د. فواز طرابلسي: غالبية الثورات ستتحوَّل حرباً أهلية

نشر في 08-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 08-08-2013 | 00:02
No Image Caption
فواز طرابلسي يساري بارز ناشط وباحث ومؤرخ لبناني، يدرِّس في الجامعة الأميركية ولديه الكثير من الأبحاث التي تتعلق بالشأن اللبناني والمحيط العربي، من بينها «تاريخ لبنان الحديث، صلات بلا وصل، حرير وحديد، فيروز والمسرح الرحباني، مشغرة، الأعمال المجهولة لأحمد فارس الشدياق»، بالإضافة إلى تحقيقه أعمال عيسى اسكندر المعلوف عن العائلات وتاريخ البقاع. يرأس تحرير مجلة «بدايات»، وله مواقف مغايرة في الثورات العربية وفي الصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى اليسار العربي وضرورة تطويره. وبسبب موقفه من «حزب الله» أخيراً منعت مقالته من إحدى الصحف اللبنانية. معه هذه الحوار.
كيف تفسر الأحداث في مصر في الأشهر الأخيرة؟ هل نحن أمام ثورة في الثورة أم سرقة ثورة أم ثورة جديدة أم انقلاب، أم نصف انقلاب ونصف ثورة؟

الأمر الذي يجب أن نخرج منه أن ثمة فئة قامت بالثورة وفئة لم تقم بها. الثورة المصرية المقعدة من الانطلاقة كان لها جناحان، جناح حديث يريد تغيير النظام العسكري الاستبدادي المباركي، وهو ذو توجه ديمقراطي ليبرالي ويساري إلى حد ما، يطالب بالعدالة الاجتماعية ويطغى عليه العنصر الشبابي، وتغلب على هذا العنصر العفوية غير المبرمجة. فقد وضع شباب الثورة فكرة لبرنامج متكامل في البداية يمكن اعتباره وثيقة شرعية للثورة، وهو فكرة المؤتمر التأسيسي التي لم تكتمل. كانت الفكرة أن ثمة ثورة يجب أن تحصل ونظاماً يجب أن يسقط. جرى التخلي بسرعة عن نظام محمد حسني مبارك بمبادرة من الجيش وبدعمه، جرت محاولة سريعة لإحلال نائب الرئيس عمر سليمان محله، لكن العملية فشلت ولم يتم التوافق عليها، ومشت العملية الانتخابية التي تحولت بسرعة إلى نظام رئاسي جديد، ولأسباب قضائية حلّ مجلس النواب المصري وبقي مجلس الشوري الذي يسيطر عليه «الإخوان». وهنا يطرح سؤال: أي نوع من الصفقات قام بها الإخوان مع العسكر بعد سقوط مبارك؟ لا شك في أن ثمة صفقة، لكن في الحصيلة، الجناح الليبرالي القومي اليساري الذي نتحدث عنه، لم يتسلم الثورة، واستلمها الجناح الذي كبر خارج الدولة، وخارج القطاع العام الناصري. وكان شعار هذا الجناح «الإسلام هو الحل» وفكرته الرئيسة هي القضاء على كل ما هو موجود من دولة حديثة، ومن تشريع مدني في الدولة المصرية. صحيح أن الإخوان سحبوا شعار «الإسلام هو الحل» من التداول، إنما إذ تقرأ ما يسمونه «مشروع النهضة»، تجد أن مصطلحاتهم كافة تقوم على أسلمة الدولة. بالتالي، إقامة حكم فردي تسلطي استبدادي. أعلن الرئيس مرسي نفسه خارج طائلة القضاء بعد التعديلات الدستورية، وجرى إقصاء تام للشريك الآخر في الثورة، والانفراد في الحكم والبدء في أخونة الدولة. بالتالي، أعتقد أن الذين رأوا من نظام مرسي امتداداً لنظام مبارك كانوا محقين، وهؤلاء اعتبروا أن القضية ليست عن مصادرة الثورة فحسب، بل أنه في خلال سنة أظهر الأخوان مستوى متدنياً من الحكم، واتجهوا إلى التسلط ونسيان المحركات الاجتماعية التي كانت سبباً في اشتعال الثورة.

