نكبة «البرامكة» في مصر

نشر في 10-07-2013
آخر تحديث 10-07-2013 | 00:01
 د. شاكر النابلسي -1-

لا شك، أن ما حدث في مصر في الأمس، يُعتبر بمنزلة ثورة شعبية عارمة، لم يحدث مثيل لها في التاريخ البشري، أو التاريخ العربي البعيد والقريب.

والثورات الكبرى في التاريخ، كالثورة الإنكليزية 1688، والثورة الفرنسية 1789، والثورة الأميركية 1776، والثورة البلشفية 1917، والثورة الصينية 1911، لم يقم بها 23 مليون ثائر كما حصل في مصر في الأمس، كما أنها لم تُسقط حاكماً بمساعدة جيش البلاد، حكم بلاده لمدة سنة واحدة بدعم من تنظيم ديني، كما حدث في مصر.

ومن هنا، كان هذا الصدى الكبير والمؤثر للثورة المصرية الثانية في 30 يونيو 2013 بعد الثورة الأولى في 25 يناير 2011. فلم يبقَ معلقٌ أو محللٌ سياسي في الشرق أو في الغرب، إلا تحدث عن هذه الثورة الثانية المصرية، وهو ما يعني أهمية مصر الجغرافية، والتاريخية، والدينية، والثقافية، في العالم العربي، والعالم الإسلامي، والعالم كله.

-2-

ما علاقة نكبة البرامكة في بغداد في عهد هارون الرشيد ونكبة البرامكة الجُدد المتمثلين بـ"الإخوان المسلمين" في مصر؟

"نكبة البرامكة"، مصطلح يشير إلى ما وقع للبرامكة على يد هارون الرشيد من قتل وتشريد، ومصادرة أموال، بعد أن كانوا وزراء الدولة، وأصحاب الأمر والسلطان، وتعد هذه الحادثة أحد أبرز الأحداث السياسية المؤثرة في حكم هارون الرشيد.

وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين (البرامكة والعباسيين)، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديداً، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة، والمبالغة في إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم في أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص منهم، ووضع حد لنفوذهم.

ولم يكن ذلك بالأمر الهين، أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يُلحق بهم الضربة القاضية.

وفي 29 من يناير 803م، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعاً، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم، وصادر دورهم وضياعهم. وفي ساعات قليلة، انتهت أسطورة البرامكة، وزالت دولتهم، وسقطت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان. وكانت تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".

وكان لتلك النكبة، أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد، ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر، الذي لا همّ له إلا شرب الخمر، ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون، حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه، وحرصه على الجهاد، والحج، عاماً بعد عام، وأنه كان يحج ماشياً، ويصلي في كل يوم مئة ركعة.

وفي أواخر سنة 808م، خرج الرشيد لحرب "رافع بن الليث"، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، ومات في 809م، فتولى الخلافة من بعده ابنه "محمد الأمين".

-3-

والآن ما أوجه الشبه بين "نكبة البرامكة" في عهد هارون الرشيد، و"نكبة البرامكة" الجُدد في مصر؟

1- كان البرامكة مجموعة من المثقفين والسياسيين والإداريين الفرس، الذين كانوا يحكمون الإمبراطورية العباسية تحت غطاء ديني مجوسي ربما. في حين أن البرامكة الجُدد في مصر، كانوا يحكمون مصر في عهد محمد مرسي تحت غطاء ديني، يدعو الى إقامة الخلافة الدينية.

2- كان "البرامكة العباسيون"، متنفذين في أجهزة الدولة، فمنهم الوزراء، والقادة العسكريون، والولاة، وكبار موظفي الدولة. وقد كان "البرامكة المصريون" على هذا النحو من النفوذ، فكان منهم رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ومعظم الوزراء، والمحافظون في المحافظات، وبعض قادة الجيش، ورؤساء الصحف "القومية".

3- أدت نكبة "البرامكة العباسيين" إلى تراجع سمعة الفرس في معظم أنحاء الإمبراطورية العباسية. وأدت نكبة "البرامكة المصريين" إلى تراجع سمعة "الإخوان المسلمين" في معظم أنحاء العالم العربي والإسلامي، كما قرأنا من تصريحات زعماء "الإخوان المسلمين" في سورية، والأردن، والعراق، والمغرب العربي، والخليج العربي.

4- جاء "البرامكة العباسيون" في الوقت غير المناسب، وفي التوقيت الخطأ، لسيطرة الفرس على نظام الحكم العربي، بعد أن اشتد ساعد هذا الحكم بالخلفاء الراشدين، والأمويين، وأصبحت "العصبية القومية العربية" حقيقة واقعة، وسداً منيعاً. كذلك جاء "البرامكة المصريون"، بعد 80 عاماً من تأسيس حركتهم، وفي عصر الحداثة، والليبرالية، والدولة المدنية، والعولمة، والإنترنت... إلخ، لإقامة دولة دينية- على تصورهم من خلال "مشروع النهضة"، الذي سبق أن اقترحوه، ونادوا به.

5- كان "البرامكة العباسيون" مستعدين- كما قال لنا كثير من المؤرخين، ومنهم أحمد أمين، وجورجي زيدان، وأحمد الدعيج وغيرهم- للقتال دفاعاً عن حضورهم السياسي والعسكري، كذلك حال "البرامكة المصريين"، الذين قالوا في الأمس إنهم مستعدون للقيام بأعمال عنف دفاعاً عن شرعية الرئيس المعزول!

6- صادر الخلفاء العباسيون أموال زعماء "البرامكة" وعقاراتهم، واعتقلوا بعضهم، وسجنوهم، وعذبوهم، انتقاماً منهم، وعقاباً لهم، على تسلطهم على تقاليد الحكم. كذلك يفعل رجال ثورة 30 يونيو 2013 في "البرامكة المصريين"، حيث يقال إن زعماء هؤلاء، ومرشدهم العام، تمَّ التحقيق معهم، واعتقال بعضهم، وملاحقة الآخرين أمنياً وقضائياً.

-4-

لقد نُصح البرامكة في مصر (الإخوان المسلمون) من أن يبقوا حركة دينية (هُداة لا قُضاة) من قبل بعضهم، ومن قبل بعض المحبين لهم، والحريصين على مستقبلهم كجماعة دينية دعوية، ولكنهم لم يسمعوا.

وظلت "حلاوة السياسة" على طرف لسانهم، منذ أن ترشَّح مؤسسهم حسن البنا للانتخابات البرلمانية عام 1942، وانسحب بناء على ضغط سياسي من النحاس باشا رئيس الوزراء آنذاك، وكان البنا قد خاض الانتخابات أكثر من مرة بدائرة "الدرب الأحمر" في القاهرة. وكان فيها المركز العام لجماعته، وكان البنا يقطن في حي المغربلين، لكنه لم يفز في أي مرة، وفي أي دائرة، لا هو، ولا زملاؤه، بمن فيهم أحمد السكري سكرتير الجماعة آنذاك، وكان مرشحاً بالمحمودية مقر ولادته.

ولكن "البرامكة المصريين"، لم يتعظوا من كل ذلك، فكانت نكبتهم الكبرى.

* كاتب أردني

back to top