صانع البهجة...سيد مكاوي (3): فاكهة الحي

نشر في 12-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 12-07-2013 | 00:02
استطاع سيد مكاوي بإصرار غير طبيعي أن يمارس مع أقرانه هذه الألعاب الصعبة، والخطيرة في أحيان أخرى، بعدما أقنعهم بأنه مبصر مثلهم تماماً، ليس بكلامه، لكن بحركاته وسكناته، بحفظ الطرقات، وحفظ المباني والجدران، ينادي فيتحدث أحدهم فيميز صوته ويحدد مكان وقوفه، فيمشي في اتجاه الصوت، لدرجة أنه أصبح أكفأ منهم في تحديد الصوت بسبب اعتماده على أذنيه فقط، فما كان من أصدقائه إلا أن عاملوه باعتباره مبصراً مثلهم، لم يدع أياً منهم يشفق عليه، أو يعامله معاملة خاصة... فأصروا على عدم استثنائه حتى من أن يقوموا بعصب عينيه مثلهم خلال لعبة {الاستغماية}، بل ويدققون في وضع العصابة على عينيه حتى يتأكدوا من أنه لا يراهم، وينطلق سيد يطاردهم ويتمكن من الإمساك بهم واحدا تلو الآخر، فيصيح أحدهم:

= لا مش لاعب. والله الواد سيد كان شايف. لأ... بص حتى الرباط نازل من على عينيه... لا... لا... نعيد من الأول.

لم يترك سيد محمد مكاوي طفلا أو رجلا أو فتاة أو امرأة إلا وأصبح صديقاً له، يلاطف الجميع ويضحك معه، فاعتبره الجميع {فاكهة الحي}، ليس تعاطفاً مع طفل كفيف، لكن إعجاباً بخفة ظله وسرعة بديهته وردوده الجاهزة، يضحك ويمرح وينسى مأساته، غير أنها لم تغب عن فكر والديه، خصوصاً والدته التي كانت تبكي ليل نهار لأجله وأنه كف بصره في هذه السن، تخشى عليه، تفكر في مستقبله المجهول، لا تريده أن يفارق مجلسها، لكن والده، العامل البسيط، عامل تركيب البلاط والقيشاني، اتخذ القرار وبدأ تنفيذه على الفور:

= تعالَ يا سيد... اقعد.

* حاضر يا أبويا.

= ما شاء الله... ما شاء الله... كبرت أهو وبقيت راجل.

* صحيح يا أبويا... أصل أنا مش شايف نفسي.

= لا صحيح... علشان كدا يا حلو انت هتروح من بكره الكتاب.

* إيه الكتاب دا يا أبويا؟!

= الكتاب دا مكان جنب الجامع. بيقعد فيه سيدنا يحفظ العيال القرآن الكريم.

* آه... بس مش هينفع أنا أروح يا أبويا.

= ليه يا سيد؟

* علشان أنا ما بشوفش.

= ما أنت مش هتحتاج تشوف يا سيد... انت هتسمع الشيخ وهو بيقول وأنت تقول وراه لحد ما تحفظ.

* طب هحفظ أزاي وأنا ما بشوفش.

= زي سيدنا نفسه... ما هو كمان ما بيشوفش... وما شاء الله عقبال أملتك «شيخ كتاب» أد الدنيا.. ومين عارف.. يمكن ربنا يكرمك زيه وتبقى في يوم من الأيام «شيخ كتاب».

التحق سيد بالكتاب المجاور لمسجد «أبو طبل» القريب من بيت محمد مكاوي، لم يعتد سيد الاستيقاظ مبكراً ليجلس وسط عدد من الأطفال يزيد عددهم على العشرين طفلاً يرددون معاً في صوت واحد إحدى سور القرآن الكريم وراء «سيدنا»، الذي يجلس على «كنبة» في صدر الكتاب ومعه عصا طويلة يمكن أن يطال طرفها آخر طفل يجلس في الكتاب فيضرب بها أثناء الحفظ، فضلا عن «العروسة» وهي عبارة عن هيكل «عروس» مصنوع من الخشب، وبه أماكن تستوعب رأساً ويدين ورجلين لكل طفل، يكون عليه أن يحتضنها ويعطي ظهره «للشيخ حنفي» ليوسعه ضرباً على مؤخرته حال عدم الحفظ.

