حريم السلطان... القصة الحقيقية (12): مذبحة الأمراء على يد السلطانة الأم

نشر في 21-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 21-07-2013 | 00:02
انفردت السلطانة صفية بالنفوذ في حرملك السلطان مراد الثالث، ووضعت قواعد صارمة لتأكيد نفوذها على الجميع، وفرضت شروطها لدخول الجواري إلى جناح السلطان، ولم تعد هناك شاردة أو واردة تتم في الحرملك إلا بإذنها وعلمها وترتيبها، وشهدت السنوات الأخيرة من عمر السلطان مراد تزايدا لنفوذ صفية خاتون التي بدأت تدس أنفها في شؤون السياسة مستغلة في ذلك عددا من الوزراء ضعاف الشخصية، فكانت وبحق عنوانا لعصر أدارت فيه نساء الحرملك الدولة العثمانية من خلال وزراء الديوان.
كان غياب شخصية قوية كالصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو، أثره في انتشار عوامل الضعف في كيان الدولة العثمانية التي كانت وقتها تعد القوى الأولى على مستوى المعمورة، فالوزراء الضعاف وسياسة تغييرهم بسرعة ساعدت في انتشار مظاهر السخط بين فرق الجيش العثماني، التي لم تعد ترى السلطان يقودها كما كان يحدث أيام السلطان سليمان القانوني، وهي ظروف مكّنت صفية خاتون من أن توجه السياسة العثمانية كيف تشاء، ويقال إنها عملت على إدارة سياسة الدولة العثمانية نحو مزيد من التقارب مع جمهورية البندقية، فهي لم تنس يوماً أصولها الإيطالية، وعملت دائما على تدعيم أواصر العلاقة بين إسطنبول والبندقية، لصالح الأخيرة، وبطبيعة الحال لم يعارض السلطان مراد الثالث تحركات جاريته المفضلة وتطلعاتها، الذي سلم القيادة إلى أربع نساء هن والدته السلطانة الأم نوربانو، وأخته آسمات خاتون، وأم ولي العهد صفية خاتون، وأخيراً جافيد خاتون المسؤولة عن إدارة الحرملك.

انزواء مراد الثالث، مكَّن صفية خاتون من أن تمد نفوذها سريعاً في جنبات القصر العثماني، بعد وفاة السلطانة الأم نوربانو، وإقصاء آسمات سلطان، وتحجيم نفوذ الكايا جافيد خاتون، وأن تفيض سلطتها من الحرملك على بقية أركان الدولة العثمانية، وأكبر دليل على دور صفية خاتون في إدارة السياسة العليا للدولة العثمانية زمن السلطان مراد الثالث، يأتي لنا من إنكلترا البعيدة، ففي غرب أوروبا أدت سياسات الدولة العثمانية وتحركاتها النشطة إلى تغيير موازين القوى هناك، ففي موقعة وادي المخازن 1578م أجهزت القوات العثمانية المتحالفة مع قوات مغربية على جيوش البرتغال المتحالفة مع قوات مغربية مناوئة للوجود التركي، وكانت من النتائج المباشرة لهذه المعركة مقتل ملك البرتغال سبستيان وانهيار إمبراطورية البرتغال البحرية، وهو ما استغله ملك إسبانيا فيليب الثاني باحتلال كامل بلاد البرتغال وضمها إلى التاج الإسباني، الخطوة التالية التي أقدم عليها ملك إسبانيا هي مهاجمة مملكة إنكلترا وضمها إلى الحظيرة الكاثوليكية بعد أن اعلنت ثورتها الإنجيلية، فضلا عن رغبة مدريد وروما البابوية في توحيد الغرب الأوروبي في كيان سياسي واحد لمواجهة الخطر العثماني المتزايد.

