لا تتكلوا على الماضي لتوقع المستقبل!

نشر في 06-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 06-01-2013 | 00:01
No Image Caption
برزت ظاهرة ترتكز على تكثيف المبادرات والتحركات في الدول الخليجية، لا سيما قطر والمملكة العربية السعودية، وأصبحت مختلف محاور النفوذ القطري، مثل الأموال والمساعدات (الرسمية وغير الرسمية) ميزة أساسية أخرى من الربيع العربي لا سيما في ليبيا وسورية.
 Peter Beaumont تعكس أحدث التقارير الصادرة من سورية صورة قاتمة من الجانبين، إذ اعتبر الزميل غيث عبد الأحد في تقرير لافت نُشر في صحيفة "غارديان" في الأسبوع الماضي أن المعارضة المسلحة التي تواجه الرئيس بشار الأسد في حلب لا تزال منقسمة بالقدر نفسه، إذ تنتشر عمليات النهب حتى الآن وتتضاعف الخصومات مع مرور الأيام.

في دمشق، يستمر تدهور الوضع بالنسبة إلى الأسد وأوساطه الداخلية، فتشير بعض المصادر إلى أن الرئيس نفسه أصبح "معزولاً وخائفاً" وقد توارى عن الأنظار ولم يعد مستعداً للظهور في العلن. بدأت قدرة القوات العسكرية المقربة منه على شن العمليات تتراجع أيضاً فيما يعمد الروس إلى إبعاد أنفسهم عن الأسد وعن سورية كلها على الأرجح.

تشير جميع التوقعات إلى أن نهاية النظام أصبحت حتمية، وإذا لم يحصل ذلك فوراً فهو سيتحقق في المستقبل القريب. إليكم أبرز سؤال مطروح راهناً: ما الذي سيحصل في المرحلة اللاحقة؟ بما أن الرغبة في توقع الأحداث وإطلاق التكهنات هي جزء من طبيعتنا، وهي أبرز سمة تطبع الصحافيين والمحللين على وجه التحديد، فلا شك أننا سنطلق أحكاماً خاطئة كالعادة.

غالباً ما تكون الأدوات الأكثر شيوعاً لشرح الظروف المعقدة مثل الصراعات مضلِّلة، بما في ذلك الميل إلى إقامة مقارنات تاريخية لتفسير الأحداث الراهنة، وقد حذرت مدونة "ملوك الحرب" المثيرة للإعجاب والتابعة لقسم دراسات الحرب في كلية كينغ، لندن، من هذا الأمر قبل عيد الميلاد. على أرض الواقع، لا يشبه الشرق الأوسط دول البلقان في التسعينيات ولا تشبه مصر إيران في حقبة الثورة. استنتجت مدونة "ملوك الحرب" ضرورة ألا نتفاجأ من الأمور التي تفاجئنا في العادة.

فشلت مجموعة كاملة من الخبراء بالدراسات السوفياتية في توقع انهيار الاتحاد السوفياتي المرتقب، ويمكن قول الأمر نفسه عن الخبراء بشؤون الشرق الأوسط، فهم لم يفشلوا حصراً في توقع الربيع العربي، بل إنهم حاولوا استعمال النماذج الناشئة في تونس ومصر لرصد مسار تطور الثورات الأخرى.

لا يمكن أن نؤكد أن سورية بعد حقبة الأسد ستكون شبيهة بليبيا بعد عهد القذافي أو العراق بعد عهد صدام حسين نظراً إلى خصوصيتها الاجتماعية والتوتر الطائفي السائد فيها. لا شك أن جميع الصراعات والأوضاع التي تليها لا تكون سعيدة ولا مستقرة، لكن لكل صراع طريقته الخاصة في إظهار ذلك.

لا تشير التحليلات المتعلقة بالربيع العربي إلى النتيجة النهائية التي سنتوصل إليها بل إلى الوضع الراهن: نحن الآن أمام نزعة كبرى لإعادة النظر في جميع الفرضيات الإقليمية التي كانت قائمة طوال جيل كامل تقريباً.

أبرز ما يميّز هذه النزعة حتى الآن هو نشوء نوع مختلف من الإسلام السياسي الذي يتولى "الإخوان المسلمون" تحديد معالمه باعتباره ظاهرة دولية. لكن يصعب إطلاق أحكام عامة عن مختلف خصائص "الإخوان". وصلت "حماس" (الفرع الفلسطيني لجماعة "الإخوان" في غزة) إلى ما هي عليه نتيجة تجربتها في مجال الصراع المسلح وتحددت معالم "الإخوان" في مصر نتيجة تاريخهم أيضاً.

