المُترجمة ماري طوق: أتورّط مع نصوصي عاطفياً!

نشر في 16-01-2013 | 00:02
آخر تحديث 16-01-2013 | 00:02
No Image Caption
اشتهرت المترجمة اللبنانية ماري طوق غوش في تعريب الروايات العالمية، وهي تترجم من منظور العاشقة للأدب والرواية تحديداً، وبلغة متقنة، وتستعد لكتابة نصها الخاص. معها هذا الحوار.
كيف بدأت رحلتك في عالم الترجمة؟

تتّصف رواية «الجميلات النائمات» لكاواباتا بأهميّة خاصّة بالنسبة إلي. كنت أمضي الوقت في القراءة، وأعجبتني هذه الرواية التي كانت منقولة بالطبع إلى اللغة الفرنسيّة. سحرت بكآبتها العميقة المشبعة بحساسيّة جديدة لم أصادفها في كتاب سابقاً. بدا لي إيغوشي بطل الرواية «شقيق ندمنا» وتشّربت حسراته «بجرعات كبيرة» (بالإذن من عبّاس بيضون الذي تحضر عباراته دوماً في ذهني)، فأخذت قراراً من تلقاء ذاتي بترجمة هذا الكتاب ولم أفكّر في إمكان نشره أم لا. ولم أكن أهتمّ أيضاً آنذاك بضرورة أن يكون الكتاب منقولاً عن لغته الأصليّة. ربّما لأنّني وجدت فيه صدى لكآبتي أو كانت تلك طريقتي في مواجهة الوحشة والخيبة اللتين كنت أعيشهما في ظلّ الحرب. كانت الحياة هي أيضاً معطّلة (بالإذن أيضاً من عبده وازن) نائمة تحت تأثير سموم كثيرة. في الرواية، يذهب رجل عجوز إلى منزل خاص يسمح له فيه بالنوم قرب فتيات جميلات مخدّرات. وهناك يبدأ بتذكّر حياته الماضية وغراميّاته متحايلاً على الموت الوشيك يخامره هذا الشعور العميق بالإهانة التي تسبّبها الشيخوخة. أمر مضحك: كنت في مطلع شبابي ومع ذلك وجدت صدى للإهانة التي ألحقت بي أنا بالذات. دفنت مع هذا الكتاب شيئاً أعجز عن تفسيره، أوهاماً خلتها هائلة آنذاك. وكما عبر بطل الرواية عتبة ذلك البيت من دون أن يستطيع أن يفقه سرّاً من أسراره كنت أعبر من دون أن أفهم شيئاّ ممّا حصل لي عن موت الأحاسيس. قرأت إحدى صديقاتي فصلاً من الترجمة وحملته إلى جريدة «السفير» وكان الكاتب الياس خوري المسؤول آنذاك عن الصفحة الثقافيّة، أُعجب به وسألها ما إذا كانت له تتّمة. وأرسل مخطوطة الترجمة بدوره إلى سهيل إدريس في دار «الآداب». وصل إليّ الكتاب بغلافه الزهري الجميل عبر الصديقة نجوى بركات. لم أكن أعرف أنّه نشر لأنّ الاتّصالات والطرقات كانت مقطوعة. فرحت به كثيراً. فجأة شعرت أنّي مضطلعة بمهمّة جديّة وليس فقط بوسيلة للتحايل على الكتابة أو لتزجية الوقت. تعرّفت إلى سهيل إدريس وقال لي ما دمت ترجمت الكتاب من تلقاء ذاتك فهل لديك كتب أخرى مترجمة في جعبتك. وكانت رواية «المرأة العسراء» لبيتر هاندكه، وكنت أعمل أيضاً على «أوريليا» لجيرار دو نرفال الذي نشر لاحقاً في دار «الفارابي». وهكذا كرّت السبحة.

هل تحوّلت الترجمة إلى شغفك أم ما زالت مجرّد مهنة؟

ترجمت من تلقاء ذاتي كتباً أحببتها. أحببت «الجميلات النائمات»، «المرأة العسراء»، و{أوريليا». بدأت الترجمة إذاً بصحبة النصوص التي أعجبتني ووافقت مزاجي آنذاك. ربما كان شغفي بالأدب هو الذي دفعني إلى الترجمة. لست شغوفة بالترجمة بحدّ ذاتها لكنّني أعتبرها إطلالة أخرى على الأدب، رغبة حارّة في إيصال إعجابي بالنص الذي أطالعه. بدأتُها ولديّ أمنية: ترجمة جميع الأعمال التي تعجبني (مثلاً تراودني في هذه الأيّام فكرة ترجمة كتاب «العشيق» لميراي سورغ مع أنّ أحداً لم يطلب منّي ذلك)، لكنّ هذه الأمنية تبقى صعبة إن لم تكن مستحيلة بالنسبة إلي لأنّ النشر يحتاج إلى تمويل وتسويق لا أفهم فيهما. ليتنا نستطيع ترجمة الأعمال المهمّة كافة ونشرها من دون وجود تابوهات تجاه كتب معيّنة، فالترجمة انفتاح مطلق على منجزات الإنسانيّة كلها وعلينا ألا نمتنع عن ترجمة كتاب ما بحجّة أنه يتعارض مع الموروثات أيّاً كان نوعها.