بعد سنة من حكم الإخوان، كانت لافتة السرعة التي تنامت فيها حركة «تمرد» المصرية لإسقاط مرسي. يمكن القول إنه جرت مساعدتها من المؤسسة العسكرية، لكن الحماسة التي حركت الشباب في طول مصر وعرضها، ونوع الاستمارات التي وزعت، يوحيان بأنها لاقت تجاوباً استثنائياً، وذلك كله يقيس مدى خيبة أمل الناس والجمهور، من فئة استولت على الثورة أظهرت عدم كفاءتها من خلال استلام الحكم، وهي فئة تسلطية في الوقت نفسه. هذا يفسر وجود أكبر حشد في تاريخ مصر لإسقاط مرسي في 30 يونيو.

أمام هذا المد الشعبي العارم في الشارع المصري، تدخل الجيش كانصياع للإرادة الشعبية، وشرعية الشارع. على أن الانقسام في الشارع شكَّل أهم مبرر للجيش ليقول إنه متدخل، على الأقل للفصل بين كتلتين وبين ملايين الناس، خصوصاً في المدن الكبرى.

هل نتجه إلى الحكم العسكري؟ أعتقد لا. والسؤال عن مدى قدرة الشرعية الشعبية الجديدة، على استيعاب الإخوان، هذا الأمر يرتبط بقبول قيادة الإخوان والإقرار بأن العهد الفردي المتسرع انتهى وثمة نمط جديد من الحياة البرلمانية والحياة الدستورية يجب الرضوخ له.

الدرس الكبير من الثورة المصرية الثانية هو أن المنطقة ليست على نموذج واحد، حاول البعض الترويج له وهو «الربيع الإسلامي» الذي لقي اهتماماً كبيراً من الولايات المتحدة، ذات الرؤية الدينية الإثنية للعالم. الأمر الثاني، أن انهيار النوذج الإخواني في مصر ضربة كبرى لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وقد دفع ثمن ما أعتبر نجاحاً اقتصاديا لحزب «العدالة والتنمية» في تركيا. الأمر الثالث أن مشروع بناء عثمانية لم يستقم وضعه لا في تركيا ولا في البلدان المحيطة، خصوصاً بعد الاحتجاجات التي حصلت في تقسيم في إسطنبول.

برأيك هل سقط الإسلام السياسي؟

من المبكر الحكم في هذا الموضوع. وفي السياسة لا يوجد مصطلح «سقوط». يمكن لثلاثين شخصاً تأسيس تنظيم سياسي والعمل في السياسة.

لكن سقوط الإخوان في مصر سيشكل دافعاً لسقوطهم في أماكن أخرى؟

الدولة الإسلامية بمفهومها الإخواني هي أولاً وأخيراً ردة على الدولة المدنية، وهي ردة على تدخل الدولة في الاقتصاد، وهي نمط من أنماط النيوليبرالية، مع أن قسماً كبيراً من الثورة المصرية تفجَّر ضد النيوليبرالي، جزء كبير من الثورة المصرية عنوانه «عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة»، لكن الإخوان تخلو عن هذه الشعارات، لمصلحة  السيطرة على الدولة ولا يعنيهم الواقع المعيشي، تهافتوا إلى بدء ضرب التشريعات المدنية قبل كل شيء. في المقابل، ثمة مشكلة لدى الفريق الآخر، أو البديل الآخر القومي اليساري الليبرالي، لأن لا قوى اجتماعية ضخمة له. عادة تقدم القوات المسلحة التمثيل السياسي لهم، هذه هي الصعوبة في عملهم، وعلى رغم نزول الملايين إلى الشارع، فإن الملايين ليسوا ملكاً لأحد.

ألا تخاف من انتقال النموذج السوري إلى مصر، بمعنى أن يتحول ما يجري في مصر إلى صدام دموي بين الإخوان والعسكر؟

يجب التنبه إلى أن الإخوان المصريين لديهم جناح متطرف، وقام بعمليات خلال سنوات العقود الماضية، وهرب عناصره المتطرفون من السجن وانضموا إلى الإخوان، من بينهم محافظ الأقصر الذي لم يوافق الناس على تعيينه، وهو كان أحد العناصر التي شاركت في مجزرة الأقصر.

