حقيقة أفغانستان... هل يستعد نظام كرزاي للرحيل بعد الأميركيين؟!

نشر في 29-06-2013
آخر تحديث 29-06-2013 | 00:01
تشكّل الشرعية الدولية أو اعتراف الولايات المتحدة محوراً ثانوياً في نظر الجميع، فالأهم اليوم الواقع العسكري على الأرض. لا يملك كرزاي قوة يُعتمد عليها، وستسحب الولايات المتحدة قريباً معظم جنودها من البلد، ما يعني أن نظامه محكوم عليه بالفشل.
 ستراتفور .    اتخذت الولايات المتحدة قراراً بالانسحاب من أفغانستان قبل بضع سنوات، فعكس هذا القرار منطقاً لا مفر منه، فعندما عقدت الولايات المتحدة العزم على المغادرة مهما كلّف الثمن، كانت إخفاقاته تبدو جلية، وكذلك نقاط ضعف الحكومة التي أمضت أكثر من عقد في بنائها. فضلاً عن ذلك، بدا الباب مفتوحاً أمام أعداء نظام الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، الرجل الذي تحوّل اسمه إلى مرادف لحكومة ما بعد "طالبان". وما كان عليهم سوى انتظار انسحاب الولايات المتحدة.

الإخفاقات الأميركية

لم يتردد بعض العناصر في الحكومة الأميركية في انتقاد الحكومة الأفغانية والجيش الأفغاني لأنهما فاسدان وغير كفوئين. صحيح أن بعض الوحدات فاعلة، إلا أننا نعلم جيداً أن حركة "طالبان" أعدت برنامجاً هدفه اختراق مؤسسات ما بعد "طالبان" بمجرد الشروع في إنشائها. أما على المستويات العالية، فقد دفعت هذه الحركة، من خلال أفراد العائلات، مبالغ ضخمة من المال لشراء ولاء الأشخاص، وقد حققت هذه الرشاوى النجاح لأن "طالبان" قدّمت أموالاً طائلة، ولأن الناس أدركوا أن الموالين للحكومة سيخسرون الدعم ما إن تغادر الولايات المتحدة. ولا تقتصر هذه الظاهرة على أفغانستان. يفضل الناس عموماً العيش بسلام، وكان هؤلاء المعنيون يحاولون الحدّ من خسائرهم. على صعيد آخر، انخرط الكثير من المتعاطفين مع حركة "طالبان" في الجيش الأفغاني الحديث الولادة. صحيح أن هذه الظاهرة لم تكن متعمدة، إلا أنها كانت فاعلة. فسرعان ما تغلغل داعمو طالبان في مختلف مستويات الجيش، وهذا ما ظهر جلياً خلال الموجة غير المتوقعة من عمليات الاغتيال التي نفذها أشخاص موالون للنظام واستهدفت عناصر تابعين لحلف شمال الأطلسي. فصارت هذه الهجمات تُعرف باعتداءات "الأخضر على الأزرق". إذن، لا يمكن الاعتماد على القوات الأفغانية، فلا داعي أن يكون كل عناصرها على علاقة بـ"طالبان" كي تصبح هذه القوات غير فاعلة. يكفي أن تضم عنصراً واحداً مستعداً وقادراً على إطلاع هذه الحركة على تفاصيل العمليات المخطَّط لها لإفشال هذه العمليات أو تحويلها إلى كارثة.

عندما أُنشئت القوات الأفغانية، كانت الولايات المتحدة متساهلة في مراقبة خلفية المجندين، وكانت حجتها في ذلك عجز معظم المدربين عن التمييز بين الأوفياء والمنشقين، وكانت الولايات المتحدة قد عانت أيضاً هذه المشكلة في فيتنام. على سبيل المثال، تبيّن أن أحد السقاة في مكان اعتاد الأميركيون التردد عليه باستمرار في سايغون عقيداً في الجيش الفيتنامي الشمالي منذ سنوات.

نصل الآن إلى أحد أهم إخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان: الاحتقار الثقافي لحركة "طالبان"، كما حدث في فيتنام، فشلت الولايات المتحدة في فهم أن غياب التكنولوجيا والبيروقراطية الأميركية الطراز لا يعني أن العدو عاجز عن تحديد الفرص أو أنه لن يسعى إلى استغلالها.

عانت حركة "طالبان" خسائر كبيرة، لكن الأهم على أرض المعركة ليس حجم القوى، بل ترابطها. صحيح أن القوات الأفغانية تشمل بعض الوحدات الجيدة التي يُعتمد عليها، ولكن تكمن المشكلة في صعوبة تحديدها. علاوة على ذلك، اصطدمت قدرة كرزاي على تطهير قواته من المتعاطفين مع "طالبان" بواقع أن بيروقراطيته بحد ذاتها متداعية، وكما تعلمت الولايات المتحدة من جيش فيتنام الجنوبي وسياسة ريتشارد نيكسون، يجعل اختراق قواتك عملياتك غير فاعلة، لأن ذلك يتيح للعدو الاطلاع على تنظيمك التكتيكي وتفكيرك الاستراتيجي، والأهم من ذلك، يزرع بذور قلة الثقة وعدم اليقين.

