امرأة... وثلاث ضحايا!

نشر في 30-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 30-07-2013 | 00:01
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على الرغم من ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
هل يمكن ان تتبدل الصداقة بين ثلاثة شباب امتدت منذ الدراسة الابتدائية حتى الجامعية، وتتحول بين ليلة وضحاها إلى جريمة مروعة تودي بحياتهم، والأغرب أنهم قتلوا بأيدي بعضهم البعض، كيف؟

ثلاثة أصدقاء... جمعت بينهم أجمل الذكريات في الحي الشعبي العتيق حيث نشأوا... وتربوا... وكبروا وكأنهم ثلاثة أشقاء... لكن في الجامعة بدأت تظهر لدى كل منهم شخصية مستقلة... طارق ثائر يقود التظاهرات وينظم الشعر المعارض للحكومة ويفوز دائماً بأمانة اتحاد طلاب الكلية. أما مدحت فانغمس في الفرق الرياضية وحصد بطولات الملاكمة على مستوى الجامعة، بينما ظل عصام يتنقل بين أغصان الجميلات والحسناوات فوق شجرة النزوات... دفعه الثراء الذي كانت تنعم به أسرته إلى الاستمتاع بالحياة على طريقته الخاصة، ولهذا كثيراً ما كان ينتقد طارق واصفاً قيادته لاتحاد الطلاب والتظاهرات بأنها مضيعة للوقت، ويسخر من عشق مدحت للرياضة مؤكداً أنها لا تفتح بيتاً ولا تصنع رصيداً في البنوك، فالميداليات التي يحصل عليها هي في النهاية قيمة أدبية ومعنوية فقط...

كان عصام يرى بينه وبين نفسه أن الفقر دفع كلا من صديقيه إلى البحث عن ذاته سواء في انتخابات الطلاب أو حصد البطولات، بينما يرى طارق ومدحت أن المال هو الذي جعل صديقهما عصام تافهاً بلا فكر أو عضلات. ومع هذا كانت الصداقة القديمة والعيش والملح تحفظ للثلاثة عاطفة جياشة متبادلة.

عام الضباب

وصل الثلاثة إلى السنة الثالثة في كلية التجارة... لكن ما إن بدأ العام حتى ألقي القبض على طارق للمرة الثالثة بتهمة التظاهر ضد الدولة بسبب عام الضباب الذي سبق حرب أكتوبر... وكالعادة لم يزره أحد في المعتقل خوفاً من الشبهات، إلا أن إيمان كانت أشجع من زملائه الرجال وأصرت على زيارته... وما إن رآها طارق حتى رقص قلبه فرحاً بفتاة أحلامه التي خجل من أن يصارحها بحبه ثلاث سنوات كاملة... فصارحته هي في المكان المخصص لزيارة المعتقلين.. وسألته لماذا يخفي عنها حبه... لم يجد طارق رداً سوى أن أمسك بيدها وطبع فوقها قبلة طويلة. كانت أجمل لحظة حب في حياة طارق وإيمان على رغم أنهما عاشاها داخل معسكر الاعتقال.

أفرجت النيابة عن المعتقلين بعد خمسة عشر يوماً، وتوالت احتفالات الطلاب بعودة طارق وفوز مدحت ببطولة الجمهورية للملاكمة على مستوى الجامعات، بينما التفّت الجميلات حول عصام لمشاهدة أحدث سيارة في مصر بعدما اشتراها له والده... فيما ينشغل بإجراء القرعة بين صديقاته لاختيار صاحبة الحظ الجميل التي ستفوز بالجلوس إلى جواره في أول نزهة بهذه السيارة التي تخطف العيون!

انتهت الدراسة الجامعية ونجح الثلاثة... تقدم طارق إلى أسرة إيمان طالباً يدها... وتحدد موعد الزفاف... ولأن الأسرتين كانتا من محدودي الدخل أقيم حفل بسيط للغاية وسكن العروسان في شقة مؤلفة من حجرة واحدة وصالة في المساكن الشعبية!... التحق طارق بوظيفة محاسب في الإدارة المالية بأحد المصانع، واختفت أخبار مدحت، وسافر عصام إلى ألمانيا برفقة والده المليونير لشراء ماكينات جديدة... ولأول مرة تفرّق الأيام بين الأصدقاء الثلاثة!

أنجبت إيمان طفلها الأول ثم الثاني وبدأت المشاكل تدبّ بينها وبين طارق، فطالبته بالكف عن نشاطه السياسي لأن الوضع لم يعد يحتمل وأعباء الحياة لا ترحم وتربية الأطفال تحتاج إلى العمل ليل نهار، خصوصاً بعدما حذرت مباحث أمن الدولة طارق من محاولاته إثارة عمال المصنع ضد الإدارة!

أما مدحت فغرق في بحر الإدمان بعدما جرفه أصدقاء السوء إليه، وتدهور مستواه الرياضي وضاعت البطولات ودخل دائرة النسيان... ولم يجد في النهاية سوى وظيفة مساعد مدرب في أحد مراكز الشباب.

