أزمة الخروج من التيسير الكمي

نشر في 03-09-2013
آخر تحديث 03-09-2013 | 00:01
 ستيفن س. روتش ربما يمر الاقتصاد العالمي الآن بالمراحل المبكرة من أزمة جديدة، ومرة أخرى أصبح مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي في عين العاصفة.

وفي حين يحاول بنك الاحتياطي الفدرالي الخروج من سياسة التيسير الكمي- السياسة غير المسبوقة المتمثلة بشراء كميات هائلة من الأصول الطويلة الأجل- فإن العديد من الاقتصادات الناشئة المحلقة في الأعالي وجدت نفسها فجأة مقيدة الحركة، وتشهد أسواق العملة والأسهم في الهند وإندونيسيا هبوطاً حاداً، وكانت الأضرار الجانبية واضحة في البرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا.

ويصر بنك الاحتياطي الفدرالي على أنه لا يستحق اللوم- وهو نفس الموقف السخيف الذي اتخذه في أعقاب أزمة الركود العظيم في فترة 2008- 2009، عندما أكد أن ترتيباته النقدية المفرطة لا علاقة لها بالفقاعات العقارية والائتمانية التي كادت تدفع العالم إلى الهاوية، ولا يزال بنك الاحتياطي الفدرالي غارقاً في الإنكار: لولا قمع أسعار الفائدة الذي فرضه التيسير الكمي على الدول المتقدمة منذ عام 2009، فإن البحث عن الربح ما كان ليغمر الاقتصادات الناشئة بالأموال "الساخنة" القصيرة الأجل.

وكما حدث في منتصف العقد الذي بدأ بعام 2000، فإن اللوم متبادل بين الجميع هذه المرة أيضاً. فبنك الاحتياطي الفدرالي لم يكن وحده بكل تأكيد في تبني التيسير الكمي غير التقليدي، وعلاوة على ذلك فإن الاقتصادات النامية المذكورة آنفا تشترك جميعها في أمر واحد: العجز الضخم في الحساب الجاري.

فوفقاً لصندوق النقد الدولي، من المرجح أن يبلغ العجز الخارجي في الهند، على سبيل المثال، 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط في فترة 2012- 2013، مقارنة بنحو 2.8 في المئة في فترة 2008- 2011. وعلى نحو مماثل، يمثل عجز الحساب الجاري في إندونيسيا، والذي بلغ 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2012- 2013 تدهوراً أكثر حدة من الفائض الذي بلغ في المتوسط 0.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2008- 2011. وتتجلى أنماط مشابهة في البرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا.

إن العجز الضخم في الحساب الجاري يُعَد عَرَضاً كلاسيكياً لاقتصاد ما قبل الأزمة الذي يعيش بما يتجاوز إمكاناته- أي أن استثماراته تتجاوز فعلياً مدخراته، والسبيل الوحيد لدعم النمو الاقتصادي في مواجهة مثل هذا الخلل هو اقتراض المدخرات الفائضة من الخارج.

وهنا يأتي دور التيسير الكمي، فقد وفر فائضاً من رأس المال الباحث عن الربح من المستثمرين في البلدان المتقدمة، وبالتالي سمح للاقتصادات الناشئة بأن تستمر على مسارات النمو المرتفع. وتشير بحوث صندوق النقد الدولي إلى أن التدفقات المتراكمة لدى الأسواق الناشئة من رأس المال تقترب من 4 تريليونات دولار أميركي منذ بداية التيسير الكمي في عام 2009. وفي ظل إغراءات سلوك طريق مختصر إلى النمو الاقتصادي السريع، دفعت هذه التدفقات بلدان الأسواق الناشئة إلى الاعتقاد بأن اختلالات التوازن لديها قابلة للاستمرار، الأمر الذي مكنها من تجنب الانضباط اللازم لوضع اقتصاداتها على مسارات أكثر استقراراً وقابلية للتطبيق.

وهذه سمة متوطنة في الاقتصاد العالمي الحديث، فبدلاً من الاعتراف بالتباطؤ الاقتصادي الذي يشير إليه عجز الحساب الجاري- قبول معدل نمو أقل قليلاً اليوم في مقابل النمو المستدام في المستقبل- اختار الساسة وصناع السياسات مناورات النمو الخطيرة التي أتت بنتائج عكسية في نهاية المطاف.

وكانت هذه هي الحال في بلدان آسيا النامية، ليس فقط في الهند وإندونيسيا اليوم، بل أيضاً في تسعينيات القرن العشرين، عندما كان العجز المتسع بشكل حاد في الحساب الجاري بمنزلة النذير باندلاع الأزمة المالية الموجعة في فترة 1997- 1998. ولكن كان صحيحاً بنفس القدر بالنسبة إلى بلدان العالم المتقدم.