ترجمت أيضاً كتباً أعجبتني وكأنّني اخترتها بنفسي: «خفّة الكائن التي لا تحتمل لميلان كانديرا (المركز الثقافي العربي)، «مدافن الكبوشيّين» لجوزف روث (دار الفارابي)، «المثقّفون» لسيمون دو بوفوار (دار الآداب)، «جبل الروح» لغاو شنغجيان (دار الآداب)، «زون» لماتياس إينار (المكتبة الشرقيّة)، «تاريخ بيروت» لسمير قصير (دار النهار)» و{تحت العريشة} لهيام يارد (دار الآداب). هذه كتب أغرمت بها، لكنّي لا أنكر أنّ ترجمتي لبعض الكتب جاءت استجابة لمهنةٍ أجني منها بعض المال أو أقايضها برحلة إلى بلد ما.

أي من الكتب التي ترجمتها تحبين أن تكوني مؤلّفتها؟

قد أحب أن أكون مؤلّفة لرواية مشابهة لـ{جبل الروح» إنما في إطار لبناني. لكن الرواية التي كنت أحبّ لو أكون كاتبتها هي «زون»، رواية ماتياس إينار القطاريّة  المؤلّفة من جملة واحدة، فهي أشبه بمناجاة طويلة أو بالأحرى بفيضٍ هذياني حيث تمزج الشخصيّة الرئيسة تاريخها بتاريخ منطقة المتوسّط والحروب الكثيرة التي عاشتها على مرّ العصور بإبداعٍ قلّ نظيره. أحببت إيقاع هذه الرواية المتسارع الذي يجرفك خلفه، هذا الإيقاع الذي يوافق طبعي ومزاجي.

هل تعتمدين خلال الترجمة روحيّة خاصّة بك في نقل النص أم تبقين أمينة لنص المؤلّف؟

بالطبع أحاول أن أكون وفيّة للنص الذي أعمل عليه قدر الإمكان، ووفيّة بالطبع لدلالاته الثقافيّة وسياقه اللغوي. أقول قدر الإمكان لأنّ المهمّة ليست سهلة. لم يكن مخطئاً كثيراً من قال «كلّ مترجم خائن». قد تكون الخيانة أحياناً للنص نفسه. قد لا يجيد المترجم نقل مناخ النّص أو إيجاد معادلٍ لأسلوبه. كان أندريه جيد يتقن اللغة الإنكليزيّة، وهو أديب كبير ولم يوفّق بترجمة شكسبير. ولم يكن بودلير يتقن اللغة الإنكليزيّة ومع ذلك قدّم ترجمة جميلة لقصص الكاتب الأميركي إدغار ألن بو، وحصلت المعجزة مع نرفال حين قرّر، وهو في عمر الثامنة عشرة، أن يترجم «فاوست» رائعة الأديب الألماني غوته وكانت ترجمة عبقريّة. استطاع نرفال، بإحساسه المرهف وحدسه وخياله أن ينجز تحفة مع أنّه لم يكن يعرف إلا القليل من اللغة الألمانيّة. إلى حدّ أنّ غوته نفسه أعجب بها أكثر من نصّه. أحياناً تكون الخيانة لتركيبٍ لغوي، لسياقٍ ثقافي أو حضاري. المسألة شائكة.

ماذا عنك؟

أحاول من جهتي أن أكون على قدر المسؤوليّة. أتورّط عاطفيّاً مع النص وأحاول أن أنقل إلى جانب معادلاته اللغويّة طرافته، أو سخريته، أو شاعريّته، أو عنفه. سحرتني مثلاً شاعريّة نرفال في قصّته القصيرة «أوريليا». أخافني العنف الموجود في رواية «الرحيمات» لجوناثان ليتل حين ترجمت فصلاً منها لجريدة «النهار» (وهذا لم يمنعني من تمنّي أن يموّل ناشر أو جهة ثقافيّة ما العمل الروائي فأستطيع إكمال ترجمته لأنّه فذّ وألا تحول محرّمات دون إنجازه). أحزنتني ترجمة «جبل الروح» لغاو شنغجيان التي أكملتها  بعدما باشر بها الشاعر الراحل بسّام حجّار. كنت أتذكّره طيلة الوقت. أذكر قبل مرضه بفترة قصيرة اتّصلت به لأسأله عن عبارة في رواية «المثقّفون». أشعر أنّ خسارته كانت فادحة على جميع الأصعدة. أمّا ترجمة رواية «زون» فكانت مغامرة شيّقة بالنسبة إلي، شيئاً يشبه الجلجلة الممتعة. كان النص مليئاً بالأفخاخ اللغويّة. وكنت أتحدّى نفسي طيلة الوقت وأستعين بجميع معارفي في حقل التدريس والكتابة، وأحياناً أسأل السوّاح الفرنسيّين الذين أصادفهم في الطريق. كانت تلك الترجمة بمثابة حملة تعبئة حقيقيّة. صرت أهجس بها ليلاً ونهاراً. كنت متشنّجة ومتوتّرة ويائسة إلى أقصى حدّ، وفكّرت بالعدول عنها. هل لأنّني استعدت معها أجواء الحرب؟ خصوصاً أنّ البطل فيها يتطرّق عفويا لكل الحروب التي دارت في المنطقة. باختصار، أستطيع القول إنّني أتورّط عاطفيّاً مع النص الذي أعجب به، وأتورّط مهنيّاً مع النص الذي أعمل عليه أيّاً يكن. لكنّني وفي جميع الأحوال أكره المبالغة في الترجمة ولا أتقن اللغة المتفاصحة المتحذلقة الممعنة في عرض العضلات اللغويّة. أطمح دوماً إلى لغة بسيطة وعميقة وجذّابة. لا أعرف إذا كنت أتماثل مع طموحي هذا. ومع أنّني لا أستطيع ادّعاء أيّ تنظير، أعتقد أنّ إيجابيّة الترجمة الأساسيّة أنّها أوجدت لغة متحرّرة من ثقلٍ سلفي ما، منفتحة على الحداثة، مجدّدة ومتجدّدة في آن.