لذلك لم تجد الملكة الإنكليزية إليزابيث أمام خطر الغزو الإسباني إلا الاستعانة بالسلطان العثماني، العدو اللدود للعاهل الإسباني، ذكرت الملكة إليزابيث في رسالة استنجادها بالسلطان مراد الثالث، أنها لا تؤمن بعبادة التجسيم أو التصوير في مذهبها البروتستانتي كما هو الحال في الدين الإسلامي، طالبة التحالف من أجل مواجهة الكاثوليك الإسبان الذين وصفتهم بـ»عبدة الأصنام». رد عليها سلطان العالم مرحبا بالتحالف الداعي لتقليص النفوذ الإسباني داخل البيت الأوروبي، إلا أنه اشترط في خطابه لملكة إنكلترا قائلاً: «وأنتم عليكم كذلك الطاعة والانقياد لبابي العالي»، واعداً إياها بالمساعدة المالية والعسكرية.

 كانت الملكة إليزابيث تعرف جيداً توزيع مراكز النفوذ في إسطنبول، لذلك بعثت برسالة منفصلة إلى صفية خاتون، وهو ما يكشف بجلاء عن المكانة الدولية التي وصلت إليها صفية خاتون، فالرسالة تحمل صيغ تبجيل وتعظيم من إليزابيث الأولى للسلطانة صفية، ما يعد اعترافا بمكانتها داخل البلاط العثماني، كما تعكس تلك الرسائل كيف لعبت المرأة دوراً كبيراً في سياسات تلك العصور وكيف لعبت عملية تبادل النساء الرسائل دورا من أجل تأمين الديبلوماسية والتحالفات الاقتصادية والعسكرية.

مذبحة

لم تكتف صفية خاتون بما حققته من انتصارات وتأكيد انفرادها بإدارة الدولة العثمانية، بل أرادت أن تكسب انتصاراتها الديمومة والاستمرارية، لذلك عملت على استصدار قرار من السلطان مراد الثالث، بتعيين ابنه منها الأمير محمد خان كولي عهد الدولة العثمانية، بذلك ضمنت صفية خاتون، العرش لابنها، لكن إخوته غير الأشقاء كانوا مصدر قلق بالنسبة إليها، فهي تعرف يقيناً أن الجيش العثماني غير راض عن سيطرتها على السلطان ضعيف الشخصية، وقد ينحاز، نكاية في صفية خاتون، إلى أيّ من أبناء السلطان إذا أعلن الثورة ضد ابنها الأمير محمد بعد توليه السلطنة، لذلك رأت صفية خاتون ضرورة إقصاء إخوة ابنها الأمير محمد من المشهد السياسي للدولة العثمانية وإخراجهم من معادلة توازنات القوى داخل البلاط العثماني، خاصة أن السلطان مراد الثالث كانت لديه ذرية كبيرة، وكان لديه أكثر من 15 ابنا كلهم على أتم الاستعداد لتولي العرش العثماني.

حلمت صفية خاتون بلقب «السلطانة الأم» الذي ستحمله بعد وفاة زوجها السلطان مراد، وتولي ابنها محمد أمور البلاد والعباد، لن تنفرد بإدارة الحرملك ويصبح تدخلها في أمور الدولة عاديا، بل ستكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في البلاط العثماني، سيكون لديها مخصصات مالية ضخمة ووضع رسمي تتخطى به صراعات جواري الحرملك، ومشاكلهن التافهة.

الهدف الذي وضعته صفية خاتون نصب أعينها، أعماها عن أي شيء آخر، فقررت استخدام الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتثبيت نفوذها نهائياً داخل الحرملك، قررت أن تخوض في بحور الدم خوضاً، دبرت صفية خاتون مؤامرة دموية في هدوء وصمت، قررت تصفية جميع الأمراء لتأمين وصول ابنها بسلاسة إلى عرش الدولة العثمانية، كانت تعرف أن أيّ تهاون في خطتها قد يؤدي إلى الفشل وخسارة كل شيء، لذلك اتفقت مع جواريها وعبيدها.