ينبغي الاهتمام بما يجري في سيناء، هل التجرؤ على الجيش له صد إخواني؟

تضم هذه المنطقة جماعات ملتبسة ومعقدة. ثمة تواجد للإيرانيين الذي يهربون السلاح لحركة «حماس»، ناهيك بحركة «حماس» نفسها، إضافة إلى صلات لبعض الجماعات بالإخوان. ثمة تكهنات كثيرة حول حالات عنف شبيهة بالتي تجري في سورية، ولكن يبدو أن الإخوان حتى الآن يرهانون على الأميركيين، وعلى القول إنهم محتضنون شعبياً، وهذا لا يعني أن العنف مستحيل بينهم وبين الجيش.

يسير الأميركيون على مبدأ أن من يستولي على الكرسي يدير الأمور؟

ليس كثيراً. الأميركيون، عند الاختيار بين قوى ليبرالية أو يسارية أو إخوانية، اختاروا الإخوان.

ما سبب الاختيار، أليس الإسلام السياسي في صراع دائم مع الغرب؟

أبداً، عندهم مبدأ الحرب على الإرهاب، وكان جوابهم الدائم ضرب الإرهاب بإسلام معتدل. هذا الأمر الأول، والأمر الثاني أن نظرة الولايات المتحدة إلى العالم هي نظرة دينية. بالتالي، المنظور هو منظور ديني. أذكر حين زارت هيلاري كلينتون الرئيس محمد مرسي قالت له أوصيك بالنساء والأقباط، هذه توعية إثنية دينية للمجتمعات. والأمر الثالث أن الإخوان ثبتوا ألا مشكلة لديهم في أي موضوع يتعلق باتفاق كامب ديفيد. الأمر الرابع أن الإخوان نيوليبراليون وأوساط في الحزب الجمهوري الأميركي كانت تقهقه لأن الإخوان تجاوزوا الأميركيين في نيوليبراليتهم. مجلة «إيكونومسيت» التي تعتبر الأكثر تمثيلاً للرأسمالية في العالم، خاضت معركة مرسي في العالم، وصرحت بأنه يجب تأييد مرسي.

هل انتهت الثورة السورية، أو هل صارت حرباً أهلية؟ وماذا عن لبننتها (من لبنان)؟

مفصل البحث له علاقة بكلمة ثورة في هذا الموضوع. في رأيي، الثورة عملية تحويل جذري في المجتمع والسلطة، بواسطة واحد من أمرين: إما القوة العددية للناس أو العنف. نجحت القوة العددية في مصر وتونس وطرحت التحدي على الجيش والسلطة، إذ تستطيعون قتلنا إفعلوا ما شئتم، فآثر الجيش في البلدين التخلي عن الرئيسين (مبارك وزين العابدين بن علي)، لم يتدخل الجيش بالعنف لأنه في تونس كان مهمشاً، وفي مصر الجيش شعبي ويملك قسماً من اقتصاد البلد، سمعته في قتاله لإسرائيل وليس في القمع، لديه سمعة ببعض الاعتقالات في زمن الرئيس جمال عبد الناصر وهو أمر عابر قياساً بسلوك صدام حسين والبعث وبشار الأسد. والأمر الآخر، إذ لم تنجح الثورة بقوة الناس العددية يبقى خيار العنف متوافراً. الثورة التي لا تلاقي تجاوباً بالتغيير من خلال الحراك الشعبي تنحو إلى أن تصبح حرباً أهلية. كثيرة هي الثورات في العالم التي انقلبت حرباً أهلية، على أن الثورات عادة لا تنجح من المرة الأولى، وهي إذ تفشل تستدعي ثورات أخرى لتصحيحها واستكمالها. الثورة الروسية مثلاً، استمرت في حرب أهلية لخمس سنوات عاش خلالها المجتمع مجاعة وأكل لحوم البشر واستنزاف القسم الأكبر من الطبقة العاملة التي كانت تشكِّل كوادر البلد، وانهار البلد واضطر البلاشفة إلى التخلي عن أجزاء من روسيا للحفاظ على الجزء الباقي.