حفظ بالإكراه

سوء حظ سيد، وبتوصية من والده، جعله يجلس قريباً من سيدنا الشيخ، فمثلما كان دائما ًأقرب إلى عقل ولسان الشيخ، كان أيضاً أقرب إلى يده وعصاه، فلا بد من أن يناله منها كل يوم نصيباً وافياً لأجل حفظ القرآن وتجويده:

= أمال فين الولد سيد ابن محمد مكاوي... هو ما جاش النهارده ولا إيه؟

- لا جه يا سيدنا أهو قاعد جنبك.

= قاعد جنبي!

* أيوا أنا هنا يا سيدنا.

= أمال ما بتردش ليه؟

* أصل ما كنتش شايف يا سيدنا.

= مش شايف.. انت بتشوف بودنك يا سيد... وبعدين هو انت بتشوف. أصلا علشان تقول مش شايف.

* أيوه يا سيدنا بشوف طشاش.

= طشاش... طب سمع سورة النبأ.

* النبأ.

= أيوا سورة النبأ.

* أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم: عما يتساءلون.. عما يتساءلون.. عما يتساءلون.

= بس بس. شاطر يا سيد دا انت عال أوي... وحفظتها لوحدك.

* آه والنعمة يا سيدنا.

= طب قوم احضن العروسة يا ابن مكاوي.

حيلة ذكية

كانت هذه المرة الأولى التي يحتضن فيها سيد مكاوي «العروسة» غير أنها لم تكن الأخيرة، فلم يكن «سيدنا» يتهاون مع الأطفال في حفظ القرآن الكريم، خصوصاً من يأتون إليه بتوصية مثل سيد، فهو لا يعرف المجاملات، ما جعل سيد يكره تواجده في هذا «الكتاب» وأصبح كل همه أن يجد لنفسه حلا يعفيه من احتضانها:

* هو المخدة دي معمولة من إيه يا أما.

= معمولة من القطن. وبتسال ليه بقى يا سي سيد.

* أصلها حلوة وطرية. يا سلام لو يبقى معايا واحدة زيها.

= واحدة زيها... اسم الله عليك يا بني ما هي بتاعتك اللي بتنام عليها يا حبيبي.

* أنا عارف أنها بتاعتي اللي بنام عليها... أنا قصدي يبقى معايا واحدة أروح بيها الكتاب.

= يوه جاتك إيه يا سيد. انتوا بتروحوا الكتاب تناموا ولا بتحفظوا قرآن.

* إيه دا يا أما اللي بتعمليه دا. هو دا قطن اللي في إيدك.

= لا يا حبيبي. دي قصاقيص القماش القديم اللي بنقصها علشان نعملها سجادة.

* طب أنا ممكن أخد منها شوية أعملها مخدة صغيرة.

= ممكن بس قولي ليه. ما مخدتك أهي حلوة وقطن مش قصاقص.

* لا أنا عايزها علشان أقعد عليها في الكتاب.. أصل بتعب من قعدة الأرض.

= يا حبيبي يا بني. أنا هعملك واحدة حلوة تقعد عليها.

صنعت له والدته مخدة، غير أنه لم يكن يريدها للجلوس عليها، بل ابتكر حيلة للنجاة من الضرب، ففي اليوم الذي يستشعر سيد أنه لم يحفظ ما كلفه به الشيخ حنفي، يستعد لاحتضان «العروسة» فيقوم بوضع «المخدة» أسفل ظهره، فإذا قام بالتسميع وأخطأ واضطر إلى احتضان العروسة وبدأ الشيخ الضرب، تكون «المخدة» حائلا دون وصول الضرب إلى جسده، فيما يقوم هو بالتمثيل على الشيخ كأن «العصا» تلهب ظهره، فيقوم بالصراخ والبكاء لأجل إقناع الشيخ بأنه يتألم.      

