر"، وطالب القائد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بـ"هدم" جدار برلين، لكن بما أن الإمبراطورية السوفياتية كانت قائمة بشكل أو بآخر منذ أكثر من ستة عقود في الفترة التي ألقى فيها ريغان تصريحاته هذه، يعتبر البعض خطابه متطرفاً.

 ففي الشؤون الدولية، يمنح الوجود الطويل الأمد عادةً شرعية، غير أن خطاباته كانت بسيطة، فاستحالت إساءة تفسيرها، وبما أن إساءة تفسيرها كانت مستحيلة، لم تتح لبيروقراطية واشنطن (وزارة الخارجية وغيرها) أي مجال للتأويل والتحريف عمداً بغية تحقيق أجنداتها المختلفة.

 نتيجة لذلك، شهدنا حالة نادرة في واشنطن: كانت الإدارة بكل مستوياتها تتكلم بصوت واحد، وبما أنها كانت تتكلم بصوت واحد، قوي تأثير سياسة ريغان الخارجية، مما شكّل عاملاً في انهيار الإمبراطورية السوفياتية، الذي بدأ بعد سنة واحدة من انتهاء عهد ريغان.

لا شك أن معظم الإدارات في تاريخ الولايات المتحدة الحديث لا يبلغ المعيار الخطابي ذاته الذي حددته مقاربة "سلسلة القيادة الصارمة في البيت الأبيض" خلال عهد ريغان، لكنها اقتربت منها كثيراً، فقد اعتُبر وزير خارجية جورج بوش الأب، جيمس بايكر الثالث، في تصريحاته العلنية نموذجاً في ضبط النفس والكلام المدروس بدقة، فمَن كان يصغي إلى بايكر يدرك أن المسافة بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض لم تكن كبيرة، ومع أن وزارة الدفاع في عهد بوش الأب بقيادة ديك تشيني ومساعده في شؤون السياسة بول ولفويتس كانت أكثر تشدداً من فريق بايكر في وزارة الخارجية، إلا أن المسافة بينهما ظلت مدروسة، فقد قاد بوش الأب عملية مضبوطة، وهذا ما عكسه الخطاب المعتمد.

من المؤكد أن المسافة الخطابية في عهد بوش الابن بين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول بدت شاسعة، ما عكس غياب التماسك في فريق جورج بوش الابن الذي صاغ السياسة الخارجية، لكن هذا الرئيس تحلى بميزة أخرجته من هذه المعضلة، فكان يتحدث بوضوح، وكانت كلماته تضاهي عادةً أعماله في السراء والضراء.

خلال عهد بيل كلينتون، ظهرت بعض التوترات الخطابية، فكان وزير الدفاع وليام كوهين أكثر تحفظاً بشأن التدخل في البلقان، مقارنة بوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، لكنهما لم يتصادما ونجحا عموماً في التعاون معاً، فقد حذّرت أولبرايت الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش مراراً وحضته على وقف انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة، التي ارتكبها بحق الألبان في كوسوفو، من دون أن تتخذ أي خطوة. نتيجة لذلك، انتقدتها وسائل الإعلام لأنها تقوّض مصداقية الولايات المتحدة، ورغم ذلك، أقنعت أولبرايت الإدارة الأميركية أخيراً بالتحرك, داعمةً أقوالها بالأفعال، فقد أكّدت الحرب، التي قادها حلف شمال الأطلسي ضد تعديات الصرب في كوسوفو في ربيع عام 1999، صدق خطاب أولبرايت.

لا شك أن الرئيس الحالي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري أخفقا وفق أي من المعايير الخطابية الواردة أعلاه، فقد هدد أوباما بتنفيذ عملية عسكرية ضد الرئيس السوري بشار الأسد في حال استخدم هذا الأخير الأسلحة الكيماوية ضد مدنيين، معتبراً ذلك خطّاً أحمر، وعندما قتل الأسد عدداً كبيراً من المدنيين بواسطة هذه الأسلحة، نشر أوباما سفنه الحربية قبالة الساحل السوري، وأدلى كيري بخطاب عاصف ضمّنه الكثير من التفاصيل والصور عن الهجوم الكيماوي، فظننا من خلال هذا الخطاب أن الإدارة الأميركية ستنزل بعد ساعات عدداً كبيراً من الجنود الأميركيين في سورية أو ستقصفها بكم هائل من الصواريخ. إلا أن هذا ما لم يحدث، فلم ترسل الولايات المتحدة طائرة واحدة أو تطلق صاروخًا، وما لبث أوباما أن تراجع، قائلاً إنه يحتاج إلى موافقة الكونغرس قبل أن يقدم على أي خطوة، مع أن ذلك لم يكن ضروريّاً بكل وضوح. نتيجة لذلك، انحدر خطاب البيت الأبيض ووزارة الخارجية نحو هاوية عدم الانضباط، ولم يأتِ التدخل الدبلوماسي الروسي إلا بعد أن اتضح أن أوباما ووزير خارجيته لم يكونا جادين منذ البداية بشأن ما أعلناه.

تُعتبر السياسة الخارجية أكثر جدية من أن تعتمد على المشاعر فحسب، وهذا ما برهنه كيري بالتحديد في خطابه العاصف ذاك. يمكن تعريف المشاعر بأنها إحساسات لا ترتبط بإرادة إدارة أو بنواياها المخطط لها بدقة، إدارة تعمل بوحدة لتتخذ مباشرة خطوات تستند إلى تلك الإحساسات.

