هل أنا عفوي جداً؟

نشر في 26-06-2013 | 00:02
آخر تحديث 26-06-2013 | 00:02
يقول بيرنار بيفو: «ألم أفقد بسبب عفويتي ما كسبته من خبرتي ومهنتي؟». العفوية إحدى قيم الحياة الكبرى التي تنعش القلب وتحييه لأنها تبقيه مفتوحاً أمام الحقيقة ومنصاعاً لها. يُلاحظ هذا الأمر لدى الأطفال، فهم الأفضل لنتعلّم العفويّة منهم. في حالات مماثلة تتحوّل العفوية إلى هبةٍ تزهر على درب الصدق! إلا أن العفوية المفرطة لدى الكبار قد تسبب نوعاً من الإزعاج في العلاقات.
يتفق علماء النفس على أن العفوية هي جوهر الحياة الحقيقي. تتبع الحوارات بين الناس الطريق عينه، وحين تُفتقد العفوية، يعجز المتحاورون عن تقاسم ما يدور في داخلهم بشكلٍ فعلي حقيقي. بعبارة أخرى، لا وجود لحوار القلب بغياب العفوية في العلاقات.

انطلاقاً من تحليل مفهوم العفوية، وتوصلاً إلى استخراج معانيها، لا بدّ من البحث عن التعابير التي تقوم عليها والمفاهيم التي تتعارض معها.

تكمن العفوية في ممارسة تصرفات من دون تدخل أي سبب خارجي بالضرورة. لذلك، يُلاحظ أن الحيوان يتصرف بعفوية أكثر من الإنسان الذي يستفيد من حرية، يحمل معناها الميتافيزيقي غياب القيود أو أشكال الحتمية. كرؤية أولى، يعادل التصرف العفوي التصرف الحر: لا شيء ولا أحد يستطيع، في حالات مماثلة، وضع قيود أمامك. في المضمار عينه، قد يتساءل المرء عن مدى التقارب بين التصرف العفوي والتصرف الأرعن واللاإرادي وغير المسؤول. تكمن المشكلة في معرفة ما تعنيه العفوية لتحديد ما إذا كانت تعني حرية أم لا.

يُعتبر التصرف عفوياً حين لا يضع الغير حدوداً أمامه. تبعاً لذلك، لا يمكن انتزاع اعترافات عفوية بالعنف أو الاحتيال، فمن يعترف يقرر التكلّم فيما كان بمقدوره اختيار البقاء صامتاً، ولا أحد يجبره على التكلّم أو يضغط عليه.

حرية وتفكير

من الناحية الفلسفية، تتعارض العفوية مع التفكير وتداول الأفكار. في كتابه «الوجود والعدم»، يوضح سارتر: «ليست العفوية مجرد خطأ في القدرات يحدّد الإنسان، إنما رغبةً في التصرّف كأنني قادر على تحديد نفسي».

يضيف: «الصفاء المزعوم الذي، بفضله، أفترض أنني قادر على وزن الأسباب ليس في الواقع إلا وهم حرية يخفي وراءه الأمور الحتميّة التي ألتزم بها...» لا يعني الأمر أن سارتر يعارض مفهوم الحرية، إلا أنه يعتقد أنها تدفق مميز وعفوية حرة.

تتوافر الحرية، إذاً، في مشروع أساسي؛ أي العيش بحرية اختيار سابق لنوعٍ من العلاقات مع العالم، وخيار أساسي يرمي إلى تبني هذا الموقف أو ذاك، في مواجهة هذا العالم. وبهذا تكون الحرية عفوية طاهرة من دون أن تتعارض مع ما هو متداول، وتكمن في الطريقة التي يختارها المرء ليتخذ موقفاً ومركزاً له وليس في طريقة التفكير التي تحدد طبيعته.

حين يسيطر اللاوعي

ألا تُعتبر العفوية تعبيراً مباشراً عن اللاوعي؟ يشير فرويد في تحليله النفسي أن الـ «أنا» تفقد مركزها كسيد في منزله الخاص، ليستلم اللاوعي مهمة إدارة الحياة النفسية. في هذا الصدد لا تنقص الدلالات للتأكيد على قوة اللاوعي.

يبرهن فرويد كيف يعجز الإنسان عن تحديد نفسه لأن الحوافز النفسية، المشابهة للقوى الجسدية، تتصرف بشكلٍ مستقل عن الإرادة. حين تملك قدرة على الاختيار، تأكد أن الأمر ليس إلا وهماً، في الحقيقة كل ما تفعله هو أن تستسلم لدافعٍ نفسي بدا أقوى من غيره.