بعد احتراف وترجمات كثيرة، هل ما زلت تكتشفين أموراً جديدة في ترجمة النصوص واللغة وتحوّلها؟

بالطبع. مع كلّ كتاب يرتسم عالم ومناخ مختلفان، وكلّ كتاب يفرض ترجمته الخاصة به. لنقل إنّه يطوّع اللغة واللغة تطوّعه فهو يعطيها نفسه وإيقاعه وهي تعطيه جسده الجديد. أكتشف باستمرار طواعيّة اللغة العربيّة ومخزونها الهائل وشاعريّتها المشحونة. أكتشف أيضاً أهميّة الاستشارات والآراء الأخرى أو إذا شئت النظرة الأخرى إلى العمل الذي أقوم به. في السابق، كنت أخجل من استشارة أو استيضاح، أما اليوم فأشعر أنّهما من ضمن أدوات الترجمة الضروريّة. وأكتشفت أيضاً أهميّة الإنترنت إذ فتح آفاقاً جديدة ورحبة لهذا العمل الفكري الذي يتطلّب تعبئة متواصلة لمعارف ومعلومات وأبحاث كثيرة. يسمح الأنترنت لك وبسرعة كبيرة بأن تحيط بكثير من مرجعيّات النص التي لم تكن متاحة سابقاً: تحتاج أحيانا إلى صورة أو لوحة أو مشهد سينمائي أو أغنية للتشبّع بالنص أكثر وجعله حيّاً ومواكباً للحياة في تجليّاتها. كذلك اكتشفت ضرورة أن تعاد ترجمة الكتب المهمّة لأنّ ذلك يحييها ويمنحها تحوّلها الجديد.

لماذا غالبية ترجماتك منصبّة على الرواية؟

أعشق الشعر، أعتبره أرقى الموجودات لكنّي أجده صعباً بالنسبة إلي. أعشق مثلاً ترجمة كاظم جهاد للشاعر الإلماني ريلكه. أذكر، كنت مضطرّة إلى ترجمة مقطع لريلكه في بداية رواية «المهاجرون الأبديون» لمليكة المقدّم فاستعنت بالشاعر عباس بيضون. الغريب في الأمر أنّه لا يطيق الترجمة ولكنّه وجد المعادل في الحال. ترجمت كتباً تاريخيّة: «تاريخ بيروت» لسمير قصير؛ وعليّ القول إنّ ترجمته كانت هي أيضاً بمثابة جلجلة أخرى لي، كان عليّ إنهاؤها في وقت قياسي وكانت متاهة من المراجع التاريخيّة. كان الأمر أشبه بانتحار صدّقني، لو لم أكن بطبعي جلودة، لولا تشجيع الأستاذ فارس ساسين، والمحيطين بي لأصبت بانهيار عصبي أو ربما أصبت به ولم يكن لدي الوقت للاستغراق فيه. كذلك ترجمت كتباً سياسيّة وأبحاثاً فكريّة. لكنّ الرواية هي التي تشدّني. ترسم عالماً لصيقاً بي آلفه بسرعة.

بعد ترجمات كثيرة، هل آن الأوان لتصبحي كاتبة ولديك كتابك الخاص؟

الكتابة رغبة قديمة. سبق وقلت إنّ الترجمة شكل من أشكال محبّتي للأدب والقراءة. الأمر الوحيد الذي أستطيع الجزم به هو أنّني قارئة جيّدة وشغوفة. طيلة الوقت عشت وأعيش في تلهٍّ فكريّ دائم، بالطبع قدر ما تسمح لي إمكاناتي الفكريّة والماديّة. دائماً أعيش في حالة كتابة، نشرت بعض النصوص في الصحف، لكنّي لا أملك إلى حدّ الآن الجرأة الكافية لأتقدّم في اتّجاه إصدار كتاب يحمل صوتي. لكنّي سأحاول. سأخطو الخطوة الحاسمة.

back to top