السياب بعد 48 عاماً

نشر في 02-01-2013
آخر تحديث 02-01-2013 | 00:01
 زاهر الغافري عرفَ السيّاب منذ البداية

أن الأشياء التي يمكن أن نحبّها، قليلة

وجهٌ

يُشرق مثلَ الرغيف

من تحت الأطمار في مَهده الصغير

بضعُ نساءٍ لهنّ حنانُ المرضعات

في الأساطير، وقبضةٌ من الغِرْيَن البليلِ كذاكرة

الطوفان ظلّت تلاحقه.   

هذا ما كتبه الشاعر سركون بولص في قصيدة له عنوانها "أسطورة السياب والغرين"، وهي قصيدة تلامس عالم السياب، وتستقي من جذوره الحية، وتعيد مساءلة مأساة هذا الشاعر على نحو عميق، كأن السياب لم يكن شاعراً فحسب بل يداً من فوق على حد توصيف الشاعر اللبناني سعيد عقل لناظم حكمت، لأن السياب كان على الدوام أشبه بالملاك الحزين، الملاك الذي رأى وتألم وصارع وعانى من سوء الفهم، واصطفاه المرض حتى لم تتسع له روحه ولا جسده، ثم أعاده ملاك الموت إلى جيكوره. وها هي ثمانية وأربعون عاماً تمضي والسياب شعرياً أكثر تألقاً وتعبيراً وطراوة مما مضى. إن الانقلاب الذي أحدثه السياب في فضاء القصيدة العربية ليبدو كبيراً، بحيث إن صوته المؤسس، اندفع خفياً، مثل ماءٍ جارٍ تحت الأرض إلى أكثر النماذج الشعرية قوة التي عُرفت منذ الخمسينيات.

والشعر العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سيظل مديناً لصوت السياب، كما سيظل شعره في ذاكرتنا، حياً وعظيماً على الدوام.

وكان عباس بيضون على حق عندما وصفه بأنه "مخترع" القصيدة الجديدة. وشعر السياب شعر اختراق على صعد عدة، شكلاً، وانغراساً أيضاً في أرض التجربة الحية.

استوعب السياب، مبكراً الجرح الشخصي فقصائده مثل "النهر والموت" و"غريب على الخليج" و"مدينة المطر" و"أنشودة المطر" وقصائد أخرى، يبدو لي أنها تخترقُ الزمن.

لنترك جانباً الملابسات الأيديولوجية الظرفية عادة التي وَسَمتْ السياب في مرحلة من حياته، بسبب قسوة المحيط الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه، هو الذي كان أكثر هشاشة من هواء جيكور، وكان المرض الذي ألم به أكثر مما يطاق حتى أصبحت غربته الروحية أمثولة لذلك الإحساس الطاغي والرهيب بثقل الموت.

لذلك يبدو السياب كأنما هو الذي سعى إليه، سعى إلى الموت في محاولة أخيرة، ليس للتصالح معه فحسب بل باعتباره "منقذا" و"انتصاراً" أيضاً. وعندما كتب في عام 1954 قصيدته الشهيرة كان السياب قد حرك الشعر العربي في العراق والعالم العربي برمته.    

يكفي للمرء أن يتذكر عوالم القرى في الليل، بين السواقي، وغابات النخيل، وضوء القناديل البعيد والبيوت الطينية، ليعرف من أي عالم نهض هذا الشاعر.

من "أزهارٍ ذابلةٍ" صعدت الروح. كانت تلك بدايات السياب، بدايات الألم ونبرة الأسى القادم من نهر الرومانسية الطبيعية.

في بغداد، عندما كنتُ فتى يافعاً كنتُ على الدوام أقرأ بدر شاكر السياب، وكانت "أنشودة المطر" أشبه باللؤلؤة الثمينة التي وجدتها، حتى حفظتها عن ظهر قلب، وبلغ بي حداً من الخرافة ربما، بحيث ما ان تغيم سماء بغداد، استعداداً للمطر، حتى ارتدي معطفي الواقي، وأضع على رأسي قبعة أوروبية مما كنتُ أشاهده في الأفلام آنذاك، فكنتُ أخرج إلى الشارع وأنا أستظهر القصيدة بصوت عال، وأحرك يدي في الهواء، فيحسبني بعض المارة أو ممن يطلون من النوافذ، أنني مجنون.  

أتعلمين أي حزن يبعث المطر

وكيف تنشج المزامير إذا انهمر

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع

بلا انتهاء، كالدم المراق، كالجياع

كالحب، كالأطفال، كالموتى، هو المطر.

back to top