هل أغرق الرئيس الروسي بوتين قبرص؟!

نشر في 06-04-2013
آخر تحديث 06-04-2013 | 00:01
شكلت نيقوسيا عاصمة روسيا المالية الثانية، بعد موسكو، ويُعتقد أن أغلبية الحسابات الأجنبية التي تفوق المئة ألف يورو في المصارف القبرصية تعود إلى متعاملين روس.
 نيويورك تايمز   تظهر من أسوار الكرملين في مدينة موسكو ناطحات السحاب، التي تشكّل بزجاجها الأزرق بقايا حلم فترة الازدهار الروسي، فقد أمل الروس ذات مرة أن تطيح هذه الأبراج بالمراكز المالية في الغرب، ولكن عندما تغرب الشمس وراءها، تلاحظ أن الكثير من مكاتبها فارغ.

تقع المحاور الحقيقية للنظام المصرفي الروسي في دول أخرى، فينقل الأثرياء الروس أموالهم إلى الخارج، ويسجل رجال أعمال كثر شركاتهم كشركات بريطانية وهولندية وسويسرية وقبرصية وغيرها... إلا روسية. ويشير بعض النقاد إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين نفسه يخبئ أمواله في الخارج.

ببسيط العبارة، يخشى المال الروسي روسيا، ويعود ذلك إلى أن بوتين لم يقدم مطلقاً ضمانات حقوق ملكية موثوقاً بها، بعد أن كان بوريس يلتسن قد نقل روسيا إلى النظام الرأسمالي في تسعينيات القرن الماضي. نتيجة لذلك، تبقى الأموال الروسية خائفة، ما أدى إلى هروب نحو 350 مليار دولار منها إلى خارج البلد منذ عام 2008.

تسعى هذه المليارات وراء السرية والأمان، ولا شك أن الجزر المالية داخل الاتحاد الأوروبي ترحّب بها. نشأت علاقة عشق بين المصارف القبرصية والمال الروسي على وجه الخصوص، فقبل أسابيع قليلة، كانت العاصمة القبرصية، نيقوسيا، الوجهة الأبرز للأموال الروسية في الخارج، لكن هذه الجنة المالية تعاني اليوم الدمار الاقتصادي، فقد تحطم قطاعها المصرفي المتضخم بسبب أزمة السندات اليونانية، وبغية إنقاذ قبرص من الإفلاس، يعرّض مرسوم صادر عن الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي (ما يُعرف بالترويكا) المودعين في المصارف القبرصية لاحتمال خسارة ما قد يصل إلى %60 من حساباتهم التي تفوق المئة ألف يورو، فضلاً عن فرض ضوابط جديدة على رؤوس الأموال.

شكلت نيقوسيا عاصمة روسيا المالية الثانية، بعد موسكو، ويُعتقد أن أغلبية الحسابات الأجنبية التي تفوق المئة ألف يورو في المصارف القبرصية تعود إلى روس.

يشير صندوق النقد الدولي إلى أن قبرص كانت وجهة %34 من مجموع الاستثمارات الخارجة من روسيا عام 2011. كذلك تُعتبر مصدراً لـ %28 من الاستثمارات الخارجية المباشرة في روسيا. لكن هذا التدفق المالي الكبير لا يعكس حقيقة الاستثمارات في الخارج. فما هذه الأموال إلا مبالغ روسية تمر عبر شركات قشرية شكلية (Shell Companies) في نيقوسيا لتعود إلى روسيا كاستثمارات أجنبية، وكما ذكر وزير المالية الألماني فولفغانغ شوبل، زاد هذا الواقع الشكوك حول عمليات تبييض الأموال.

في المقابل، امتلك الكثير من رجال الأعمال الروس الشرعيين أيضاً أموالاً في قبرص. فقد تحكم كبار رجال الأعمال الروس في مجال الفولاذ بشركاتهم من خلال شركات قابضة قبرصية. كذلك يمتلك عدد كبير من أعمدة الاقتصاد الروسي التابعة للدولة حسابات قبرصية، بما فيها شركة النفط "روزنفت" ومصرفا Sberbank وVTB.

