ماه بيكر أم السلطان ونائبته

نشر في 23-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 23-07-2013 | 00:01
بمقتل السلطان عثمان ضاعت آمال إصلاح شؤون الدولة العثمانية التي تمكنها من الاستمرار كأقوى كيان سياسي في العالم، ومع رحيله باتت الدولة في قبضة الإنكشارية والحرملك، يتقاسمان السلطة، في ظل سلطان ضعيف شبه مجنون، هو السلطان مصطفى الذي لم يكن له من أمر الحكم إلا الاسم فقط، بينما تمتعت السلطانة كوسم ماه بيكر بنفوذ متزايد مكنها من التلاعب برجال الدولة من خلف ستار الحرملك، تحوك المؤامرات بقدرة تفوق قدرة بينيلوبي الأسطورية في «الأوديسة» على الغزل.
 لم تحمل عودة السلطان مصطفى إلى العرش الذهبي للدولة العثمانية، أيّ استقرار للدولة المضطربة، بل إن نتائج مقتل السلطان عثمان على يد الإنكشارية بهذه الطريقة البشعة، فجرت المآسي في أقطار الدولة العثمانية كافة، ورفع ولاة العديد من الولايات في أقاليم الأناضول والشام والعراق لواء الثورة طلبا للقصاص من قتلة السلطان عثمان.

الفوضى اقتحمت البلاط العثماني فالصدر الأعظم داود باشا، أراد التخلص من نفوذ السلطانة كوسم ماه بيكر، عن طريق قتل جميع أبناء السلطان أحمد منها، حتى يخلو له الجو في البلاط العثماني، ولكنه دون أن يقصد أثار مخاوف بقية الوزراء، فالسلطان القائم مصطفى لم يقرب النساء قط، وبالتالي لم يكن لديه ذرية، وهو ما هدد ذرية آل عثمان بالفناء، وكلف الوزير داود باشا أحد رجاله من الأغوات، بمهمة خطيرة، ووعده برتبة وزير وولاية مصر، إذا ما نجح في قتل ولي العهد الأمير مراد شهزاده، الابن الأكبر للسلطانة كوسم.

تقدم الأغا نحو جناح ولي العهد شاهرا سيفه، لكن أحد حراس الأمير مراد شعر به، ورماه بكرة معدنية أسقطته أرضا، وتولى بقية الحرس مهمة الإجهاز على الأغا الخائن، وفي اليوم التالي صلبت جثته على شجرة أمام ميدان السلطان أحمد، أصيب الشعب بالصدمة جراء الخيانة التي وصلت إلى جناح ولي العهد الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره.

من جهتها، تحركت كوسم ماه بيكر بسرعة بمعاونة بقية الوزراء، وأقصت الصدر الأعظم داود باشا من منصبه الذي لم يستمر فيه لأكثر من 24 يوما، بعد أن ساءت سمعته، وبات الشعب يلقبه بـ»قاتل البادشاه»، قبل أن يعدم مع عدد من كبار رجال الدولة بتهمة التحريض على قتل السلطان.

الأحداث في العاصمة توالت سريعا، فظهر الكثير من الجنود المطالبين بدم السلطان عثمان، وتعرضت الإنكشارية للتنكيل من قبل الشعب الغاضب، وقاد بكلربك أرضروم أباظة محمد باشا، أول ثورة للمطالبة بدم السلطان القتيل، وكان محمد باشا أحد الولاة الذين اتفقوا مع السلطان عثمان على تدريب فرق الجيش الجديدة سرا، فيما مارست كوسم ماه بيكر هوايتها في عزل الوزراء وتعيينهم، ما أصاب الدولة العثمانية بالفوضى الكاملة.

 سادت الفوضى وعدم الأمن والسكينة مدة ثمانية عشر شهرا متوالية، لم ينقذها إلا تعيين كمانكش قره علي باشا صدرا أعظم، الذي اتفق مع الوزراء على ضرورة خلع السلطان مصطفى الضعيف، وتعيين ولي العهد الأمير مراد مكانه، اتفق الصدر الأعظم مع السلطانة كوسم على هذه الخطوة المتوقعة، أخذ منها مبلغا كبيرا من المال لتوزيعه على قادة الجيش لتسكينهم وإعادة الهدوء إلى العاصمة، كما حصل على فتوى من شيوخ الإسلام بضرورة خلع السلطان مصطفى.

هكذا خلع السلطان مصطفى سنة 1623م، الذي لم يشعر باختلاف كبير بين حكمه أو خلعه، وظل بعيدا عن الأضواء حتى انتهى أجله في 20 يناير 1639م، ودفن في ضريحه الكائن في مسجد أيا صوفيا.