 

شقة جديدة

مرت سنوات... وهكذا هي سنة الحياة!

في أحد الأيام، فوجئ سكان حارة الشرقاوي بسيارة فارهة تتوقف وينزل منها رجل أنيق، له هيبة، برفقة رجلين يفرغان الهدايا من السيارة ويصعدان خلفه إلى شقة طارق! زيارة مفاجئة لعصام بك... بالغ طارق في الترحيب به وراح عصام يستعرض المشروعات الهائلة التي ورثها عن أبيه والثراء الذي جعله صديقاً لأصحاب المناصب والنفوذ وكبار المسؤولين... كان طارق يستمع إلى عصام في انبهار وفخر ويخفي خجله من الطريقة التي استقبلت بها إيمان صديق العمر... كان واضحاً أنها ترحب بضيف زوجها من وراء قلبها، إلا أن آخر ما قاله عصام قبل انتهاء زيارته شد انتباهها بشدة:

* اسمع يا طارق... أنا محتاج لك كمدير مالي... لكن أرجو أن تكون زوجتك شاهدة عليك... ممنوع السياسة... علاقتي بالحكومة سمن على عسل... فلا تفسدها... واجب الصداقة هو الذي حتم عليّ هذه الزيارة.. سوف تنتقل إلى شقة تليق بمنصبك الجديد... أولادك سيدخلون مدارس أجنبية... ستعيش حياتك لأول مرة... ما رأيك يا إيمان؟

هزت إيمان رأسها بالموافقة بطريقة لم تعجب طارق... فراح عصام يخبر أنه زار بالأمس مدحت وعنفه على السنوات التي ضاعت من عمره بسبب الإدمان، واتفق معه على أن يستلم عمله أميناً للمخازن في أحد المشروعات حتى يلتئم شمل الأصدقاء مرة أخرى.

غادر عصام وسط فرحة طاغية لطارق الذي قرر بالفعل أن يقلع عن أي عمل سياسي، لكنه عنف إيمان على سوء استقبالها لصديق عمره، ومعاملتها الفاترة له، وإذا بإيمان تفجر مفاجأة:

* أنت لا تعلم يا طارق كم حاول هذا الإنسان معي ونحن في الجامعة... أخفيت عنك مضايقاته لي لأني لم أشأ تعكير صداقتك به... لم أشعر يوماً بالارتياح له... عيناه يسكنهما شيطان مارد... كان الطلاب معهم حق حينما وصفوه بزير النساء.

** إيمان... كنا صغاراً... وعصام الآن رجل مسؤول في الدولة... ويريد أن ينتشلني أنا ومدحت من الفقر... يجب أن نشكره.. ولا نؤنبه على الماضي.

لم تعلّق إيمان... ربما يكون زوجها صائباً... تمنت أن تكون هي المخطئة. بدأت تفكر في حياتهما الجديدة التي وعد بها عصام... تخيلت الشقة الجديدة والمدارس الأجنبية والحياة المرفهة... وبدأت الفرحة تتسلل إلى أعماقها رويداً رويداً؟

ابتسمت الحياة

توالت زيارات عصام لطارق في شقته الجديدة... امتلأ البيت بالهدايا والتحف المهداة من عصام... واتسعت أرباح طارق بالإضافة إلى راتبه الكبير... اختلفت الحياة فعلاً وابتسمت للأسرة... وتغيرت معاملة إيمان لعصام... بل بدأت تتابع مع زوجها ظهور عصام في البرامج التلفزيونية المختلفة.

لكن كثيراً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن... اختفى طارق في أحداث سبتمبر الشهيرة... وأسرعت إيمان تستغيث بعصام... أبلغها أنه غاضب من طارق لأن «الزمار يموت وأصابعه بتلعب»... أخبرها أن مباحث أمن الدولة ألقت القبض عليه ما جعله في غاية الخجل أمام أصدقائه في وزارة الداخلية... توسلته إيمان بدموعها أن يبذل قصارى جهده ليساعد زوجها من أجل أطفاله... وأقسم لها عصام بأنه سيحاول زيارته في أقرب وقت.

ثلاثة أيام كاملة لم تنم فيها إيمان لحظة واحدة حتى تلقت أسوأ خبر في حياتها... زارها عصام وطلب منها أن تتقبل الخبر بهدوء حتى لا تسيء إليه هو الآخر... لقد مات طارق في سجنه وسوف يتسلم جثته في الغد... صاحت إيمان:

* عذبوه...

** أنت بهذه الطريقة سوف تؤذين نفسك يا إيمان، دعيني أتصرف بشكل لا يستفز رجال الأمن لأنهم أكدوا لي أن وفاة طارق كانت بالسكتة القلبية... غداً سأتسلم جثته ومعي مدحت... ستكون سيارتي تحت أمرك لتنقلك إلى مدافن أسرته بالبحيرة... انتظرينا هناك لتحضري الوداع الأخير لجثمان طارق!