ولكن كيف انتهى المطاف بهذا القدر من المال الروسي إلى المصارف القبرصية؟ استلم بوتين زمام السلطة عام 2000، واعداً "بحكم يسوده القانون"، لكن صانعي الأموال فقدوا ثقتهم به، وبحلول عام 2003، كان الرجل الأغنى في البلد، ميخائيل خودوركوفسكي، قد أوقف وصودرت ثروته الكبيرة وأُلقي في أحد سجون سيبيريا، ما أظهر أن بوتين ينوي التلاعب بالقانون للتصدي لأي تحدٍّ محتمل لثروة النخبة الحاكمة.

نتيجة لذلك، لم يتوقف هروب رؤوس الأموال الذي بدأ خلال فترة التسعينيات في روسيا، وبحلول عام 2011، أفاد صندوق النقد الدولي أن الوجهات الوطنية الخمس الأبرز للاستثمارات التي تدخل روسيا وتخرج منها تشكّل جنات وملاذات ضريبية آمنة، ما يُعتبر إشارة إلى أن هذا المال ما هو إلا أموال روسية تُهرَّب إلى الخارج.

ما عادت الطبقة الوسطى الروسية تثق ببوتين بعد عام 2008، حين ظلت البيروقراطية الروسية، رغم الأزمة المالية العالمية، ترزح تحت وطأة عدم الكفاءة والرشاوى التي تفوق في مآسيها ما كتبه الروائي الروسي الشهير نيقولاي غوغول. فقد التهم بوتين المحاكم، ووسائل الإعلام، والحكومات المحلية، معطياً حزبه النفوذ الأكبر، ما أدى إلى ولادة شبكة ذليلة من المحسوبية وشكّل وصفة ملائمة لاختلاس المال العام؛ لذلك نما عدد الروس الذين خبؤوا أموالهم في أماكن "آمنة" مثل قبرص.

ازدادت الأوضاع سوءاً عندما أعادت التظاهرات بسبب التلاعب في نتائج الانتخابات عام 2011 إحياء المخاوف من انهيار وطني.

بلغت رؤوس الأموال التي هُرّبت من روسيا السنة الماضية رسمياً 56 مليار دولار، وأشار مصرف بوتين المركزي بحد ذاته إلى أن ثلثيها قد يعود إلى نشاطات غير مشروعة، مثل تجارة المخدرات أو الرشاوى أو التهرب من الضرائب.

ولكن لمَ تقاطر الروس إلى قبرص؟ شكّلت قبرص جزءاً من الاتحاد الأوروبي، متبعة قواعده وطرقه في الإشراف والمراقبة، وهكذا تحولت إلى جنة مشروعة وملاذ ضريبي آمن وقريبة حيث بدا من المستحيل أن تصادر الدولة أموال الشعب. ولكن مع غارة الترويكا الأخيرة على حساباتهم (يعتبرها الروس سرقة)، حصل الروس على جرعة إضافية من كره الغرب والحذر منه.

لا شك أن ما سيتبقى من الثروات الروسية في نيقوسيا سيهرب مجدداً، إلا أنه لن يعود إلى روسيا، قد ينتقل إلى ملاجئ أوروبية أخرى، مثل "جزر الأنتيل" الهولندية أو "فيرجين أيلاندز" البريطانية. وقد يهرّب أيضاً إلى مالطا أو لوكسمبورغ، إلا أن المحللين يدرجونهما على لائحة الدول التي قد تحتاج إلى إنقاذ.

في هذه الأثناء، لا تبدو بروكسل عاجزة، فعلى الاتحاد الأوروبي أن يضيق الخناق على الملاجئ المالية الخارجية، يصر على الشفافية المصرفية، ويتعامل بحزم مع تبييض الأموال. هذا هو التقشف الحقيقي في أوروبا، فضلاً عن أن الملاجئ الضريبية المتضخمة لا تعرض أوروبا للخطر فحسب، بل تجعل نظامها المالي أيضاً شريكاً في الفساد المتفشي في الخارج.

لكن هذا لا يلغي الوقائع التي كشفتها أزمة نيقوسيا، فقد تبين أن أوروبا مليئة بجزر ضريبية هشة ومعدية، وأن هذه الجزر تلائم مشكلة روسيا الأعمق: فروسيا أكثر فساداً وخوفاً من أن تبقي ملياراتها في مصارفها.

بن جوده

back to top