وزعت هدية جلوس السلطان الطفل مراد الرابع على العرش بما يقدر بـ 2 مليون قطعة ذهبية، لم يكن هذا المبلغ موجودا في خزانة السلطان، فاضطرت كوسم ماه بيكر؛ التي حصلت الآن على لقب «السلطانة الأم»، لجمع أواني وأطباق السراي والحرملك وإذابتها وسك عملات ذهبية منها، لم تكن الدولة فقيرة لتلجأ السلطانة الأم إلى هذا الأمر، ففي واقع الأمر كانت خزانة السلطان أحمد عند وفاته ممتلئة بـ50 مليون قطعة ذهبية؛ كانت أكبر ثروة شخصية لحاكم في العالم وقتذاك، لكن الفساد والفوضى بددا هذه الثروة الضخمة.

نائبة السلطان

عندما تولى السلطان مراد الرابع أمور الدولة العثمانية كان يبلغ من العمر 11 عاما، لذلك أصبحت أمه السلطانة كوسم هي الوصية عليه طوال السنوات الثماني الأولى من سلطنته (1623-1632م)، وحصلت رسميا على لقب نائبة السلطان، كأول امرأة تحصل على هذا المنصب في تاريخ الدولة العثمانية، وهكذا جمعت كوسم ماه بيكر بين وظيفة السلطانة الأم التي تسيطر على الحرملك، وبين وظيفة نائب السلطان، التي مكنتها من إدارة الدولة العثمانية، خاصة بعد تحالفها مع قوات الجيش العثماني، واستخدمت في تنفيذ سياساتها الصدر الأعظم خسرو باشا.

تحول خسرو باشا إلى طاغية، أعدم الكثيرين وبطش بالعديدين، طوال ثلاث سنوات، قبل أن يخرج قرار عزله من قبل السلطانة الأم كوسم، إلا أن خسرو باشا لم يستسلم وانقلب على سيدته السابقة، استخدم حليفه رجب باشا لقيادة عصيان مسلح سنة 1632م، انتهى بمقتل الصدر الأعظم الجديد حافظ أحمد باشا وتعيين رجب باشا مكانه، وهو من لقبه السلطان مراد نفسه بـ«رئيس الأشقياء»، ولتقليص نفوذه أمر السلطان بإعدام خسرو باشا المدبر الحقيقي لتلك الأحداث، بعدها بأيام أمر بإعدام الصدر الأعظم رجب باشا.

في هذه المرحلة التي أدارت فيها البلاد السلطانة الأم كوسم ما بيكر البلاد بصفتها نائبة السلطان، ضربت الفوضى جنبات الدولة العثمانية، وعرف ولاة الأقاليم طريقهم إلى الثورة، فيما عاثت فرق الجيش؛ خاصة الإنكشارية، فسادًا في العاصمة العثمانية إسطنبول، وكانت الرشوة وسوء استغلال المناصب قد شاعا وانتشرا انتشارًا كبيرًا، كما كانت خزانة الدولة خاوية، وتبدى الضعف العثماني أمام العدو الأوروبي، فالنمسا التي كانت تدفع منذ قليل الجزية للدولة العثمانية ويتنازل ملكها عن لقب الإمبراطور للبادشاه العثماني، ضعفا واستصغارا، تبدل وضعها بعد أن هاجمت الفرق النمساوية الحدود العثمانية في البلقان محققة انتصارات متتالية.

وفي أثناء تلك الفوضى التي ضربت الدولة بعنف، أعادت الدولة الصفوية في إيران بناء قوتها بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها أمام آل عثمان على مدار قرن تقريبا، وما إن تولي الشاه عباس الكبير إدارة الدولة الصفوية حتى عمل على إعادة مجد إيران الغارب، واستطاع هزيمة الأزبك وطردهم من إقليم خراسان؛ أهم أقاليم إيران قاطبة، واستعان بالغرب في عمليات إعادة التسليح ليصبح قوة عسكرية مرهوبة الجانب، وانتهز الشاه عباس الفرصة المواتية في الفوضى التي ضربت الدولة العثمانية بعد مقتل السلطان عثمان، ليضرب ضربته ويهاجم أراضي العراق التابعة للعثمانيين، وسقطت بغداد وتبريز في يده سريعا، وتراجعت الحدود العثمانية في الشرق لأول مرة منذ عقود.

