عالم ما بعد «ما بعد الحرب الباردة»

نشر في 05-04-2013
آخر تحديث 05-04-2013 | 00:01
صرنا اليوم في مرحلةٍ ما عاد فيها نموذج ما بعد الحرب الباردة يعلل سلوك العالم، ما يشير إلى أننا ندخل عهداً جديداً، لا أملك اسماً لافتاً لهذه المرحلة التي ندخلها، بما أن معظم المراحل تُسمى بعد انقضائها.
 ستراتفور . انتهى عهد مع انهيار الاتحاد السوفياتي في 31 ديسمبر عام 1991، وكانت المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قد وسمت مرحلة الحرب الباردة، وشكل انهيار أوروبا إطار هذه المواجهة.

بُنيت المرحلة الأولى من عالم ما بعد الحرب الباردة على افتراضَين: الأول أن الولايات المتحدة هي القوة السياسية والعسكرية المهيمنة، إلا أن هذه القوة ما عادت بالأهمية ذاتها كما السابق، بما أن الاقتصاد صار محط الاهتمام الأول. أما المرحلة الثانية، فما زالت تدور حول القوى العظمى الثلاث، الولايات المتحدة والصين وأوروبا، لكنها تشمل تبدلاً كبيراً في نظرة العالم إلى الولايات المتحدة، التي افترضت أن البروز يتضمن القدرة على إعادة تشكيل العالم الإسلامي من خلال العمل العسكري، في حين صبّت الصين وأوروبا كل تركيزهما على المسائل الاقتصادية.

أعمدة النظام الدولي

في هذا العهد الجديد، نلاحظ أن أوروبا تترنح اقتصادياً ومنقسمة سياسياً، فما عادت فكرة أوروبا التي تحددها "معاهدة ماستريخت" تُعرِّف أوروبا اليوم، وعلى غرار المعجزة الاقتصادية اليابانية سابقاً، بدأت المعجزة الاقتصادية الصينية تقترب من نهايتها. لذلك نرى بكين اليوم تدرس خياراتها العسكرية، كذلك بدأت الولايات المتحدة انسحابها من أفغانستان، وتعيد النظر في العلاقة بين البروز العالمي والنفوذ العالمي المطلق. وهكذا يبدو العالم مختلفاً كل الاختلاف عما كان عليه عام 1991.

تُعرّف أوروبا نفسها في المقام الأول كقوة اقتصادية، مع احتفاظ دولها بالسيادة، مع أنها تخضع لقواعد الاتحاد الأوروبي. وهكذا حاولت أوروبا أن تحظى بكل شيء دفعة واحدة: التكامل الاقتصادي ودول فردية. لكن هذه الفكرة البعيدة المنال بلغت نهايتها راهناً، وتعاني أوروبا التفكك اليوم.

تريد ألمانيا الحفاظ على الاتحاد الأوروبي كي تحمي مصالحها التجارية، فضلاً عن أن برلين محقة في خوفها من العواقب السياسية التي قد تترتب على تفكك أوروبا.

في المنطقة الهامشية التي ترزح تحت الدين، عوملت قبرص بقسوة اقتصادية غير عادية في إطار عملية إنقاذها، لا شك أن القبارصة تصرفوا بتهوّر.

ردد أوروبيون كثر أن قبرص ما كان يجب أن تُقبل في الاتحاد الأوروبي، قد يكون هذا صحيحاً، إلا أنها انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في فترة اعتبر فيها مؤيدو الوحدة الأوروبية أن عضوية الاتحاد الأوروبي بحد ذاتها كافيةً لتصحيح أي أخطاء. لكن أوروبا ما عادت تستطيع تحمل كلفة تحقيق الأمجاد، وباتت كل أمة مضطرة إلى تحمل أعبائها. شكلت قبرص سابقة أكدت أن الضعيف سيُسحق، وتحولت إلى درس للأمم الضعيفة الأخرى، درس سيبدل بمرور الوقت الفكرة الأوروبية عن التكامل والسيادة. فكلفة التكامل باهظة بالنسبة إلى الدول الضعيفة، وتبدو أوروبا كلها ضعيفة بطريقة ما.

سبق أن تحدثتُ كثيراً عن الصين، فقد أصررت طوال سنوات على أن اقتصاد الصين لا يمكن أن يواصل توسعه بالمعدل ذاته، فكان تفكير أوروبا والصين بشأن عالم ما بعد الحرب الباردة متشابهاً، فقد اعتقدت كل منهما أن من الممكن كبت القضايا الجيو-سياسية وحتى قضايا السياسات المحلية أو تجاهلها أحياناً. ظنتا ذلك لأنهما اعتقدتا أنهما دخلتا مرحلة من الازدهار الدائم، لكن فترات الازدهار تليها دوماً فترات من التقشف. وها قد بلغت أوروبا والصين فترة التقشف!