هذه الثورات في التاريخ، لكن في سورية ألا تشعر أنها أصبحت ساحة لحروب الآخرين؟

تستدعي الثورات كافة تدخلاً خارجياً. القوى المعادية للثورة الروسية مثلاّ تدخلت في مسار، ولا أقول إن هذا أمر جيد، وقسم كبير من الثورات إذا تعادلت فيها القوى السياسية والعسكرية تستدعي ديكتاتوراً. لا يتوافر نمط محدد للثورات، الثورة الفرنسية أنتجت نابليون، والثورة البريطانية (وهي من أهم الثورات) صنعت كرومويل. القصد من التفكير بالثورات في هذا المعنى، أنها تستدعي تغييراً جذرياً في السلطة والمجتمع، وتتم بمخاض عنيف جداً.

في ما يخص الثورات العربية هي أيضا لها أوجه، فالثورة في سورية، هي على عكس الثورة في مصر، لأن القوات المسلحة السورية هي الحرس الصدامي للنظام، فضلاً عن تعاطي النظام مع الحركة السلمية العارمة بالحرب منذ البداية، ما استدعى التدخل الخارجي. أذكر هنا أن الرئيس بشار الأسد دعا في البداية الرئيس أردوغان إلى الوساطة مع المعارضة ولاحقاً أرسل مستشارته بثينة شعبان ووزير خارجيته وليد المعلم إلى أمير قطر الشيخ حمد للوساطة أيضاً، ثم قبل بتعريب الأزمة، وصولاً إلى تدويلها، وهو في كل مرة كان يعتقد أنه كان يشتري الوقت ولا يزال حتى الآن على المسار نفسه، يفتعل معارك بحربه النظامية وفي كل مرة يقول إنها المعركة الحاسمة، وشهدنا هذا من باب عمرو إلى القصير والخالدية.

 

الإسلاميون في القول والفعل

جاؤوا متأخرين إلى الثورات. لكن الإسلاميين لم يقطفوها بعد. حازوا النسبة الأعلى من الأصوات في الانتخابات النيابية للمرحلة الانتقالية، ولم يحوزوا الأكثرية.

تضافرت على تلك النتائج عوامل عدة. منها الاختلاط التاريخي بين الأحزاب القومية واليسارية وبين الأنظمة الشعبوية العسكرية قيد التفكيك، ما أضعف من مصداقيتها، حتى لا نقول إن أحزاب المعارضة التقليدية باتت هي أيضاً من مخلفات الماضي.

ثم أن منطق التمثيل الثوري لا يتطابق مع منطق التمثيل الانتخابي. ليس فقط لأن الوقت لم يسنح لتبلور القوى والطاقات الشابة والشعبية، التي فجّرتها الثورات، في تشكيلات سياسية، بل لتخلّف الأنظمة الانتخابية أصلاً عن أن تعكس إرادة الجماهير. إلى هذا، يمكن أن تُضاف الأسبقية التي للأحزاب الإسلامية من حيث التنظيم والانضباط وتوافر الإمكانات المادية، بما فيها دعم الأنظمة النفطية.

مهما يكن، ثمة أمران لافتان لأول وهلة.

الأول، الاستعجال الظاهر لاعتبار التفويض الانتخابي المعطى للأحزاب الإسلامية لقيادة عملية انتقالية، تصوغ الدساتير الجديدة وتسنّ القوانين الانتخابية الجديدة وتعود بها إلى الناخبين، وكأنه تفويض لتولي السلطة كما لو أن عملية الانتقال قد أنجزت. تتقاطع سياسة حرق المراحل هذه مع نهج الإدارة الأميركية لاستيعاب الموجة الثورية عن طريق الدعوة إلى حلول نائب الرئيس محل الرئيس، وإخراج الجماهير من الفعل والتأثير في الشوارع والميادين، والحفاظ على جوهر الأنظمة من حيث أدوار المؤسسات العسكرية وغلبة السلطة التنفيذية فيها.