 أمام تلك الكوارث التي حاقت بالدولة إحاطة السوار بالمعصم، تقدم السلطان مراد الرابع ليتولى إدارة أمور الحكم بعد أن بلغ مبلغ الرجال، وفي سنة 1632 انتهت فترة نيابة السلطانة كوسم ماه بيكر، التي دامت نحو تسع سنوات، وأقصيت من المشهد السياسي سريعا، بعد أن قرر ألا يسمح لأية قوة كانت بالتدخل في إدارته للبلاد.

ضرب السلطان مراد بيد من حديد مواطن الفوضى، فألغى من الوجود فصيل «أورطة» التابع للإنكشارية، وكانت قيادات هذا الفصيل هي المدبرة لجريمة قتل السلطان عثمان الثاني، وأجبر الإنكشارية على إحياء احتفال كل ثلاثة أشهر للعن هذا الفصيل المارق بمراسم عسكرية ضخمة، وهي الاحتفالات التي استمرت حتى إلغاء تنظيم تشكيلات الإنكشارية من الجيش العثماني سنة 1826م، كان إجبار الإنكشارية على الاعتراف بالتآمر على السلطان عثمان وقتله، ضربة موجعة لكرامة الفرقة الأساسية للجيش العثماني، التي انكمش نفوذها سريعا أمام عظمة السلطان الشاب مراد الرابع، الذي عمل على تفكيك تحالف الحرملك والإنكشارية، بعد أن قضى على نفوذ قادة الجيش من ناحية، وتقليص نفوذ والدته السلطانة الأم كوسم ماه بيكر إلى أبعد حد.

تقدم السلطان مراد الرابع لمباشرة سلطاته، بعد أن أصبح طليق اليد في إدارة شؤون الدولة، بعدما ضرب بيد من حديد على الثائرين، وقتل كل من ثبتت علاقته بالفتنة، حتى إنه أمر بحظر المشروبات الكحولية، ومن يضبط وهو يتناول الكحوليات يعدم، ومنع استخدام التبغ، وهدم المقاهي التي بدأت تغزو إسطنبول، لأن الجنود اتخذوها مقرا لتجمعاتهم، فسكنت الثورة واستقرت الأوضاع، وبدأ السلطان في اتخاذ الإجراءات التي تعيد النظام إلى الدولة؛ وفرض مناخ الإرهاب على الدولة كلها، فخاف كبار المسؤولين على حياتهم، خاصة بعد إقدام السلطان مراد على قتل شيخ الإسلام أخو زاده حسين أفندي في يناير 1634، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ العثماني أن يقتل السلطان رأس طائفة كبار العلماء، مقتل شيخ الإسلام كان الهدف منه قطع الحبل السري الذي ربط العلماء بقادة الجيش، وأصبح شيوخ الإسلام آلات عمياء مسخرة في أيدي الإنكشارية لإصدار فتاوى تمنحهم شرعية مدعاة.

كانت اللحظة المناسبة قد جاءت عندما أمر السلطان بقتل قاضي إزنك بسبب شائعات حول أخذه الرشوة واستغلال منصبه بصورة سيئة، لذلك كتب شيخ الإسلام «أخي زاده حسين أفندي» تذكرة يعرب فيها عن أسفه على هذا الأمر، وأرسلها إلى السلطانة الأم كوسم وكتب فيها «حاولي إبعاده [أيّ السلطان مراد] عما يجلب عليه الدعاء، ونأمل أن تنصحيه لكي يحصل على دعاء الخير من زمرة العلماء، وأن يبدي السلطان التوقير لهذه الزمرة التي احترمها أجداده»، لم تجد السلطانة الأم إلا أن تسلم الرسالة بنصها إلى ابنها الغاضب باستمرار، كان قد هددها مرارا بأن تقطع اتصالاتها برجال دولته، وهددها بالإقصاء والنفي بعيدا عن العاصمة إذا لم تستجب لأوامره، عندما وقعت الرسالة في يد السلطان مراد، اعتبرها رسالة تهديد من شيخ الإسلام وبمنزلة تدخل في ما لا يعنيه، لذلك صدرت الأوامر بتنفيذ حكم الإعدام في شيخ الإسلام، بتهمة التحضير لإعلان العصيان، منذ تلك اللحظة أذعن رجال الدولة للسلطان الدموي وانتهت فتنة عصفت بالدولة على مدار أعوام.