في كتابه «لغز الذاكرة»، يتناول فرانسوا إيلينبرغر «وهم النية» فيقول: «يعتقد الإنسان أنه حرّ الاختيار ليس في ما يتعلق بالأفعال فحسب إنما بالأفكار أيضاً». يضيف أن هذا الوهم يعفينا من الجهد الذي يتطلب منا تساؤلا حول السبب الكامن وراء أفكارنا، رغباتنا، باختصار حول محتوى حياتنا الواعية.

يقول فرويد: «المعتقد الراسخ عميقاً في الحرية والعفوية النفسية هو مضاد للعلوم ولا بدّ من أن يتماهى أمام مطالبة الحتمية النفسية».

اللاوعي يتجسد في الحلم، الزلات والهفوات ويحتلّ مركزاً أساسياً في حياتنا النفسية إلا أنه لا يترك المجال أمام كشفه، بمعنى آخر وبكلام دقيق، يبقى اللاوعي في أغلب الأحيان لاواعياً ولا يكشف عن أي عارض. لذلك يصعب إخراجه من مكمنه.

بإمكان التحليل أن يكشف روابط منطقية لطالما كانت مخفية، إذ تتيح القراءة التحليلية إلقاء الضوء على خيارات كلّ فرد وقناعاته، ولا تغيّر، بالضرورة، القناعات التي يملكها عن نفسه، إنما تساعده على تقديرها بشكلٍ مختلف، في ما تشدد على اتساقات جديدة.

هل تُعتبر العفوية عيباً؟

 

يمكن اعتبار العفوية سمةً أو عيباً استناداً إلى أهميتها. اليوم، مع سيطرة المادة، يصعب التمييز بين الصواب والخطأ في ظلّ طبيعة العلاقات الإنسانية الاصطناعية، حتى بات التصرف بشكلٍ طبيعي خطراً قد لا تخاطر الأكثرية في تقبله. بدورهم يبدو الشباب كأنهم دخلوا دوامة هذه اللعبة رغبةً منهم في إنجاز أهدافهم.

بالفعل يصعب أن يختار الإنسان بين العفوية والنفاق الاجتماعي ليبقى على قيد الحياة! إذا اعتاد التصرف بشكلٍ عفوي طبيعي، فسيواجه الواقع الاجتماعي الذي يتطلب قواعد كثيرة ويؤدي إلى أخطاء! إلا أن البعض يُظهر استعداداً لاعتماد النفاق الاجتماعي أسلوب حياة، فلا عجب أن تقابل أشخاصاً مستعدين لفعل أي شيء بغية تحقيق أهدافهم، حتى وإن تطلب ذلك إخفاء هويتهم ومشاعرهم الحقيقية، فلا يُظهرون إلا الوجه الذي يخدم مصالحهم ولا يترددون في استعمال أسلحة تضمّ مشاعر خادعة، كذباً ووجوهاً متعددة لاقتناص الفرص التي تطرحها الحياة أمامهم.

في المضمار عينه، يبدو إخفاء الوجه الحقيقي في بعض الأحيان شراً لا بدّ منه. كذلك يمكن اعتبار الحسابات التي يقوم بها المرء كدليل على روح متيقظة، وإن كانت تدخل ضمن إطار الوقاية من الفشل، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن هذا الميل الانتهازي قد يبلغ في بعض الأوقات حدوده القصوى، إذ يجهل الأشخاص أين يتوقفون، ويحذفون المبادئ الأساسية، المعتقدات والأخلاق للتوصل إلى تحقيق أهدافهم.

تعتقد ناديا (20 عاماً) أن العفوية نقطة ضعف الأشخاص الصادقين. حين تكون صادقاً، تكون عفوياً، لطيفاً إلا أن هذه القيم التي يُفترض أن تكون ذات جودة عالية تتحول إلى نقطة ضعف، فتجد نفسك «عارياً»، وحين تصادف أشخاصاً سيئين أو انتهازيين، تأكد أنك وقعت في مأزقٍ لا تُحسد عليه! فهم يعتبرون العفوية واللطف أحد أنواع السذاجة ولا يترددون ثانية واحدة ليحصلوا من المحيطين بهم على أقصى فائدة ممكنة، ويسعون إلى إلحاق ضرر بالآخرين وتدمير صورتهم.