نجحت الحيلة التي قام بها سيد، وزاد من نجاحها أن أحداًَ لم يكتشفها، سواء الأطفال أقرانه، أو حتى الشيخ حنفي، وعلى رغم ذلك لم يركن سيد إلى هذه الحيلة التي تنجيه من العقاب، فحرص والده أن ينقله إلى كتاب «الشيخ حنفي السقا» الذي رحب بسيد ترحاباً كبيراً، بل ولم يتردد في الاعتراف أمام جميع الأولاد بحلاوة صوت سيد مكاوي، لدرجة أنه جعله يقوم بتحفيظ الأطفال في وقت راحته، أو وقت تناوله الطعام، فيقوم سيد بإلقاء الآية القرآنية، والأطفال يرددونها خلفه، وحرص على أن يجتهد في الحفظ، فأظهر براعة فائقة في عدد الأجزاء التي يحفظها من القرآن.

اكتشاف الموسيقى

وجد سيد تميزاً كبيراً في اختياره «عريفاً» ، مساعد الشيخ، على الأطفال ما جعل الأطفال يهابونه ويعملون له «ألف حساب» مثله مثل الشيخ، فحاولوا استمالته والتودد إليه ليرضى عنهم، فيقوم كل طفل بإحضار قطعة حلوى معه سواء «جوزية، نبوت الغفير، حمصية» وغيرها مما يسيل له لعاب الأطفال، غير أن سيد يأبى ذلك، وفي الوقت نفسه يأبى أن يكون سبباً في أن يحتضن أحدهم «العروسة» لأنه يعرف آلامها.

لم يكن سيد مكاوي يقضي كل وقته في اللهو واللعب مثل بقية أصدقائه من تلامذة الكتاب، فما إن كان يعود إلى البيت ويتناول غداءه، حتى يحرص على أن يأخذ قسطاً من النوم، بعده يتجه إلى حيث يجلس «عم مسعود» إلى جوار مقهى «العتر» في مدخل الحارة.

يشتري سيد بعض الحلوى ثم يجلس إلى جوار عم مسعود، بناء على طلبه، أولا لأن سيد خفيف الظل لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويعلق عليها ساخراً، ما يسري عن «عم مسعود» الأمر الثاني أنه يتفاءل بوجوده بجواره، فاليوم الذي يجلس فيه إلى جواره يبيع كل ما لديه من «بضاعة»، ولا ينسى بالطبع أن يعطي سيد نصيبه من هذا الربح «قطعة حلوى مجاناً»، ما يسعد به سيد جداً، فضلا عن سعادته بأمر آخر، وهو الاستمتاع بصوت عم مسعود وهو يغني على بضاعته، غير أنه فوجئ في هذا اليوم بصوت جهوري ينبعث من مقهى «العتر» القريب:  

- ألو... ألو... جراموفون فون تحييكم.

* إيه دا؟ إيه الصوت دا يا عم مسعود.

= دا عقبال عندك يا أبو السيد المعلم العتر اشترى جرامفون جديد.

* إيه الجرامفون دا يا عم مسعود.

= دا ماكينة عاملة كدا زي الراديو بس دا بيتحط فيه اسطوانات.

* هو أنا عارف الجرامفون لما تقولي زي الراديو.

= لا دا انت حكايتك حكاية... الراديو والجرامفون حاجة كدا زي الصندوق لما تدور تطلع أغاني.  

* أغاني زي اللي انت بتقولها.

= لا يا عم سيد. أغاني بجد. اسمع بقى وأتسلطن وانت بتاكل حتة الجوزية دي.

- تستمعون إلى قصيدة «وحقك أنت المنى والطلب» غناء الآنسة أم كلثوم» نظم الشاعر عبد الله الشرقاوي، تلحين الشيخ أبو العلا محمد... من مقام هزام:

وَحقك أَنت المنى وَالطَلَب    وَأَنتَ المراد وَأَنتَ الأرب

وَلي فيكَ يا هاجِري صَبوة   تحير في وَصفِها كل صَبّ

أَبيت أُسامِر نجم السَما إذا لاحَ لي في الدُجى أَوغرب

وَأَعرِض عَن عاذِلي في هَواكَ  إِذا نَمّ يا مُنيَتي أَو عَتب

أَمولايَ بالِلّهِ رفقا.. بمَن    إلَيكَ بذلّ الغَرامِ اِنتَسَب

وَيا هاجِري بَعد ذاكَ الرِضا  بِحَقِّكَ قل لي لِهذا سَبَب

فَاِنّي حسيبُكَ من ذا الجَفا   وَيا سيدي أَنتَ أَهل الحسب

مَتى يا جَميل المحيا أَرى   رِضاكَ وَيَذهَب هذا الغَضَب

فَاِنّي مُحب كَما قَد عَهِدت   وَلكِنّ حبك شَيء عَجب

وَمِثلُكَ ما يَنبَغي أن يَصد    وَيَهجر صبا لَه قَد أَحب

أَشاهد فيكَ الجَمال البَديع   فَيَأخُذُني  عِند  ذاكَ الطَرَب

وَيُعجِبُني منكَ حُسن القَوامِ    وَلين الكَلامِ وَفَرط الادَب

وَحَسبُكَ اِنَّكَ أَنتَ المَليحُ    الكَريمُ الجدود العَريق النَسب

أَما وَالَّذي زانَ مِنكَ الجَبين   وَأَودَع في اللَحظِ بنت العنب

وَأَنبَتَ في الخدّ روَض الجمال   وَلكِن سَقاه بِماء اللَهَب

لئن جدت أو جرت أنت المراد  ومالي سواك مليح يحب

بسماع صوت أم كلثوم شعر سيد بأنه ذهب بروحه وعقله إلى عالم آخر، وبقي جسده، وقد أغمض عينيه، ومط رأسه إلى أعلى، ووجه صوان أذنه إلى حيث ينبث الصوت، وظل صامتا طيلة تقديم الأغنية حتى انتهت:

= ايه رأيك بقى يا عم سيد.. أبو السيد.. هووووو.. انت نمت ولا إيه؟

* لا صاحي أهو.

= ما قولتليش إيه رأيك في اللي سمعته؟

* حلو أوي... بس ما فهمتش حاجة... الست اللي بتغني صوتها حلو أوي.. والمزيكا كمان حلوة.. بس أنا مش فاهم حاجة.

= معلش واحدة واحدة هتفهم.

* بس الراجل اللي اتكلم في الأول قال تلحين الشيخ أبو العلا محمد

= آه الشيخ أبو العلا محمد... حد ما يعرفوش... وعندك كمان قبل منه.

الشيخ سيد درويش، والشيخ درويش الحريري، وداود حسني، ومحمد عثمان، وعبد الحي حلمي، وكامل الخلعي. منهم اللي جه من الإسكندرية وعدى على حتتنا دي، ومنهم اللي طلع من الخرنفش. واللي من الحلمية... وهوب... صيتهم بقى في المحروسة كلها.

 

* كل دول شيوخ بيغنوا.

= لا يا أبو السيد... مش كلهم شيوخ... وكمان فيهم اللي بيغني وفيهم اللي بيعمل مزيكا بس.

* هم الشيوخ بيعملوا مزيكا.

= بيعملوا مزيكا ويغنوا.

* أمال الشيخ حنفي بتاع الكتاب ما بيعملش مزيكا ويغني ليه؟

= الله يحظك يا أبو السيد... الشيخ حنفي لتحفيظ القرآن بس... لكن الشيوخ دول أتعلموا مزيكا واشتغلوا بيها.

* وانت عرفت الحاجات دي كلها منين يا عم مسعود يا بتاع العسلية

= ماهو مش علشان أنا ببيع عسلية يبقى مليش في المزيكا؟! أنا سميع قديم... وغاوي... وكان نفسي أغني... بس النصيب وأكل العيش يا أبو السيد.

نبوغ مبكر

كان درساً مهماً وبليغاً تلقاه سيد مكاوي من «عم مسعود بائع العسلية» فبدأ منذ ذلك اليوم اهتماماً غير عادي بالموسيقى والغناء ومن يعملون بهما، لتكون لجلسته اليومية إلى جوار عم مسعود معنى وأهمية كبرى، كأنها جلسة علم، الجزء الأول منها استماع من خلال الغرامفون لكبار المطربين والموسيقيين، يعقبها جزء تاريخي معلوماتي عن بعض هؤلاء من أهل الموسيقى والغناء، سواء ممن عاصرهم «عم مسعود» أو سمع عنهم، ولم تكف أسئلة سيد عن كل التفاصيل المتاحة، وأكثر ما كان يثير غضبه وضيقه، أن تكون الأسئلة غير متاحة، أو ليس لدى عم مسعود إجابات عنها، بل الأدق أنه لم يكن يتوقع أن يكون لدى هذا الصغير الذي لم يتخط عمره تسع سنوات بعد، أن يكون لديه كل هذه الأسئلة عن تفاصيل لم يصل إليها عقل عم مسعود الطويلة وخبرته، باعتباره «سميع قديم».