ما ان أعلن عن وفاة السلطان مراد الثالث في يوم 19 يناير 1595م، حتى أعطت صفية خاتون إشارة البدء لتنفيذ مؤامرتها، كانت وفاة السلطان مراد تعني ساعة الصفر لمخطط صفية خاتون، فعندما بدأت الاستعدادات في قصر طوب كابي، لإعداد جثمان العاهل العثماني، وإجراء مراسم العزاء في القاعة الكبرى لقصر السلطنة، التي من المفروض أن يتقدمها السلطان الجديد محمد الثالث، حتى تحركت صفية خاتون على أكثر من مستوى.

في البداية أسرعت صفية خاتون إلى جناح ولدها ولي العهد محمد خان شاهزاده تخبره بوفاة والده، وتطالبه بسرعة التوجه إلى الديوان السلطاني حيث وزراء الدولة في انتظاره، لإعلانه سلطاناً جديداً للبلاد، حتى تقطع أيّ محاولة من إخوته أو أحد الوزراء لتدبير مخطط بديل، فضلاً عن أن يتولى الإشراف على مراسم عزاء السلطان الراحل، واستقبال المعزّين وهو جالس على كرسي العرش، لم يعترض السلطان الشاب محمد الثالث، فهو كوالده ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، لم يكن إلا دمية في يد والدته صفية خاتون وجواري القصر، إلا أنه سأل أمه عن مكان تواجد إخوته غير الأشقاء، بعد أن لاحظ اختفاء معظمهم من مراسم العزاء.

لم تتحرج صفية خاتون، عندما أجابت ولدها قائلة: «لاتقلق يا عزيزي، فأنت وحدك بصفتك سلطان البلاد الجديد، ستتولى واجب تقبّل العزاء في سلطاننا الراحل، أما إخوتك الباقون، فقد سبقوك إلى داخل الضريح ليكونوا في استقبال جثمان والدهم السلطان المعظم عند الدفن».

لم يحمل السلطان محمد كلام والدته على المعنى الحرفي، لكنها كانت تعني ما تقوله حرفياً، فأبناء السلطان الثمانية عشر، سبقوه إلى القبر فعلا قبيل شروق الشمس في عتمة الظلام ولكن كجثث هامدة، فعبيد صفية خاتون نفذوا أوامر سيدتهم، التي صدرت بضرورة الانفراد بكل أمير على حدة، ثمانية عشر من العبيد بعدد الأمراء، دخلوا على الأمراء في أجنحتهم، انقضوا عليهم خنقوهم بأوتار الأقواس الناعمة، في مذبحة بشعة.

عندما طلع النهار كان غراب الموت ينعق في جنبات قصر الباب العالي، الأمراء الشباب حملوا على الأعناق إلى قبر والدهم، دفنوا قبله، في مشهد جنائزي صامت، لم يحضره إلا العبيد القتلة.  

السلطان الشاب محمد الثالث بحث عن إخوته، لم يجدهم، اكتشف الحقيقة، فالنبأ رددته جنبات الحرملك، عندما واجه السلطان صفية خاتون، التي حصلت رسميا على لقب السلطانة الأم، قالت له ببرود يليق بأكثر السفاحين دموية،» لقد خلصتك منهم حتى لا ينازعك في السلطة أحد منهم، ولتصبح أنت وحدك سلطان العالم بلا منازع، فعلت معك ما فعله والدك السلطان مراد مع إخوته الخمسة، أعمامك الأمراء محمد وسليمان ومصطفى وجهانكير وعبدالله، أتذكرهم، أنت لم ترهم، والدك السلطان أمر بقتلهم، حتى لا يزاحمه أحد منهم في السلطة، كل ما حدث أنني أرحتك من اتخاذ هذا القرار البشع، لم يكن هناك رفاهية الوقت، حتى أنتظر جلوسك على العرش، ثم تصدر قرارك بقتل إخوتك، قوات الجيش لا ترضى بك ولا بي، لو وضع قادة جيشك يدهم على أحد إخوتك، فمصيرك ومصيري الموت، لذلك فعلت ما فعلت».