وكان العجز الأميركي المتعاظم في الحساب الجاري في منتصف العقد الذي بدأ عام 2000 بمنزلة تحذير صارخ من التشوهات التي خلقها التحول إلى الادخار المعتمد على الأصول في حين كانت فقاعات خطيرة تتشكل في أسواق الأصول والائتمان. وكانت أزمة الديون السيادية في أوروبا نتاجاً للفوارق الحادة بين الاقتصادات على أطراف القارة التي تعاني عجزاً كبيراً في الحساب الجاري- خصوصاً اليونان والبرتغال وإسبانيا- ودول القلب التي تدير فوائض ضخمة مثل ألمانيا.

ولقد بذل محافظو البنوك المركزية قصارى جهدهم للتحايل على هذه المشاكل، وتحت قيادة بن برنانكي وسلفه آلان غرينسبان، تغاضى بنك الاحتياطي الفدرالي عن فقاعات الأصول والائتمان، وتعامل معها باعتبارها مصدراً جديداً للنمو الاقتصادي، بل إن برنانكي ذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فزعم أن النمو غير المتوقع نتيجة للتيسير الكمي سيكون أكثر من كاف للتعويض عن أي عدم استقرار قد تسببه تدفقات الأموال الساخنة إلى الاقتصادات الناشئة وإلى خارجها، ورغم هذا فإن غياب أي نمو غير متوقع من هذا القبيل في ظل الاقتصاد الأميركي الذي لا يزال متباطئاً كشف عن حقيقة مفادها أن التيسير الكمي ليس سوى آلة سيولة تسعى إلى تحقيق الربح.

إن استراتيجية الخروج من التيسير الكمي، إذا نجح بنك الاحتياطي الفدرالي في استجماع الشجاعة اللازمة لتنفيذها، لن تحقق ما يزيد على إعادة توجيه السيولة الفائضة من الأسواق النامية الأعلى عائداً إلى الأسواق في الداخل. في الوقت الحاضر، ومع تلميح بنك الاحتياطي الفدرالي إلى أولى مراحل الخروج- خفض التيسير الكمي تدريجياً- بدأت الأسواق المالية تستجيب بالفعل لتوقعات انخفاض معدلات خلق النقود والزيادات في أسعار الفائدة في بلدان العالم المتقدم في نهاية المطاف.

وبعيداً عن وعود بنك الاحتياطي الفدرالي بأن أي تحرك من هذا القبيل سيكون بطيئاً للغاية، فإن هذا من غير المحتمل أن يؤدي إلى أي زيادات ملموسة في أسعار الفائدة الرسمية حتى عام 2014 أو 2015. وكما تشير الزيادة بنسبة تتجاوز 1.1 نقطة مئوية في العائدات على سندات الخزانة التي تبلغ مدتها عشرة أعوام على مدى العام الماضي، فإن الأسواق لديها موهبة خارقة في اختصار الأحداث البالغة البطء في فترة قصيرة من الزمن.

وبفضل آلية الخصم هذه، بدأت مراجحة العائد المعدلة حسب المخاطر الآن تتحرك ضد أوراق الأسواق الناشئة المالية. ومن غير المستغرب أن تستشعر المشكلة أولاً تلك الاقتصادات التي تعاني عجزاً في الحساب الجاري. فعلى حين فجأة يصبح من الصعب تمويل اختلال التوازن بين الادخار والاستثمار لديها في ظل نظام ما بعد التيسير الكمي، وهي النتيجة التي فرضت خسائر موجعة على العملات في الهند وإندونيسيا والبرازيل وتركيا.

ونتيجة لهذا فإن هذه البلدان تُرِكَت عالقة في فِخاخ السياسة: فالاستراتيجيات الدفاعية التقليدية للعملات الهابطة تستلزم عادة فرض أسعار فائدة أعلى، وهو خيار غير مستساغ بالنسبة إلى الاقتصادات الناشئة التي تواجه أيضاً ضغوطاً تدفع النمو الاقتصادي إلى الانخفاض.

ولا أحد يدري أين قد يتوقف هذا، فكانت هذه هي الحال في آسيا في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وأيضاً في الولايات المتحدة عام 2009، ولكن في ظل أكثر من عشر أزمات كبرى ضربت الاقتصاد العالمي منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، فإن الرسالة واضحة وغير ملتبسة: اختلالات التوازن غير قابلة للاستمرار مهما بلغت قوة محاولات البنوك المركزية لتفادي العواقب.

والآن تستشعر الدول النامية القوة الكاملة للحظة مواجهة الواقع التي عاشها بنك الاحتياطي الفدرالي من قبل، والواقع أنها مذنبة بالتقاعس عن مواجهة عملية إعادة التوازن إلى اقتصاداتها خلال الأيام المُسكِرة عندما كان التيسير الكمي في أوجه. وبنك الاحتياطي الفدرالي مذنب بنفس القدر، إن لم يكن ذنبه أعظم، بسبب تنظيمه لهذه التجربة الفاشلة في المقام الأول.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، والرئيس السابق لمورغان ستانلي في آسيا، ومؤلف كتاب "آسيا التالية".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top