وسط اهتمامه الجديد بالموسيقى والغناء لم ينس سيد حفظ القرآن، بل وجد نفسه يقبل عليه بشكل جديد ومختلف عما كان يتبعه من قبل، وجد أن تجويد القرآن وترتيله يساعده في تفهم الموسيقى، فاجتهد أن ينهي حفظه كاملاً، ودعمه الشيخ حنفي بعدما وجد لديه استعداداً مختلفاً، وروحا جديدة، وهمة وجدية في الحفظ، عن بقية الطلبة حتى فاجأه يوماً:

= براوة عليك... تعالَ يا سيد. أنا مبسوط منك أوي... انت بقيت عال.

* ربنا يخليك ياسيدنا...

= قوللي يا سيد أبوك فين دلوقت؟

* راح شغله من بدري يا سيدنا.

= الله يعينه ويساعده عليكم يا بني انت وأخواتك.. طيب اسمع يا سيد أنا عايزك تقوله إن سيدنا هيجي يشرب معاك الشاي بكره بعد صلاة الجمعة... علشان عايز أكلمه في حاجة بخصوصك

* بخصوصي أنا يا سيدنا.

= أيوا.

* أنا عملت حاجة غلط يا سيدنا.

= ما تستعجلش يا سيد... بكره هنشوف.

أبلغ سيد الرسالة لوالده، التي وإن كانت قد وضعت بعض علامات الاستفهام أمامه، إلا أنه لم يتوقف أمام المطلب طويلاً، غير أن سيد راح ينتظر مصيراً مجهولاً لا يعرف ماذا سيفعل حياله، لدرجة أنه لم يذهب إلى جلسته اليومية إلى جوار «عم مسعود» خوفاً ورعباً، ونام مبكراً استعجالاً للغد ليعرف ماذا يريد سيدنا؟!

في الموعد حضر الشيخ حنفي، وجلس يحتسي الشاي، ثم طلب سيد، وأجلسه إلى جواره:

= شوف يا عم محمد... أنا جاي النهارده لكي أزف لك بشرى.

- خير يا عم الشيخ حنفي... الله يبشرك.

= بفضل الله وعونه.. ومساعدة العبد الفقير إلى الله الجالس أمامك، أبشركم بأن ابنكم سيد قد أتم حفظ القرآن الكريم.. كاملاً؛ تجويداً وترتيلا.ً

- معقول يا سيدنا!

= قالوا الجمل طلع النخلة. قالوا آدي الجمل وآدي الجمال. أقرأ يا سيد.

بدأ سيد يسمع ما تيسر من آيات السور التي يطلبها منه الشيخ حنفي، من البداية والمنتصف والنهاية، من أجزاء القرآن الكريم كافة، وسيد يسمع من دون أخطاء في النطق أو التجويد، فيما والده يجلس وهو في حالة نشوى وانبهار كاملين، بينما والدته تقف خلف باب الحجرة تستمع مع بقية أشقائه الخمسة، ثم فجأة أشار الشيخ حنفي بيده:

= يكفي هذا.

- الله يفتح عليك يا سيدنا... أيدك أبوسها.

= فتح الله عليه هو... فهو ولد نابغة مجتهد، سريع الحفظ والتجويد، لذلك لا يناديه أحد منذ اليوم إلا ويسبق اسمه كلمة «الشيخ» من النهارده أصبح اسمه «الشيخ سيد محمد مكاوي»... مبارك يا سي محمد... فتح الله عليك يا شيخ سيد.

ما إن سمعت والدته الشيخ حنفي وهو يقول له: «يا شيخ سيد»، حتى أطلقت الزغاريد في البيت، ليس فقط لتسمع الجيران، بل لتسمع الدنيا كلها، تريد أن تعرف الدنيا كلها أن ابنها الكفيف الوحيد، ليس فقط بين أشقائه، بل وأولاد الجيران والأهل والحارة والحي، قد حفظ القرآن الكريم قبل كل هؤلاء، تجويداً وترتيلاً.

(البقية في الحلقة المقبلة)

back to top