 لم يغضب السلطان محمد الثالث، كان يعلم في داخله قوة حجج والدته، ويعلم أن قرار قتل إخوته اتخذ منذ تعيينه وليا للعهد، كما جرت العادة العثمانية، ولم يستغرب من جرأة والدته على سفك الدماء، فهي سليلة أسرة بافو الإيطالية، الذين اعتادوا خنق أعدائهم في سجونهم القذرة، ثم يلقون بجثثهم في مياه النهر ويخرجون في اليوم التالي بالابتسامة تعلو وجوههم، يدركون أن ماء النهر أخفى جريمتهم، ما أدهشه حقيقة هو قدرة والدته السلطانة صفية على تدبير مؤامرة بهذا الحجم دون أن يشعر أحد في الحرملك، على الرغم من أن العيون مسلطة والآذان مرهفة، كان يحترم والدته ويحبها، ولكن الآن لمحة من الخوف سكنت قلبه تجاهها.

 كما عرفت السلطانة الأم صفية خاتون كيف تسكت ابنها، عملت على إسكات الرعية وفرق الجيش التي وصلها الخبر سريعا، عندما وصل الخبر كانت قد تمت عملية مراجعته من قبل السلطانة الأم وحاشيتها، ما رددته العامة متسائلة عن هوية السلطان الجديد، هو أن محمد خان ابن السلطان الراحل، قد أصبح سلطان البلاد الجديد، أما إخوته فقد قتلوا بعد أن أعلنوا تمردهم على السلطان الجديد وحاولوا الانقلاب عليه بل وقتله، فكان الموت جزاء الخائن، هكذا تم القضاء على الإخوة ومسح ذكراهم بتشويه أفعالهم أمام العامة، خطوة ذكية لكنها دموية من صفية خاتون التي نجحت في تثبيت دعائم سلطان ولدها الشاب.

أما إخوته الثمانية عشر فقد حفظت لنا سجلات القصر العثماني أسماءهم، وهم: عثمان، وسليم، وبايزيد، وجيهانكير، ومصطفى، وعبد الرحمن، وعبدالله، وكركود، وعمر، وعلي، وحسن، وحسين، وأحمد، ويعقوب، وعلمشاه، ويوسف، وإسحق، وعلاء الدين، لم يبق إلا الأسماء أما الأشخاص فقبورهم محفوظة حتى يومنا هذا في آيا صوفيا بجوار والدهم السلطان مراد الثالث شاهدة على الجريمة البشعة.

سلطانة الدولة

لم تكن تلك المذبحة التي أشرفت عليها السلطانة الأم صفية خاتون، إلا مقدمة لعهد سيطرتها على الدولة العثمانية سيطرة فعلية، فطوال سنوات حكم السلطان محمد الثالث (حكم في الفترة من 1595حتى 1603م) ظلت مقاليد الحكم بيدها هي، فولدها السلطان الجديد لم يكن يختلف عن والده في ضعف الشخصية وعشق الجواري الحسان، لذلك استعادت السلطانة صفية سلاح عدوتها السابقة السلطانة نوربانو، وأحاطت ابنها السلطان بعدد من الجواري، تشغله بالنساء عن أمور الحكم، تلهيه بمتع الحياة عن إدارة الدولة التي كانت تحتاج إلى رجل بمواصفات خاصة لانتشال الدولة من المستنقع الذي بدأت تسقط فيه، فالدولة العثمانية منيت بهزائم هنا وهناك، فالدولة الصفوية في إيران استعادت قوتها وحققت نجاحات هائلة في العراق، أما النمسا فقد تقدمت بجرأة تهاجم الحدود العثمانية في البلقان محققة انتصارات كبيرة على الجيوش العثمانية، أما فرق الجيش العثماني التي لم تعد ترى السلطان ولم تعد تعرف لها قائداً يتولى زمامها، فقد دخلت في صراعات داخلية، السباهية ضد الإنكشارية، والولاة ضد بعضهم البعض، فوضى ضربت أركان الإمبراطورية العالمية.