يرى الشخص العفوي نفسه بوضوح تام وبكلّ طيبة قلب عرضةً لشرّ الآخرين، مع ذلك، لا بدّ من التأكيد أن الشخص الذي يضع قناعاً هو شخص حقير أو ضعيف يفتقر إلى ثقة بالنفس وتملؤه العقد لدرجة أنه غير قادر على إظهار وجهه الطيب.

ترى مهى (33 عاماً) أنه {يتعين على كلّ شخص أن يتزين بما يراه مناسباً من المزايا ليحجز لنفسه مكاناً. يستهدف الأشرار الأشخاص العفويين، لذلك لا يجب أن تُظهر وجهك الحقيقي أو تكشف حياتك ونواياك ونقاط ضعفك أمام الآخرين، حتى وإن كانوا طيبين، فلا أحد يدري ماذا يخفي المستقبل، وقد يتحول أقرب الناس إلى عدو ويستعمل ما يعرفه عنك لإلحاق الأذى بك.

تُعتبر السيطرة على المشاعر ثمرة بناء لاواعٍ يتشكّل ضدك من التبادلات العاطفية الأولى ومن الثقافة العائلية! لذا أفضل أن أضع قناعاً على وجهي، أن أختبئ، أن أتظاهر، أن أختفي، أن أكذب عند الحاجة وأن أغري الآخرين. حين أشعر بالأمان مع عائلتي أو مع أشخاص أثق بهم ثقةً عمياء، أنزع القناع وأتصرف على طبيعتي. الوقاية خير من قنطار علاج}.

مسألة سيطرة

 

تشير المحللة النفسية كاترين إيميليه – بيريسول إلى أن السيطرة على العواطف هي مبدأٍ تثقيفي وتعليمي هام يمكن تعلمه من العائلة. يبني الفرد نفسه آخذاً هذه المواقف كنماذج وكنماذج معاكسة. مثالا على ذلك: ستقلّد الطفلة أمها التي تتمتع بمزاجٍ ثابت ناعم عاطفياً أو ستبحث عن المواجهة لإنشاء علاقةٍ حميمة فتثقف نفسها وفقاً لهذا النموذج المعاكس.

على الصعيد التربوي، تشير المحللة النفسية إلى أن، على رغم الإطناب والتسخيف الاجتماعي في الحوار النفسي بشأن المشاعر، يعجز الأهل عن إدارة مشاعر أولادهم، إذ لا يعرفون كيف يتعاملون معها. يحفظ الطفل بالتالي أن الخوف والغضب سيولّدان الخوف والغضب فيقمع الشعور بالذنب إلا أن جسمه لن ينساه إطلاقاً؛ والأمر سيان بالنسبة إلى ردود الفعل العفوية الأخرى.

لا بدّ من أن تتذكر إذاً أن المسألة مسألة اعتدال في ما يتعلق بالعفوية. في الحياة الاجتماعية، لا ضرورة لتخبر الآخرين بما يحدث معك وما يجول في فكرك في كلّ وقتٍ وحين، فالعفوية قد تجرح وتؤذي وتغيظ وتهين وتسيء! لكن خلافاً لذلك، أن تنتبه دائماً إلى كلامك وتحسب له ألف حساب قبل أن تنطق به... أمور تعيق التواصل الحقيقي بينك وبين الآخرين. عموماً، يقترب كلّ ما هو عفوي من الحقيقة ومما نفكر فيه فعلياً وهذا ما يعجبنا لدى الأطفال. أن تبلغ سن الرشد يعني أن تكسب الحكمة وتتعلم كيف تكبح كلامك وكيف تفكر قبل أن تتفوه به وأن تحسب ألف حساب قبل أن تنطق بأي تفاهة.

بدلا من محاربة عفويتك، ثقفها ودجنها بحكمة! فمن دون العفوية لن تعرف ذاتك حقّ المعرفة، وحين تبقى عاجزاً عن معرفة نفسك، ستبني روحك على تأثيرات عابرة، كالكتب التي تقرأها والأساتذة الذين تتلمذت على أيديهم والتدريبات التي خضعت لها تحت إشراف آخرين وغير ذلك؛ تأثيرات من شأنها أن توسع عقلك أو تجعله ضيقاً إلا أنها تبقى دائماً في محور التأثير...

back to top