نتيجة لذلك، بدا وزراء الخارجية السابقون، مثل بايكر وجورج شولتز وهنري كيسنجر، أقل تفاعلاً مع المآسي الإنسانية، مقارنة بكيري، ولا يعود ذلك بالضرورة إلى أنهم قساة القلوب، بل إلى إدراكهم أن عليهم ألا يتحدثوا كأفراد عاديين بل كمسؤولين عامين. بكلمات أخرى، كان عليهم تقييم كل كلمة يتفوهون بها لتكون منسجمة مع الخطوات التي يخططون لاتخاذها أو بالأحرى لتفاديها؛

لهذا السبب نلاحظ عادةً أن التصريحات الرسمية تكون باهتة. فالسلطة الرسمية تحمل معها مسؤولية، وتفرض المسؤولية على صاحبها قيوداً تحدد ما يمكنه التصريح به. على سبيل المثال، تأثر جورج بوش الأب ومستشاره للأمن القومي برنت سكوكروفت كثيراً بانهيار الأنظمة الشيوعية وما نجم عنه من توق إلى الديمقراطية في وسط أوروبا وشرقها عام 1989، ورغم ذلك، تعمدا إبقاء خطابهما باهتاً ومعتدلاً كي لا يمنحا الجيش السوفياتي عذراً لاتخاذ أي خطوة.

يجب أن ينقل الخطاب الجيد للناس ما ترى الإدارة أنها مستعدة للقيام به أو رفضه، ولا بأس إن بدا المسؤول أحياناً مثاليّاً لأن الشعب الديمقراطي يتأثر بالمثل وإن بطريقة غير مباشرة، ولكن يجب ألا تتخطى هذه المثل الواقع المباشر الذي تواجهه الإدارة، فعندما تعبّر عن استهجانك استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدينيين، يشكّل ذلك تصريحاً عن مبدأ لا يلزمك باتخاذ أي خطوات، ولا شك أن الجميع يتوقعون من أمة متحضرة أن تدين انتهاكات مماثلة، حتى باتت تصريحات مماثلة تُعتبر روتينية، ولكن عندما يستفيض دبلوماسي بارز في الأمة بسرد تفاصيل حدث محدد، يكون قد انتقل إلى تصعيد خطابي يُخصص حصراً لتلك المناسبات التي يحتاج فيها السياسيون إلى تأجيج الغضب الشعبي لأن الخطوات الحاسمة باتت وشيكة.

ولكن هل يمكن استغلال هذا التصعيد الخطابي أحياناً لخداع الخصوم والتلاعب بهم بفاعلية؟ بعبارات أخرى، يتحدث كيري بصرامة وعواطف قوية، فيخاف الروس لأنهم يظنون أنه جاد، ما يدفعهم إلى طرح خطة للتخلص من الأسلحة الكيماوية، إلا أن الأحداث لم تسر على هذا النحو، وهنا تكمن المشكلة. فلم يقدّم الروس خطتهم إلا بعد أن قرر أوباما إعادة النظر في خطوته العسكرية (وقد تجلى ذلك من خلال قراره طلب الإذن من الكونغرس)، وبعد أن اتضح أن الناخبين يغرقون الكونغرس برسائلهم المعارضة للتدخل العسكري. إذاً، لم يتحرك الروس إلا بعد أن عبّر أوباما عن يأسه لا تصميمه، ونتيجة لذلك، ما زال الروس يتمتعون بنفوذ أكبر من اللازم في المفاوضات.

قد تؤول هذه المسألة إلى خاتمة إيجابية إذا نجح العالم في نقل الجزء الأكبر من أسلحة الأسد الكيماوية وتدميرها، ولكن حتى (على سبيل الافتراض) لو سارت الأمور على هذا المنوال، فلا يلغي ذلك فكرتي أن الإدارة افتقرت إلى خطاب عام مضبوط ومدروس. أتذكرون أن الناس صدقوا ريغان حين كان يعلن بين الحين والآخر أن الولايات المتحدة ستُسقط الشيوعية العالمية، وذلك بسبب تعزيزات إدارته الدفاعية، ودعمه الميليشيات المناهضة للشيوعية، وخطوات أخرى أقدم عليها تنسجم مع خطابه؟

أقر أوباما أن عملية التوصل إلى مفاوضات مع الروس بشأن الأسلحة الكيماوية كانت غير منظمة وعمتها الفوضى، ويشكّل إقراره هذا إشارة إلى أنه يدرك أن على فريقه تقديم أداء أفضل من الناحية الخطابية، وهذا ما نأمله، إذ يُعتبر أوباما نفسه مفكراً ومحللاً منضبطاً، وما زال أمامه ثلاث سنوات ليحسّن سجله في هذا المجال.

ففي خطابه الأخير في الأمم المتحدة، فصّل مصالح الولايات المتحدة الأساسية في الشرق الأوسط، وأوضح استراتيجيته تجاه مصر وغيرها من الدول بأسلوب سياسي واقعي، وقام بجهد دبلوماسي مستدام تجاه إيران، ولا شك أن هذه تُعتبر بداية ممتازة إلى أبعد الحدود، ولكن بينما تمضي إدارة أوباما قدماً، يبقى العنصر الرئيس درجة التنسيق بين الرئيس ووزير الخارجية، لأن الخطاب يُعتبر أولاً وأخيراً المؤشر الوحيد إلى مدى الانضباط السياسي داخل الإدارة، فكلما انحسرت الصراعات على النفوذ، ازداد الخطاب وضوحاً وصار الجو أكثر ملاءمة لطرح أفكار مهمة، وهذا بالتأكيد معيار ريغان.

back to top