والثاني هو سرعة مبادرة الإسلاميين إلى تطمين حكام أوروبا وأميركا بتقديم التنازلات في ميدانين بارزين: الاقتصاد والموقف من الصهيونية ودولة إسرائيل. ما من تصريح بالنسبة إلى هذه الأخيرة إلا ويسعى إلى تبهيت الالتزام بالعداء للصهيونية ودولة إسرائيل والامتناع عن التطبيع والالتزام بنهج المقاطعة الاقتصادية، إلخ. في الأمر ما يشي بالقبول بالمنطق إياه الذي سارت وتسير عليه الأنظمة من الاعتماد على الشرعية الخارجية أساساً لحكمها.

إلى هذين الأمرين تضاف أفعال الإيمان بالديمقراطية يقابلها الجهر بمعارضة العلمانية او الاستعاضة عنها بصيغة «المدنية» على اعتبارها تسوية بين «الإسلام هو الحل» وبين الحياد الديني للدولة. فما معنى التزام تلك الأحزاب بالديمقراطية وما مداه؟

تعني الديمقراطية، فيما تعني، المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، المكرسة في الدستور والقوانين والمؤسسات. فهل هذا ما سوف يلتزم به الإسلاميون؟ وهو يتنافى مع التمييز في الحقوق السياسية بين رجال ونساء، وبين مسلمين وغير مسلمين، في الوصول إلى الرئاسة الأولى للبلاد أو في الخدمة في القضاء، مثلاً، ناهيك عن التمييز في الأحوال الشخصية بين المسلمين، رجالاً ونساء، في الإرث والطلاق والحضانة وغيرها. وغني عن القول إن تأمين «كوتا» لتمثيل النساء والأقباط في المؤسسات التمثيلية المصرية لا يجيب عن هذه المشكلة. فأين ديمقراطية الإسلاميين في هذه المجالات الديمقراطية؟ يجيب ناطقون باسمهم في مصر أن الشريعة هي التي تتكفّل بحقوق «إخواننا الأقباط». وهذه الذمية في التعامل مع «أهل الكتاب» تكرّس للامساواة في السياسة وفي القانون.

تخدم بدعة «الدولة المدنية» عادة في نشر الغموض حول هذا الموضوع بالذات: مرجعية التشريع. هل الفيصل في التشريع هو مؤسسات السيادة الشعبية، أي المؤسسات المنتخبة والاستفتاء العام، أم هي النص الديني؟ ومن يؤول النص الديني؟ المشرّعون المدنيون ام علماء الدين؟

المؤسف أن تجربة الثنائية التي تقوم عليها الدساتير العربية، بين المبادئ الزمنية وبين أحكام الشريعة، نادراً ما تتعرّض للبحث والنقاش. ولكن فلنلق نظرة على أكمل تجربة في تلك الثنائية، الجمهورية الإسلامية الايرانية، التي يقوم نظامها السياسي على قائمتين: شرعية السيادة الشعبية (المؤسسات الجمهورية) وشرعية النص المقدّس والمرجعية الدينية (مؤسسات ولاية الفقيه). مع أن الثانية، غير صادرة عن الانتخاب ولا خاضعة للمساءلة، فإنها تمارس وصايتها على الأولى والرقابة. إلا أنها، كي تستطيع ذلك، اضطرت إلى أن تتحوّل هي نفسها إلى سلطة زمنية سياسية وأمنية وعسكرية وقوة اقتصادية ومالية موازية للمؤسسات الجمهورية. هكذا، صارت تلك المرجعية خاضعة هي أيضاً للمصالح ولعلاقات القوى أسوة بالمرجعية الجمهورية المدنية ورجالاتها.

ومنعاً لأي التباس، ليست تنوي هذه اللفتة الدعوة إلى حرمان المؤسسة الدينية التأثير في التشريع. التمييز هنا هو بين التأثير، وهو حق وحرية مكفولان في الأنظمة العلمانية الديمقراطية كافة، وبين دور المؤسسة الدينية بما هي مرجع الفصل والحسم في التشريع وأمور الحكم.