الحاكم بأمره

إجراءات السلطان مراد التي كرسته الحاكم بأمره في الدولة، لم تعن اختفاء السلطانة الأم كوسم ماه بيكر، التي اشتاقت إلى سلطاتها الواسعة التي مارستها على مدار أعوام، فظلت تسيطر على أمور الحرملك بصورة مطلقة، وكانت تدس أنفها بين الحين والآخر في أمور الدولة وتنفذ مؤامرات، ولعبت السلطانة كوسم دورا حاسما في حماية نسل آل عثمان من الانقراض، بعدما كاد بطش السلطان مراد واستبداده وميله إلى سفك الدماء يقضي على ذرية آل عثمان من الرجال، وكانت هناك عادة سيئة يقوم بها سلاطين آل عثمان منذ عهد السلطان بايزيد الأول وهي أن يقدم كل سلطان جديد على جريمة قتل إخوته الذكور بعد توليه السلطة، فلما ولي السلطان مراد الرابع الحكم استمر في تطبيق هذه العادة المخزية؛ فقتل أخاه وولي عهده بايزيد، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، وقتل أخاه سليمان، ودُفنا الشقيقان في مقبرة أبيهما السلطان أحمد، ثم لم يلبث مراد الرابع أن أمر بقتل أخيه الثالث «قاسم»، وهو شقيقه من أمه كوسم ماه بيكر، ولم يبق من إخوته الذكور سوى إبراهيم، وهو شقيقه الثاني من أمه كوسم، الذي أصبح ولياً للعهد، وشاء القدر أنه كلما ولد ابن للسلطان مراد توفي بعد فترة، ولم يعش له أي أمير من أولاده حتى يجعله وليًّا للعهد، رغم ذلك عزم مراد على قتل الذكر الوحيد من آل عثمان الباقي على قيد الحياة؛ أخيه إبراهيم، لكن والدته السلطانة كوسم منعته حتى لا تنقرض سلسلة سلاطين آل عثمان، وهكذا نجا إبراهيم من القتل، ولو قدر له أن يموت لانقطع النسل العثماني من جهة الرجال إلى الأبد. بعد استعادة الهدوء في الداخل، قرر السلطان مراد الرابع استعادة أمجاد الدولة في الخارج، فجدد الجزية على مملكة بولونيا، كما قاد جيوشه في حربه الواسعة ضد الدولة الصفوية في الجبهة العراقية، وأظهر أثناء قيادته للجيوش العثمانية حزما ومقدرة أعادت إلى الأذهان عصر سليمان القانوني، فلأول مرة منذ أيام ذلك العاهل العظيم، تخرج الجيوش العثمانية في مثل هذا النظام والاستعداد الجيد، لذلك لم يكن غريبا أن تسقط قلعة روان المنيعة أمام مراد الرابع، وهي القلعة التي لم يقدر القانوني ذاته على فتحها، ثم توالت فتوحاته فدخل تبريز العاصمة القديمة للصفويين، وبعد معارك هائلة استرد السلطان مراد مدينة بغداد من الصفويين سنة 1638م، لتظل بغداد ضمن أملاك العثمانيين حتى سقوطها في يد الاحتلال الإنكليزي بعد 278 سنة، لذلك عرف السلطان مراد بـ»فاتح بغداد»، وفي قصر شيرين (شرقي كركوك) وقعت معاهدة بين الدولة العثمانية ونظيرتها الصفوية، تم بموجبها ترسيم الحدود بين الدولتين، والطريف أن هذه المعاهدة تعد الأساس الحقيقي للحدود التركية- الإيرانية، والتركية- العراقية الحالية.

لم يهنأ السلطان مراد بانتصاره الكبير على الصفويين، ولم يتمكن من الخروج على رأس قواته للقيام بحملة أوروبية ضخمة، فالمرض الذي نهش جسده سريعا أسقطه من عليائه، فمات سنة 1640، عن عمر ناهز الـ27، ورغم فظاعة أساليبه لكنه كان قد نجح في تجديد شباب الدولة العثمانية ومد في عمر عظمتها إلى حين، ولو قدر له أن يمتد به العمر قليلا، أو أن يتولى الحكم مباشرة بعد سليمان القانوني لتغير تاريخ الدولة العثمانية والعالم كله.

فعندما تولى مراد الرابع السلطنة كانت الدولة في حالة فوضى، وعندما رحل وهو في ريعان الشباب ترك خلفه دولة موطدة الأركان، ونظاما في الجيش لم يشاهد منذ عهد القانوني، خلف دولة تهاب شوكتها دول العالم، وجيشا هو أكبر قوة ضاربة في العالم، وأعاد تنظيم مالية الدولة، فترك أكثر من 15 مليون قطعة ذهبية في خزانته الشخصية، فضلا عن خزانة الدولة العامرة، ولم يكن طريق السلطان مراد سهلا، فلتحقيق هذه الإنجازات يقال إنه أمر بقتل ما يزيد على 20 ألف شخص خلال 7 سنوات فقط.