في الحرب الأهلية، لا تعتمد فاعلية الحكومة على أفكار مثل الشرعية والاعتراف الدولي، بل على قدرتك على تأكيد وجودك بحزم في مختلف المناطق. ثمة قبائل ومجموعات أخرى في أفغانستان تتمتع بدرجة عالية من التماسك. ولا شك أن هذه الكيانات، لا الحكومة الأفغانية، هي ما سيشكل عقبة في طريق "طالبان"، أما النتائج المحتملة، فعدة، ومنها التقسيم التام. إلا أن تشكيل نظام كرزاي حكومة وطنية مستدامة ليس أحدها، والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة بحد ذاتها لا تظن أن هذا ممكن أيضاً.

الاستراتيجية الأميركية

تُعتبر الأولوية الاستراتيجية الأميركية إنهاء الحرب مع ترك مجموعة صغيرة من القوات لمحاربة تنظيم "القاعدة" من دون السعي لبسط الاستقرار في البلد. تدرك الولايات المتحدة أن حكومة كرزاي أو أي حكومة قد تخلفها ستكون ضعيفة ومفككة، لكنها تفضل أن تبقي حركة "طالبان" على الأقل مجرد فصيل، ما يسمح بانتقال السلطة ضمن الإطار القائم راهناً. قد تأخذ "طالبان" هذه الاستراتيجية في الاعتبار، إلا أن التحالف معها لن يشكل سوى مهزلة، فمن المرجح أن كرزاي ما كان ليتمكن من تشكيل قوة راسخة لمواجهة "طالبان"، لكن هذه الخطوة تؤكد أنه فشل في مواجهتها. فلم يبقَ أمامه أي خيار آخر، ويدرك كثيرون من كبار مساعديه هذا الواقع. لذلك بدؤوا يخططون لمغادرة البلاد أو يسعون للتوصل إلى تسوية سرية مع "طالبان".

أعتقد أن الولايات المتحدة تدرك جيداً ما يحدث، إلا أنها لن تسعى إلى ضبط تصرفات أعوان كرزاي. أكّدت الولايات المتحدة خططها للحفاظ على وجود عسكري كبير في أفغانستان خلال عام 2014، إلا أن هدفها النهائي يظل الرحيل. تدرك واشنطن أن "طالبان" القوة الأبرز في أفغانستان، وأن ثمة فصائل أخرى يمكنها التصدي لهذه الحركة. لكن الولايات المتحدة غير مستعدة للغوص في تعقيدات السياسة الأفغانية، فمع إخفاقاتها التي أوصلتها إلى هذه المرحلة، ما عادت تثق بقدرتها على ذلك، فضلاً عن أنها لا تملك أي مصلحة في ذلك.

جاء قرار الولايات المتحدة التفاوض علنية مع حركة طالبان بعد أكثر من سنتين من المحادثات السرية نسبيّاً، فقد سبق أن ناقشت مع هذه الحركة الكثير من المسائل، ونرى في واشنطن اليوم فهماً عميقاً لطالبان وأهدافها، والعكس أيضاً. فعندما استاء كرزاي من السفارة المفترضة في قطر، أخفضت حركة "طالبان" العلم، ولا شك أن لهذه الخطوة دلالات كثيرة، فلا تريد "طالبان" أن تصعّب على الأميركيين مهمة إقناع كرزاي بالجلوس إلى طاولة الحوار، وبعد أن أكدت وجهة نظرها، تراجعت بطلب من الولايات المتحدة. تبدو الولايات المتحدة من نواحٍ عدة أكثر ارتياحاً في تعاملها مع "طالبان"، مقارنة بالقبائل الأخرى في البلد، لأن المفاوضات السرية منحت واشنطن فهمًا أعمق لهذه الحركة، لكن هدف الولايات المتحدة الرئيس يبقى الرحيل. وتودّ الخروج من دون خسارتها ماء الوجه، لكنها سترحل في مطلق الأحوال، سواء حافظت على ماء الوجه أم لا، إلا أن الولايات المتحدة تعتقد، في رأيي، أن "طالبان" تتمتع بما يكفي من الحلفاء والشركاء لتكون القوة الأوسع نفوذاً في أفغانستان بعد رحيل الأميركيين.

تشكّل الشرعية الدولية أو اعتراف الولايات المتحدة محوراً ثانوياً في نظر الجميع. فالأهم اليوم الواقع العسكري على الأرض. لا يملك كرزاي قوة يُعتمد عليها، وستسحب الولايات المتحدة قريباً معظم جنودها من البلد، ما يعني أن نظام كرزاي محكوم عليه بالفشل، لكن ما يبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات مقدارُ سيطرة حركة "طالبان" على أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة وما إذا كان ادعاء أن ثمة ما يُدعى حكومة كرزاي قد يصمد. قد تمنح الولايات المتحدة كرزاي بعض التنازلات الظاهرية، إلا أنها لن تقدِم على أي تعديلات استراتيجية.

إذن، تهمّ الولايات المتحدة بمغادرة أفغانستان، وفي هذه المفاوضات يعاني كرزاي شللاً عسكرياً. ومع أن "طالبان" باتت أضعف من ذي قبل، فإنها أقوى وأكثر تماسكاً في أي مجموعة أخرى في البلد. ويجب ألا ننسى بالتأكيد الفصائل الأخرى. هذا هو الواقع الأفغاني.

George Friedman جورج فريدمان

* رئيس مجلس إدارة Stratfor.

back to top