دخلت الولايات المتحدة المرحلة الجديدة، وهي تتمتع بالاقتصاد الأكبر في العالم وتعاني القدر الأقل من المشاكل بين الأعمدة الثلاثة لعالم ما بعد الحرب الباردة. كذلك حظيت بالقوة العسكرية الأكبر. لكنها خرجت منها أكثر نضوجاً وحذراً مما دخلتها. يشهد التاريخ مراحل جديدة، لا أنظمة عالمية جديدة. تزدهر الاقتصادات وتنهار. وثمة حدود للقوة العسكرية الكبرى، ومن الضروري أن تعتمد القوة العظمى الحذر في عمليتَي الإقراض والغزو.

فجر عهد جديد

تتبدل العهود بطريقة غريبة، فتدرك فجأة أن العهد السابق انتهى. دامت الحرب الباردة عقوداً كان من الممكن فيها اعتبار الانفراجات في العلاقات الأميركية-السوفياتية أو نهاية حرب فيتنام إشارة إلى انتهاء الحقبة بحد ذاتها، لكننا صرنا اليوم في مرحلةٍ ما عاد فيها نموذج ما بعد الحرب الباردة يعلل سلوك العالم، ما يشير إلى أننا ندخل عهداً جديداً. لا أملك اسماً لافتاً لهذه المرحلة التي ندخلها، بما أن معظم المراحل تُسمى بعد انقضائها، لكن هذا العهد يحمل عدداً من الخصائص المميزة التي يمكننا تحديدها راهناً:

أولاً، ما زالت الولايات المتحدة القوة المهيمنة في العالم في كل المجالات، لكنها ستعمل بحذر، بعد أن باتت تدرك الفارق المهم بين البروز والنفوذ المطلق.

ثانياً، تعود أوروبا إلى وضعها الطبيعي مع ظهور عدد من الأمم المتنافسة فيها، ففي حين تحلم ألمانيا بقارة أوروبية تستطيع فيها وضع موازنات الدول الأصغر، تتأمل دول الاتحاد الأوروبي الأخرى حالة قبرص وتفضل الإعسار على خسارتها سيادتها.

ثالثاً، عاد نجم روسيا ليسطع، فمع تفكك شبه الجزيرة الأوروبية، سيحاول الروس القيام بما اعتادوا فعله: الاصطياد في الماء العكر. فقد حظيت روسيا بشروط تفضيلية في تصديرها الغاز الطبيعي إلى بعض البلدان، كذلك تشتري منشآت التعدين في المجر وبولندا ومحطات سكة الحديدة في سلوفاكيا. ومع أن روسيا تعاني منذ زمن خللاً اقتصادياً، تكتسب اليوم نفوذاً ضخماً يُذكر بالحرب الباردة. صحيح أن الصفقات التي تعقدها، وما هذه إلا عينة منها، لا تخدم مصالحها الاقتصادية، إلا أنها تزيد نفوذ موسكو السياسي كثيراً.

رابعاً، تصب الصين كل اهتمامها على إدارتها وقائعها الاقتصادية الخاصة. فلا شك أن الحفاظ على الحزب الشيوعي في ظل تدني معدلات النمو ليس سهلاً، فالازدهار علة وجود هذا الحزب، ومن دون الازدهار، لا يملك ما يقدّمه غير دولة استبدادية.

وخامساً، ستظهر مجموعة من الدول الجديدة التي ستنضم إلى الصين كمراكز عالمية للدخل المنخفض والنمو المرتفع. فقد بدأت أميركا اللاتينية وإفريقيا وبعض الأجزاء الأقل تطوراً في جنوب شرق آسيا تنافس الصين في هذا المجال.

ميزان القوى

لكن كل هذه التطورات تحمل معضلة، صحيح أن الولايات المتحدة اقترفت الكثير من الأخطاء، إلا أن تفكك أوروبا وضعف الصين يعنيان أن الولايات المتحدة ستصبح أكثر قوة، لأن القوة نسبية. قيل إن مرحلة ما بعد الحرب الباردة كانت مرحلة الهيمنة الأميركية. لكني أعتبرها تمهيداً للهيمنة الأميركية، فقد بدأت القوتان، اللتان تحافظان على توازن القوى العالمية، تفقدان قدرتهما على مقاومة النفوذ الأميركي لأنهما اعتقدتا خطأ أن القوة الحقيقية تنبع من القوة الاقتصادية، لكن الولايات المتحدة جمعت بين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهذا ما أتاح لها الحفاظ على قوتها عموماً عندما تداعت قوتها الاقتصادية.

لا تملك أوروبا المفككة أي فرصة لموازنة القوة الأميركية، ومع أن الصين تبحث عن القوة العسكرية، تحتاج إلى سنوات طويلة كي تحظى بقوة عالمية. ولن تنجح في تحقيق هذا الهدف، إلا إن مكّنها اقتصادها من ذلك. هزمت الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة بفضل قوتها المتوازنة. أما أوروبا والصين، فهزمتا نفسيهما لأنهما راهنتا على الاقتصاد، وها نحن ندخل اليوم عهداً جديداً.

George Friedman جورج فريدمان

back to top