وهو بشهادة المؤرخين أكبر سلاطين الدولة خلال 242 سنة، منذ وفاة القانوني سنة 1566 حتى جلوس محمود الثاني سنة 1808، ويقول عنه المؤرخ هامر «أطال السلطان مراد الرابع حياة الدولة العثمانية وعظمتها مدة نصف قرن، ولو لم يأت هو لما تأخر الانحطاط الدائم للدولة العثمانية إلى عام 1683، ولبدأ قبل نصف قرن».

ويقول عنه مؤرخ تركي معاصر: «من ناحية الصفة والقدرة يشبه السلطان مراد، السلطان ياووز سليم الأول جده في البطن السادس، أجرى مثله حملتين في آسيا، لكنه عند جلوسه لم يجد نظام الدولة الذي وجده ياووز عند تسلمه السلطة، كان الجيش يفتقد الانضباط، والنظام لا يعرف إلا الخلل، ومالية الدولة في حالة يرثى لها.

جلس على العرش وهو طفل، ولم يجلس في سن الكمال كما جلس ياووز في سن 42، كان في الوقت الذي يواصل فيه عملية التعلم والتثقف، يتعلم كيف يدير دولته، لذلك لم يقدر له أن يكون جهانكير [أيّ فاتح عالمي]، لكنه أحرز نجاحات كبيرة في المجالات العسكرية وإدارة الدولة، فكان قائدا عظيما، وأبدى صلابة إلى حد العظم، ولو امتد به العمر لكان أهلا لتحقيق نجاحات أعظم، لأنه كان قد أسس سلطة تمكنه من تحقيق ما يفكر به، ولم يكن رجال الدولة المحيطون به ذوي مهارات فذة كما كان رجال الدولة في السابق، ولو كان رجال الدولة القدامى على عهده لكان من المحتمل أن يتفوق على جميع السلاطين الذين أتوا قبله».

والدة السلطان مراد، السلطانة كوسم ماه بيكر، التي لم تترد يوما في عمل أيّ شيء في سبيل السياسة والسلطة، رأت في وفاة ولدها المستبد فرصة لتعود إلى صدارة المشهد من جديد بإحياء تحالفها مع قادة الجيش الذين يطلق عليهم «آغوات أوجاق أغالري» لتقاسم إدارة الدولة في ظل سلطنة الحاكم الجديد السلطان إبراهيم الأول ضعيف الشخصية، كان جميع من في «طوب كابي سراي» يعلمون حقيقة ما يحدث، لقد عادت السلطانة الأم كوسم ماه بيكر إلى نفوذها السابق ويبدو أنها حريصة على ألا تتنازل عن سلطانها هذه المرة.

كوسم... الخيّرة

رغم السمعة السيئة التي حصلت عليها السلطانة الأم كوسم ماه بيكر، كامرأة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة في سبيل الحكم والسلطة، إلا أنها عرفت بين رعايا الدولة العثمانية بأعمالها الخيرية، كنوع من أنواع غسل السمعة أو مصالحة كاذبة مع الذات، لكنها على كل حال نجحت في تثبيت الصورة الذهنية التي أرادتها عند عامة الشعب العثماني.

أعلنت السلطانة كوسم رغبتها في تأدية الديون عن المعسرين، فكان لها ما أرادت، وذاع عنها فك ضائقة المعسرين، كما أنفقت الكثير من الأموال على زواج الفتيات الفقيرات والجواري، وغيرها من أعمال الخير كتوزيع النقود الذهبية على الفقراء في العاصمة العثمانية في احتفالات الدولة والأعياد الدينية.

كما أمرت السلطانة كوسم بتأسيس جامع ضخم في حي أسكودار، أحد أعرق أحياء العاصمة إسطنبول، وأنفقت الكثير من الأموال على المسجد لجعله تحفة معمارية وخصصت له الكثير من البورسلين والخزف لتجميله، حتى حصل المسجد على لقب «المسجد ذي الخزف»، ولها خان كبير معروف باسم «خان الوالدة» أوقفته للإنفاق على مسجدها، كما ابتنت حماما ومدرسة وكتابا لتعليم الصبية وسبيلا.

 وخصصت للإنفاق على كل تلك المنشآت أوقافا جليلة ذكرتها في وقفية مؤرخة بسنة 1640م، أوقفت فيها أموالا كثيرة للإنفاق على الفقراء والمساكين الذين يقيمون على الطريق إلى مكة المكرمة، فضلا عن أموال كثيرة كانت ترسلها إلى مكة والمدينة كل موسم حج لتوزيعها على الفقراء هناك.

back to top