وسط كل هذه المآسي، كان السلطان في جناحه الخاص يحظى بلحظات من وهم السعادة مع جواري تم إعدادهن من إجل تخدير السلطان وإبعاده عن الحكم، من أجل أن تحكم السلطانة الأم صفية خاتون ومن خلفها الحرملك على شؤون الحكم، ولم يكن أحد غافلاً عما يجري في القصر، فسفراء الدول الأوروبية في إسطنبول، كتبوا العديد من التقارير حول سلطة الحرملك، خاصة السلطانة الأم صفية خاتون، التي اعترفت الدول الأوروبية بمكانتها في مراسلات رسمية، كونها أصبحت تدير الدولة فعلياً، وهو ما عبر عنه صراحة السفير الفرنسي في تقريره لباريس قائلاً: «إن الحريم يقمن بدور كبير في حكم الدولة العثمانية، تقودهن السلطانة الأم، وهي تسيطر على الباشوات (أي الوزراء) وتضفي عليهم العديد من مظاهر الرعاية.

استسلم السلطان محمد الثالث لرغبات والدته السلطانة الأم، التي أظهرت شبقا للسلطة لم يعرف أيّ حدود، وأحكمت قبضتها على إدارة الدولة بشكل غير مسبوق، حتى اتفق مؤرخو الدولة العثمانية على أنها المرأة الوحيدة التي مارست الحكم الفعلي في تاريخ الدولة العثمانية، بصورة فاقت كل من جاء قبلها وبعدها من نساء الحرملك اللاتي عرفهن التاريخ.

باتت السلطانة الأم صفية خاتون، سيدة الحرملك والشخصية الأولى في الدولة، صاحبة الأمر والنهي، ابنها السلطان الضعيف عرفت كيف تدخله حظيرة الحرملك، يرتع في نعيم الجواري، غير عابئ بمصير دولته وشعبه، أما رجال الدولة فأدركوا جيدا أن مخالفة أوامر السلطانة الأم يعني الموت، فعندما ثارت فرق الإنكشارية، التي استغلت غياب السلطان، والفوضى التي ضربت الدولة، لتعيث في العاصمة إسطنبول فساداً، وهاجموا قصر «طوب كابي سراي»، في سابقة دلت على مدى المهانة التي وصلت إليها شخصية السلطان العثماني، الذي سقط من نظر الجميع.

 وطالبت فرق الإنكشارية بدفع رواتبهم كاملة؛ فورا، وأن تلغى الإصلاحات النقدية التي أجرها الصدر الأعظم على العملة ما أدى إلى تخفيض قيمتها، بعد أن ارتفعت بصورة مبالغة نتيجة لألاعيب المضاربين، لم يجد السلطان محمد الثالث ما يدفعه للجنود الثائرين، ذهب إلى أمه علها تدبره في دفع خطر الجيش الغاضب، لم تر السلطانة الأم في الفوضى الجارية إلا فرصة لتدعيم نفوذها، فأرسلت إلى قادة الإنكشارية رسولا من قبلها، لتقول لهم: «إن السلطان معكم، ويتفهم أسباب ثورتكم، وهو غاضب على الصدر الأعظم، لأنه سبب هذه الفكرة»، وبعثت رسالة أخرى إلى قادة الثورة، مفادها أن السلطان سيدفع لكم رواتبكم، مع زيادة عن المقرر، إذا ما فصلتم رأس الصدر الأعظم عن جسده أولاً»، هكذا قضى الصدر الأعظم نتيجة مؤامرات السلطانة الأم صفية خاتون.