في مصر، اعتبر مايكل وحيد حنا في مجلة "فورين بوليسي" في شهر نوفمبر أن هذا الوضع أنتج أسلوباً شبيهاً بالكمين في مجال صنع القرار خلال عهد الرئيس محمد مرسي، وهي مقاربة لا ترتكز على الإجماع أو التشاور. يعتبر حنا أن تلك المقاربة التي لا تتعارض مع الديمقراطية بمعنى الكلمة "تتكل على مفهوم خاص مبني على سياسة "الفائز يكسب كل شيء" وعلى تشويه سمعة المعارضة السياسية. وفق هذه المقاربة، يكفي الفوز بالانتخابات كي يحصل الفائزون على صلاحية الحكم من دون أخذ مخاوف الخاسرين بالاعتبار".

برزت ظاهرة ثانية ترتكز على تكثيف المبادرات والتحركات في الدول الخليجية، لا سيما قطر والمملكة العربية السعودية، وأصبحت مختلف محاور النفوذ القطري، مثل الأموال والمساعدات (بعضها رسمي وبعضها الآخر غير رسمي)، ميزة أساسية أخرى من الربيع العربي ولا سيما في ليبيا وسورية. في المجالس الخاصة، اعتبر واحد من كبار أعضاء النظام العربي على الأقل أن نزعة هذه الدول إلى دعم الثورات في أماكن أخرى هي محاولة ساخرة من جانب الحكام "كي يشاركوا في الأحداث الإقليمية من دون أن يكون بلدهم جزءاً منها". هم يقومون بذلك ليتجنبوا التهديدات الداخلية.

ثمة ظاهرة أساسية ثالثة تتداخل مع الظاهرة الثانية (هي الأخطر على الأرجح)، وهي تتعلق بتنامي العدائية الطائفية بين السنّة والشيعة في المنطقة. بعد أن أصبحت مصر وقطر وتركيا تمثّل محور النفوذ السني الناشئ والنافذ، دخلت هذه الدول في مواجهة إيران التي تزداد انعزالاً وقد أصبحت محاولاتها الخاصة لتعزيز نفوذها في المنطقة، عبر تحالفاتها مع "حزب الله" والأسد، عرضة للخطر الآن.

لكن ماذا عن مصير الربيع العربي نفسه؟

بدأ التشاؤميون يتحدثون عن "الشتاء العربي" منذ الآن، وهو مصطلح لا معنى له على الأرجح مثلما كان مصطلح "الربيع" الأصلي بلا معنى أيضاً. لكن اعتبرت العالِمة السياسية الأميركية شيري بيرمان في الأسبوع الماضي أن التشكيك قد لا يكون في محله.

بحسب رأيها، ترافقت جميع موجات "الدمقرطة" في القرن الأخير مع "تيار ضمني وتشكيك واسع بقدرتها على الصمود أو حتى رغبتها في الحكم الديمقراطي في المناطق المعنية". أوضحت بيرمان: "حالما يتأخر التطور السياسي، تنشأ ردة فعل تقليدية ويبدأ النقاد بالتذمر من الاضطرابات السائدة في الحقبة الجديدة ويحنّون إلى الاستقرار والأمن المزعومَين خلال عهد الحاكم الاستبدادي السابق".

تتعلق المسألة الأخيرة التي لا تزال غامضة حتى الآن بتأثير التغييرات الحاصلة على إسرائيل التي بدأت تنقلب على ما يبدو ضد عملية السلام وتشعر بتوتر متزايد تجاه الدول المجاورة لها. مع تنامي الاضطرابات الأمنية في شبه جزيرة سيناء وتزايد مشاكل لبنان شمالاً نتيجة تداعيات الحرب السورية، يشهد الأردن أيضاً اضطرابات سياسية. ونظراً إلى عدم مبالاة الرئيس أوباما بشؤون المنطقة عموماً أو بخرق الأزمة في عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، يبدو أن الوضع القائم قابل للتأزم ولا شك أن إقرار حل الدولتين سيصبح أمراً بعيد المنال.

كانت أحداث السنتين الماضيتين في الشرق الأوسط كفيلة بتدمير سلسلة من النماذج التفسيرية. عملياً، بدت الحجج التي قدّمها بعض الليبراليين من مؤيدي سياسة التدخل وبعض "الواقعيين" في مجال السياسة الخارجية وبعض المعادين للإمبريالية سطحية بالقدر نفسه حين اصطدمت بالوقائع الجديدة.

إذا كان الشعار السائد في الأوساط العسكرية يقول إن "الجنرالات يستعدون دوماً لخوض الحرب الأخيرة"، فيبدو أن الشعار نفسه ينطبق على أوساط السياسة الخارجية. إذا أردنا استخلاص درس مهم واحد من "الربيع العربي"، فلا شك أنه يتعلق بضرورة التنبه من الوضع الراهن وتحدياته علماً أن هذا الوضع لا يرتبط بمفاهيم الماضي ولا يرتكز على أفكار متعلقة بمستقبل مجهول!

back to top