تلقي هذه الأسئلة وسواها ظلالاً ثقيلة على ادعاء التنظيمات والأحزاب الإسلامية العربية اتباع «النموذج التركي». يقوم الدستور التركي على ثلاثة مبادئ غير قابلة للتعديل: الجمهورية، الديمقراطية، العلمانية. هذا يعني أن الآية مقلوبة في حديث الإسلاميين العرب عن النموذج التركي. ذكّرهم رجب طيب أردوغان بالأمر في زيارته الأخيرة لمصر عندما قال: أنا رئيس حزب إسلامي يحكم في دولة علمانية. أما رؤساء الأحزاب الإسلامية العرب فلا معنى لاتهامهم بالعمل على بناء دولة علمانية، كما نصحهم أردوغان ذاته واستحق ما استنزلوا عليه من هجوم ولعنات. أقل ما يقال إنهم يسعون لتصفية ما استطاعوا إليه سبيلاً من عناصر العلمانية في الدول العربية المعنية: الزواج الأحادي، الاختلاط المدرسي والجامعي، عمل المرأة، فرض القيود على حرية التعبير والرأي والتصرّف بالجسد (الرقابة المسماة «الأخلاقية») وغيرها. والسؤال: باسم أية خصوصية ثقافية يتميّز الإسلاميون العرب عن هذا النموذج التركي الحقيقي؟ الإسلام؟

ليس صدفة أن يعلن معظم الحركات الإسلامية التزامها بخطط صندوق النقد والبنك الدولي المتكئة على مبادئ النيوليبرالية المتعولمة. إنها، في عميق رؤياها، تحلّ التمايز الثقافي، الديني بين «شرق» و»غرب» محل التفاوت في التطور واللامساواة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن العولمة الرأسمالية النيوليبرالية. فلا تجدها تضع موضع التساؤل أياً من أساسيات العولمة الرأسمالية. يرفض الإسلاميون الفائدة والربا لكنهم يقدّسون مبدأ الربح، المحرّك الرئيس للنظام الرأسمالي. ويحترمون حرية الأسواق والملكية الفردية وغالباً ما أيدوا إجراءات الخصخصة في بلادهم. وهم يستبدلون مبدأ التوزيع العادل للثروة والموارد وخدمات الدولة الأساسية بالإحسان والصدقات أو بالخدمات الاجتماعية التي جنوا بسببها الكسب السياسي والانتخابي (توزيع «إخوان» مصر مليوناً ونصف مليون كيلو لحمة في عيد الأضحى، مثلاً) من دون أن تساهم خدماتهم في إحقاق الحقوق الاجتماعية لجميع المحتاجين إليها.

لا يكفي القول إن الإسلاميين العرب يكررون هذا الالتزام في زمن تتعرّض فيه العولمة النيوليبرالية للزلزلة فيما الأزمة المالية تكتسح أوروبا بعد أميركا وتهدّد دولاً بأكملها بالإفلاس والعملة الموحّدة بالإلغاء. الأفدح أنهم يفعلون ذلك في وقت تراجع فيه المؤسسات الاقتصادية والدولية ذاتها سياساتها تجاه المنطقة انطلاقاً من دروس الثورتين التونسية والمصرية، خصوصاً ما كشفته لجهة عدم اهتمام تلك المؤسسات بمسألة خلق فرص العمل للشباب.

في خلاصة القول إن اختزال الليبراليين والديمقراطيين واليساريين تمايزهم عن الإسلاميين بالهوية العلمانية وحدها لا يكفي. إنه يعزلهم عن الملايين من أبناء الفئات الشعبية الذين يخدمهم الإسلاميون، هؤلاء الذين ينتظرون من الثورات توفير العمل والحد الأدنى اللائق من الأجر والمعيشة وتعميم الحقوق الاجتماعية في السكن والتعليم وماء الشفة والبيئة النظيفة والصحة على الجميع.

هذه مهمات تتحدى القوى الثورية كافة. وهنا تحديداً الفرصة التاريخية لليسار أن يجدد حضوره ودوره وشبابه بأن يبلور رؤياه ويعيد بناء قواه حول ثلاثة محاور هو الأكثر أهلية لها:

 

- خوض معركة الديمقراطية إلى النهاية على امتداد العالم العربي؛

- تقديم الأجوبة على تحديات المرحلة الجديدة من التحكّم الإمبريالي والصهيوني بالمنطقة؛

- التطعيم المستمر للديمقراطية السياسية بمضامينها الاجتماعية، اي بالعدالة الاجتماعية.

back to top