أكتب رباعيات يومية لأكون أقرب إلى الشارع

نشر في 28-01-2013 | 00:02
آخر تحديث 28-01-2013 | 00:02
No Image Caption
عبد الرحمن الأبنودي: الربيع دخل أغبى كمين

تحت شجرة المانغو القائمة وسط ساحة منزله البسيط يجلس الشاعر الكبير سانداً يديه على عكازته السوداء الخشبي وإلى جواره كلبه الأسود «روكي»، بينما يحتسي الشاي والذكريات ويتأمل في ما هو كائن. يجوب ببصره الأفق الممتد وينظر إلى السماء قائلاً: «على الله إنهارده يكون الجو حلو، كفيانا عواصف»... إنه الخال عبد الرحمن الأبنودي الذي استقر في بيته الريفي في مدينة الإسماعيلية ليتعافى من آثار أزمات صدرية ثقيلة ألمت به مبتعداً فيها عن تلوث القاهرة كما أوصاه طبيبه. التقته «الجريدة» وكان هذا الحوار الذي آثرنا فيه أن تكون التساؤلات نابعة من أشعار الأبنودي، ففجرت الهموم والأشجان حول الربيع العربي والشعر والثورة والشباب والواقع والمستقبل.
 «السلطة تغري، لذيذة بنت اللذينا، أول يومين تمشي دوغري، تالت يوم تبيع المدينة». هل تنعكس دلالات البيت على السلطة القائمة؟

تعمي السلطة صاحبها، تخاف منها وعليها عندما تتسرب من شعبها، فنحن الآن نعيش تحت قبضة السلطة التي تصنع من الوطن رداء يكفيها وحدها. والجماعة قبل أن تصل إلى الحكم كانت تؤدي دور «اليد الناعمة»، والأقرب سماعاً إلى صوت الشوارع وهي بداية حلقات الكذب، وحين استحوذت على السلطة ضربت على الوطن بقبضة من حديد.

«ده وطن ولا فخ»، هل الهوية المصرية يمكن أن تكون فخاً وهل تغيرت معالمها قبل الثورة وبعدها؟

عشنا في مصر ونحن نعتقد أنها بلد الإنسانية والهدوء والجمال، وتلك مسألة ورثناها وامتزجت هذه الصفات في لون المصري وتكوينه، وكانت القبائل العربية القديمة تأتي على مصر «تتنيل النيل» وكانت أرضنا بمثابة البقعة المريحة الجذابة له. ولكن منذ ظهور ما يسمى تيار الإسلام السياسي، بدأت الشخصية المصرية ترتبك بين أساس تكوينها وما ورد إليها من أفكار أعتقد أنها محاولة لتغريب الهوية وسط أفكار متطرفة ومغرورة وعمياء، وعدم قدرة على استيعاب أن الزمن يتغير. وطيلة الأزمنة  دافعت مصر عن جوهرها النقي عبر عصور مظلمة جداً منذ أيام الفرس والروم والأتراك والمماليك والفرنسيين والإنكليز، عبر أزمنة شهدت فيها أنواع الاستعمار كافة وظلت شامخة وستبقى. ولن ينجح فصيل بعينه في خدش هوية الإنسان المصري، ومن يحاول ذلك فمصيره الانقراض.

«غلط الربيع ودخل في أغبي كمين»، متي يخرج الربيع من كمينه؟

مصر ليست الوحيدة التي دخلت أغبي كمين، تونس وسورية أيضاً. تسقط فاشستياً لتأتي بـفاشستي آخر، وما يحدث ما هو إلا طريقة للسيطرة على الحكم، لا النضال ضد أنظمة قمعية، ولن تنصلح الحال إلا عندما تعود الحقوق إلى أصحابها ونصبح أحراراً، نقاتل، نحارب، ونثور في وجه كل من قتل الشهداء، وأهان الشعب، وخان الثورة، وباع الوطن.

«ملعون أبوها الحمامة أم غصن زيتون؟»، لماذا وصفت الثوار بـ «الدراويش» في هذه القصيدة؟

كل ما أصابته محبة الوطن هو «درويش»، هؤلاء الثوار هم مصر عندما تستدعي روحها، تجد الولد منهم لا يعرف الكتابة ولا القراءة ولا حتى يفهم في السياسة، لكنه شاعر بأن ثمة شيئاً خطأ يحدث فيثور ويقف أمامه وترى الإصرار في خطاه. هؤلاء في نظري هم مصر الحقيقية، هم من تجدهم في المعارك يقفون في الصفوف الأولى يلقون الحجارة وتستقبل صدورهم الرصاص، وكل هؤلاء الدراويش من بداية الثورة من عاش منهم ومن رحل سيأتي يوم نبني لهم نصباً تذكارية وستحتفل بهم مصر يوماً.

«أنت اللي وقفت معايا في عركة التغير بكرة هتقتلني بإديك في ميدان التحرير»، الرؤى الإبداعية الواضحة هل هي لصيقة بوقت الشدائد والأزمات فحسب؟

جرح الوطن محفز كبير للوقوف إلى جواره، ولا يوجد مبدع حقيقي يرى وطنه مجروحاً ولا يبادر إلى مداواة هذا الجرح، ففي عتمة نكسة 67 كان الناس في يأس يشابه الذي نعيشه حالياً، فالشعر وقت جرح الوطن يجعل الوطن يتنفس ويشد من أزره، إنما عندما تكون الأوطان منورة كما في انتصار أكتوبر فيظهر «الشماشرجية». أما النكسات والأزمات الوطنية الشديدة فتحتاج إلى الشعر، ذلك السلاح الجبار.