جاء انهيار نفوذ السلطانة صفية خاتون، من حيث لم تحتسب فالموت الذي لا تستطيع شخصية بنفوذ صفية خاتون دفعه، زار سريعا السلطان محمد الثالث سنة 1603، ولم تمض على فترة سلطنته إلا ثمانية أعوام، عن عمر ناهز الـ36 عاما، وهو في قمة شبابه، وتولى خلفه ابنه الشاب السلطان أحمد الأول، الذي كان في الرابعة عشرة من عمره عندما تولى إدارة الدولة العثمانية، ومع توليه السلطنة انتقل لقب السلطانة الأم من صفية خاتون إلى أم السلطان الجديد؛ خندان خاتون، يونانية الأصل، وكانت الأخيرة على قدر من المسؤولية التاريخية، وسمو الأخلاق، فنصحت ابنها السلطان أحمد بالعفو عن أخيه الأمير مصطفى وعدم تنفيذ حكم الإعدام فيه، ووفقا للقاعدة العثمانية بقتل السلطان لإخوته الذكور، وهو ما لم ترض عنه السلطانة صفية خاتون التي أرادت أن تمارس نفوذها كما كان وقت زوجها وابنها السلطانين مراد الثالث ومحمد الثالث، مع حفيدها السلطان أحمد الأول، إلا أن السلطانة الأم خندان خاتون وقفت لها بالمرصاد، وأوعزت لابنها بتخصيص قصر منيف على ضفاف البوسفور، بعيدا عن مقر الحكم في قصر الباب العالي، لتقضي فيه بقية حياتها، وهو ما تم فعلاً لتمر السنوات الأخيرة على السلطانة صفية في هدوء تتحسر على نفوذها المتداعي، حتى زارها رسول الموت سنة 1605م، لكن ذكراها كمرأة حديدية في الحرملك لم تضع هباء فعم قليل سيستقبل «الحرملك» سلطانة جديدة ستصل إلى مستوى أعلى من النفوذ والسلطة، انها «كوسم سلطان» الملقبة بـ»ماهبيكر» أول امرأة تتولى منصب نائبة السلطان رسميا في تاريخ الدولة العثمانية.

 الأقفاص

أراد السلطان محمد الثالث ووالدته السلطانة صفية خاتون إحكام السيطرة على الحرملك والقضاء على أيّ منافس محتمل، فبعد تنفيذ مذبحة الأمراء، قررت السلطانة حفصة حبس بقية أمراء آل عثمان في أجنحة خاصة عرفت بـ«الأقفاص».

كانت تلك الأقفاص فكرة شيطانية من بنات أفكار السلطانة صفية خاتون، تركت آثارها السلبية على مستقبل الدولة العثمانية، فطبقا للقاعدة كان يتم إرسال أمراء آل عثمان كولاة على ولايات الدولة المختلفة ليتم تدريبهم على شؤون الحكم والإدارة، يختلطون بجنود الدولة يكتسبون مهارات عسكرية لازمة لإدارة دولة بضخامة الدولة العثمانية، لكن قرار السلطانة صفية جاء ليبعد الأمراء عن كل هذه الأمور، فما يكاد الأمير تظهر عليه علامات البلوغ حتى يجر جرا إلى أحد أجنحة الحرملك، يحبس فيها ويمنع من مخالطة أقرانه، ولا يصاحبه في حبسه الانفرادي إلا العبيد والخصيان.

كانت قواعد «الأقفاص» واضحة لا يمكن للأمراء الخروج من تلك الأقفاص لأيّ سبب كان، كما أنهم محرومون من معاشرة النساء، لأن الغرض من حبسهم هو قطع نسلهم، فوجود ذرية لأيّ من هؤلاء الأمراء خطر على حياة السلطان القائم، ولم يكن الأمير في محبسه ينتظر إلا دخول أحد العبيد بأطباق الطعام أو دخول السياف يخلصه من عذابه بقرار من السلطان، وهو ما جعل أمراء الأقفاص نموذجا للمرضى النفسيين الذين قضى عليهم البقاء في الظلم والوحدة فترات طويلة.

وهكذا بدلا من أن يخرج الأمراء لممارسة ألعاب الفروسية والاختلاط بجنود الجيش العثماني والمشاركة في إدارة الدولة، كانوا يحبسون في أقفاص كحيوانات يمنع الاختلاط بها، ولم يجر ذلك القرار إلا الخراب على الدولة العثمانية، فقد وصل إلى حكم الدولة سلاطين ضعاف، يعانون من أمراض نفسية، فكانوا لعبة في أيدي رجال الدولة الذين تحكموا في الدولة لتحقيق مصالحهم الشخصية.

back to top