الثقافة والقيم الكونية الجديدة

نشر في 08-05-2013
آخر تحديث 08-05-2013 | 00:01
ثقافتنا السائدة، لم تعترف على غرار ثقافات ما قبل الحديثة بالفرد الذي يختار لباسه، وطعامه، وأفكاره، وقناعاته، وقيمه، باستقلال تام عن سلطة التقاليد العائلية والاجتماعية. إن قيم حقوق الإنسان ليست غريبة على ثقافتنا فحسب، بل إن قيمنا الثقافية التقليدية الراسخة مناهضة لها، وترى فيها تهديداً وجودياً لها.
 د. شاكر النابلسي -1-

قال الرائد طه حسين (1889-1973) في الشأن الثقافي العربي:

"إن العالم يقرأ ليفهم، ونحن نفهم لنقرأ!"

فما الثقافة؟

في المعجم الشهير "معجم روبير الفرنسي" للثقافة، هناك تعريف للثقافة يقول: "الثقافة مجموع المعارف المكتسبة، التي تمكننا من تطوير الحس النقدي، والذوق والحكم".

وبهذا فالثقافة إذن تشمل كل الحقل المعرفي الذي قد يساعد الإنسان على التفكير بنفسه، والتحرر من فكر الأموات، الذين يحكمون -بعض الأحيان- من وراء قبورهم حياة الأحياء".

وبهذا يمكننا أن نقول، إن الثقافة خطوة الانتقال من الخام الطبيعي الغريزي والبيولوجي، إلى المحول المصنوع المكتسب والواعي. وهو ما تشترك فيه الثقافة مع الحضارة، التي تعني الانتقال من البادية إلى المدينة، ومن البداوة إلى التحضر.

-2-

مصطلح "مثقف"، نحته السياسي الفرنسي جورج كليمنصو (1841-1929) زعيم الجمهوريين الراديكاليين، ورئيس وزراء فرنسا (1906-1909)، (1917-1920) . وهو من نفّذ قانون فصل الدولة عن الكنيسة، وكان سبب نحت هذا المصطلح، لتسمية نفر من "الصهاينة الفرنسيين" منهم أميل زولا، ومارسيل بروست، وأندريه جيد، الذين انتصروا للضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، الذي لفقت له قيادة الجيش الفرنسي تهمة التخابر مع العدو الألماني، فحكم عليه القضاء العسكري بالنفي إلى "جزيرة الشيطان". وشقَّ هؤلاء الكتّاب عصا طاعة الأمة، وطالبوا بإعادة محاكمة دريفوس، وتمَّ العفو عنه، ومنذ ذلك الوقت، أصبح المثقف يدافع عن الحقيقة ضد الأمة، وعن الفرد ضد المؤسسات.

وأصبح المثقف هو:

 1- من يساهم في تحضير الأذهان، للتكيف مع متطلبات وضرورات عصره.

2- من يدعو إلى إلغاء المواطنة السالبة المحرومة من حقوقها العامة، وإقامة المواطنة الموجبة الداعية إلى تحويل كافة المواطنين، بغض النظر عن ديانتهم وعرقهم وطائفتهم إلى مواطنين لا رعايا، متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين الآخرين. وذلك طبقاً لـ"إعلان حقوق الإنسان" الصادر عام 1789 الذي نصّت مادته الأولى على: "إن الناس يولدون أحراراً ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق".

3- من يدعو إلى ردم الفجوة التاريخية بين الدولة الطائفية وبين دولة ما بعد القومية، إلى حيث تصبح الأمة/الدولة تطويراً غير مسبوق لمواطنة عابرة للقوميات والإثنيات والديانات والطائفيات. ولكي يكونوا جميعاً ناخبين ومنتخبين على كافة الصعد، وفي جميع المجالات.

4- من يتمتع بالشجاعة والجرأة الفكرية والسياسية الكافية، لطرح الأسئلة على المشاكل الحقيقية، التي يعانيها مجتمعه، والتعرّف على الانسدادات المزمنة التي تشلّ الفكر، وتُغيّب العقل، وتسبب العُقم في المواهب، وتطرد الأدمغة المفكرة خارج حلبة الأوطان.