اعترافات قتيل

ستة أشهر كاملة لم تخلع فيها إيمان ملابس الحداد السوداء... لم يتركها عصام لحظة واحدة... احتواها بالزيارات والمكالمات وأنفق على البيت من الألف إلى الياء بعدما حرر لها شيكاً بنصف مليون جنيه كمكافأة نهاية خدمة لزوجها الراحل... شكرته إيمان وهي ترجوه أن يغفر لها سوء ظنها به... لكن عصام راح يرجوها أن تتخلص من أحزانها فالموتى لا يعودون إلى الحياة... وتشجع أكثر فعرض عليها الزواج ليكمل دينا في رقبته نحو صديق العمر. ترددت إيمان شهراً... شهرين... وفي الشهر الثالث همست لعصام بالموافقة... وتم الزفاف بعد تسعة أشهر من رحيل طارق!

أسعد الرجال

ومضى قطار العمر... اكتمل العام الخامس على الزواج... كانت إيمان تغض الطرف عن نزوات عصام التي تكتشفها يوماً بعد يوم ما دامت أنها أصبحت سيدة القصر التي يشار إليها بالبنان... وكان عصام أسعد رجال الدنيا بعدما امتلك المرأة الوحيدة التي استعصت عليه طوال حياته... كان يعرف أن قلبها مغلق منذ اللحظة التي رحل فيها طارق... لكن جسدها معه وهذا ما كان يرجوه ويتمناه ويحلم به.

مرة أخرى تعرف الأحزان طريقها إلى قلب إيمان... لكن الصدمة هذه المرة كانت مروِّعة... عثر خفراء المزرعة الكبيرة التي يمتلكها زوجها على جثة عصام، وإلى جواره جثة مدحت، بعدما سمعوا طلقات نارية تدوي حيث كان عصام يستقبل زائره مدحت! أحدهما أطلق النار على الآخر ثم انتحر... لكن السؤال المحير: من الذي كان صاحب الطلقة الأولى؟!

لم تكن الإجابة عن السؤال ممكنة إلا بعد صدور تقرير الطب الشرعي... لكن امرأة واحدة في مصر عرفت السر قبل أن يكتشفه الطب الشرعي... فقد تقدمت السيدة إيمان إلى النيابة بطلب الاستماع إلى أقوالها بشكل عاجل... كان ذلك عقب الحادثة بخمسة أيام فقط!

وأمام المحقق قالت إيمان:

*** تلقيت بالأمس خطاباً بالبريد المسجل يحمل وقائع في غاية الخطورة... وأعتقد أنه يفيد التحقيق الجاري الآن... الخطاب موقع من السيد مدحت الصديق الصدوق لزوجي الراحل الأول طارق وزوجي الراحل الثاني عصام!

** وبدأ وكيل النيابة يقرأ الخطاب الذي سلمته له إيمان بخط يد مدحت ويقول لها عبر سطوره:

* إيمان... أعرف أن خطابي هذا سوف يصلك بالبريد المسجل والمستعجل بعد ثلاثة أيام على الأكثر، لأني الآن في طريقي إلى النذل عصام والخطاب سيصلك بعد أن أقتله! لقد ارتكبت أنا بحقك وحق طارق خطيئة لا تغتفر مقابل مبلغ يسيل له اللعاب... كتمت سر قتل عصام لطارق... حكاية القبض عليه وموته في مباحث أمن الدولة فبركها عصام ليفوز بك بعد أن يتخلص من زوجك... والآن رد لي القدر الصاع صاعين... اكتشفت أخيراً أن عصام عينني أميناً للمخازن على بعد 300 كيلو من القاهرة ليتمكن من الانفراد بزوجتي وقتما يشاء... لقد اكتشفت خيانته وخيانتها بالصدفة! قررت أن أنتقم لنفسي ولك... سأزوره بعد ساعتين من دون موعد مسبق... وسأتلو عليه قرار الاتهام في لحظات ثم أطلق عليه الرصاص وأنتحر لأن كلا منا لا يستحق الحياة! وأخيراً نسيت أن أخبرك أنني قبل أن أتوجه إلى مكتب البريد لأسجل هذا الخطاب بعلم الوصول لك قتلت سوسن... زوجتي... وضعت لها السم في العصير الذي تحبه، لتموت في نفس اليوم الذي يودع فيه صديقها الخائن الحياة! سامحيني يا إيمان... ووداعاً... ولن نلتقي!

أغلقت النيابة ملف التحقيق بعدما ثبت بتقرير الطب الشرعي، أيضاً، أن مدحت كان صاحب الطلقة الأولى، صوبها إلى قلب صديق عمره عصام! وكان أيضاً صاحب الطلقة الأخيرة التي صوبها داخل فمه...

ولأن عصام لم يكن له وارث سوى إيمان، فقد أصبحت سيدة القصر ومديرة المشروعات... ودخلت عالم الثراء من أوسع أبوابه...

 

back to top