قيل قديماً إن «أعذب الشعر أكذبه»، هل يرضى شاعرنا بهذا القول؟

غير صحيح، لكن العرب اعتادوا قديماً على تبجيل الحاكم. يكون الحاكم أسود الوجه وغبي الطلعة ويقولون له {جبينك الوضاء، ووجهك النور}، ولكن كانوا يملكون قدرات شعرية رائعة. اليوم، اختلف الزمن ولا يحتمل غير الصدق وإذا قررت أن تبدع فيجب أن تبدع من خلال الصدق.

لماذا كان صوت الشعراء باهتاً في تلك الفترة؟

ثمة شعراء يكتبون من «بوئهم» (شفاههم)، وثمة شعراء في المعمل ومن خلال الكيمياء يضعون «الهوئة على البوئة» فتكون قصيدة، وثمة شعراء لديهم طلاء شعري إنما في حقيقته ليس شعراً. فخور وسعيد بالشعراء «اللي أفرزهم ميدان التحرير»  مثل مصطفى إبراهيم، كاتب أغنية «فلان الفلاني» التي أعجبتني جداً وحسدته وتمنيت أن أكون أنا من كتبتها لما تحمله من معاني صادقة ومحكمة، وأحب أغنية «اثبت مكانك» لفريق «كايروكي». أعتقد أن الثورة غيرت جلود كثير من الشعراء ليعودوا إلى الحالة الشعرية الكثيفة. وبعيداً عن الشعر والشعراء، أتابع حلقات المذيع باسم يوسف، رجل ساخر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والمجهود المبذول في برنامجه واضح جداً، وأشعر بتفاؤل كبير عندما أشاهده لأن معدنه المصري يغمره النور.

لماذا لم تفكر في كتابة الرواية رغم تمتع قصائدك بحس روائي عال؟

كنت أكتب رواية عن أمي فاطمة قنديل، وصلت فيها إلى الفصل الأول، وعرضتها على صديقي الراحل نجيب محفوظ. لكن أنا عموماً «الشعر أبي» والفترة التي كنت أكتب فيها مقالات صحافية هرب مني الشعر خمس سنوات لأني كنت أرى المشهد وأكتبه في عقلي، بينما الشعر فن الوجدان، إذا خنته يخونك، إنه فرس جامح.

«يا حمام بتنوح ليه فكرت عليا الحبايب»، هل محمد منير هو حقاً حنجرة الأبنودي؟

محمد رشدي هو حنجرة الأبنودي، ولكن ثمة كلمات غناها منير وعشقها الشباب مثل أغنية «يونس، قلبي ميشبهنيش، يا حمام بتنوح ليه، ورة الشبابيك»... كلها أغان قدمها منير ونجحت نجاحاً ساحقاً. كذلك لا أنسى تجربتي مع علي الحجار في قصيدة «ضحكة المساجين»، فقد زارني يوماً وطلب مني تلحين القصيدة كي يغنيها ورغم أنني حذرته من أن كلمات القصيدة قد تدخله في مسألة قانونية أو ما شابه إلا أنه صمم على غنائها، وكانت تجربة رائعة في التلحين وأداء وصوت الحجار سعدت بها كثيراً.

لماذا تكتفي الآن بكتابة رباعيات وابتعدت قليلاً عن القصيدة؟

اكتظت الساحة بالجرائد بشكل كبير، وامتلأت بالأحداث وإن قرر القارئ أن يقرأ كل الصحف فلن يذهب إلى عمله ولن يمارس أي نشاط كي يتمكن من قراءة الصحف كافة حتى أصبح منهكاً. والشعر فن التكثيف، فما يقوله المقال في صفحة يقوله الشعر في بيت لذلك اعتمدت على المربعات اليومية التي أكتبها في إحدى الصحف اليومية، وتتكون من أربعة أشطر يطابق الشطر الأول الثالث ويطابق الشطر الثاني الرابع، ومن خلال ارتطام القوافي يتولد المعنى، ما جعلني أتفاعل مع الثورة بشكل يومي.

كيف ترى دور المرأة في الثورة منذ بدايتها، وهل تتوقع حركة نسوية ناهضة بعد الثورة؟

المرأة المصرية «سترت الثورة» ناضلت وفضحت الكثير من القيم البالية لمجتمعاتنا، وثمة نماذج أمهات وأخوات وزوجات الشهداء تجلت فيهن صورة المرأة القوية الأصيلة في الثورة. وأنا متأكد أن المرأة المصرية لم ولن يتوقف نضالها، لأنها أكثر بصيرة وأكثر شجاعة من الرجل، والأنظمة الغبية حشرتها في خندق مغلق كسلعة ومنعت وجودها بشكل ملحوظ، لكنها كانت دائماً تبحث عن النور الذي يليق بعظمتها، ونحن الرجال ربتنا المرأة المصرية.

back to top