5- من يقوم بإنتاج الفكر النقدي، الذي يساعد على الانتقال من القطعي إلى المبرهن عليه، ومن المسلم به إلى المتناقش فيه، ومن القراءة العابرة للتاريخ إلى القراءة التاريخية للنص، لجعله في متناول العقل، ومتكيفاً مع متطلبات الحياة الاجتماعية.

6- من يُنشِّط ذكاء قارئه، لا أن يخدره بتقريض أوهامه عن نفسه. وهذه مهمة نقدية أولاً، تكون على الكاتب أن يجدد دوماً. ومهمة المثقف الاصطدام دوماً بالأحكام المسبقة، وبالأخطاء الشائعة، وبمصالح النخب الحاكمة والأصولية.

7 - من لا يقف إلى جانب الدهماء ضد الحقيقة، وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي جيل باندا في 1927 "خيانة المثقفين". وهم المثقفون الذين يتطابقون مع ضمائر أمتهم الخربة، بدلاً من التطابق مع الحقيقة، ومع القيم الإنسانية والعقلانية الديمقراطية، حتى لو جرّعهم ذلك السم الناقع الذي تجرّعه سقراط.

-3-

إن سرَّ ضعف الثقافة التقليدية، يكمن في هوسها بالتمجيد الذاتي، والاستعلاء الطاووسي، وغرغرة الأفكار الجاهزة، والوصفات البلدية. في حين أن سرَّ قوة الثقافة الحديثة، يكمن في أنها ثقافة النقد الذاتي، لنواقصها الموضوعية، وعوائقها الذهنية، وخاصة الخوف من التغيير والتحديث الضروريين، في عصر الثورتين الإعلامية والعلمية، اللتين جعلتا التغيير في جميع المجالات حتمياً وضرورياً.

-4-

لقد أصبحت القيم الكونية الآن، تتلخص في الفكر النقدي، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين وكافة الأجناس، والمساواة بين المؤمن والمواطن في حقوق المواطنة وواجباتها، والاعتراف بالجسد، والفرد الذي يختار قيمه باستقلال نسبي عن المجتمع، وفصل الديني عن السياسي. والفصل بين الدين والبحث العلمي والإبداع الأدبي والفني. والفصل المطلق بين المطلق الميتافيزيقي والنسبي التاريخي، وحماية البيئة، وتحديد النسل. وعلى كل ثقافة منفتحة أن تأخذ بهذه القيم، وإلا انغلقت على نفسها، وحكمت عليها بالموات. وعدم تبني الثقافة العربية لهذه القيم أو انتهاكها، يجعلها متورطة في صدام مزدوج خارجي وداخلي. أما الصدام الخارجي فهو مع منظمات حقوق الإنسان في العالم، ومع الإعلام العالمي، والرأي العام العالمي والدبلوماسية الدولية. وأما الصدام الداخلي فهو مع التيارات التقدمية الداخلية، وهذا ما يدفع أتباع الثقافة التقليدية على الانغماس العشوائي في الحداثة، كوسيلة لانتهاك المحرم، وأن كل ممنوع مرغوب.

-5-

ولكن، ما القيم الأساسية التي على الثقافة العربية الجديدة أن تتبناها؟

هناك خمس قيم أساسية على الثقافة العربية أن تتبناها، وتأخذ بها. وهذه القيم في حاجة ماسة إلى دعم ثقافي خارجي لتخصيبها وتنميتها داخلياً، لأنها دخيلة على ثقافتنا وعلى ذهنيتنا. وخيارنا الوحيد، هو اقتباسها من الحضارة الغربية التي زرعت ورعت هذه القيم وهي:

الفكر النقدي، الفرد المستقل، حقوق الإنسان، الحداثة السياسية، الاقتصاد الحديث.

فثقافتنا السائدة، لم تعترف على غرار ثقافات ما قبل الحديثة بالفرد الذي يختار لباسه، وطعامه، وأفكاره، وقناعاته، وقيمه، باستقلال تام عن سلطة التقاليد العائلية والاجتماعية.

إن قيم حقوق الإنسان ليست غريبة على ثقافتنا فحسب، بل إن قيمنا الثقافية التقليدية الراسخة مناهضة لها، وترى فيها تهديداً وجودياً لها.

* كاتب أردني

back to top