لِمَ يريد كيري توجيه ضربة إلى سورية؟
تعمل وزارة الخارجية الأميركية منذ بعض الوقت مع القادة الأكثر اعتدالاً في تحالف الثوار السوريين المفكك، الذي تكثر فيه النزاعات، ولا تعتقد الوزارة أنها تستطيع التعامل مع عدد كبير من هؤلاء القادة فحسب، بل تظن أيضاً أنها بتعاملها معهم تقوّيهم.
بعيد نشري مقالاً عن حض وزير الخارجية الأميركي جون كيري البيت الأبيض على الموافقة على استهداف الولايات المتحدة المطارات السورية ومعارضة رئيس هيئة الأركان المشتركة مارتن ديمبسي هذه الفكرة بشدة، وردتني اتصالات كثيرة ممن يؤيدون موقف كيري ويظنون أن وزارة الدفاع الأميركية تتصرف بتردد بدون أي داعٍ.أنا واحد من ثلاثة صحافيين تقريباً في الولايات المتحدة لا يعلمون ما على الرئيس باراك أوباما فعله في الشأن السوري. تشكّل الحرب الأهلية السورية من جهة كابوساً إنسانياً وتحدياً استراتيجياً كبيراً. لكني لا أظن من جهة أخرى أن الولايات المتحدة قادرة على لعبة دور الوسيط في حرب سنية-شيعية، لذلك يجب ألا تحاول.إليكم الحجج التي طرحها معسكر كيري:1- رواندا: لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقف مكتوفة اليدين، فيما تحصد الحرب الأهلية حياة مئات الأبرياء يومياً. يشير الموقف الأميركي الرسمي إلى أننا نشعر بالأسى تجاه ما حدث في رواندا عام 1994، لذلك يجب أن نحرص على عدم تكرار أمر مماثل (روّجت سامانثا باور، مرشحة أوباما لمنصب سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، لفكرة أن عبارة "لن نسمح بتكرار ذلك مطلقاً" عنت في الواقع أننا "لن نسمح مرة أخرى للألمان بقتل اليهود كما حدث في أربعينيات القرن الماضي"). صحيح أن الحرب الأهلية في سورية لم تبلغ بعد مرحلة "الإبادة"، إلا أن وجهها الإنساني بالغ الأهمية والعمق.2- كي تنجح المفاوضات يجب أن يشعر نظام بشار الأسد أن وجوده مهدد: لعل هذه الفكرة الأهم، أو على الأقل الأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن. يريد كيري لمحادثات السلام المقبلة في جنيف أن تفلح. وكي يحقق هذا الهدف، يعتقد أن من الضروري موازنة القوى في سورية. لكن قوات النظام، التي باتت تشمل "حزب الله" التابع لإيران، نجحت أخيراً في دحر الثوار بسهولة نسبية. ومن الممكن للضربات الجوية وغيرها من التدابير الأميركية أن تمنح النظام حافزاً للجلوس إلى الطاولة والتحاور. فما من داعٍ للتفاوض بشأن تسوية مع المعارضة في حين أنك تفوز. ينطبق هذا أيضاً على مَن لا يُعتبرون قتلة جماعيين مجانين. 3- نخوض صراعاً مع إيران، سواء أعجبنا ذلك أم لا. ومصداقيتنا اليوم على المحك. يبدو أوباما متحمساً للابتعاد عن الشرق الأوسط. لكن معظم خبراء السياسة الخارجية، بمن فيهم وزير الخارجية، مقتنعون أنه ما من مفر من مشاكله. لذلك على الولايات المتحدة أن تضطلع بدور قيادي في الشرق الأوسط، وإلا خلفت وراءها فراغاً يملؤه الأصوليون الشيعة والسنّة. أصاب ديمبسي بقوله إنه ما من مخرج في سورية (ويعود ذلك في جزء منه إلى أنه ما من مدخل إليها بادئ الأمر). ولكن ستواجه الولايات المتحدة قريباً مشاكل أكبر في المنطقة إن لم تتدخل اليوم. يدرك كيري ثمن التدخل، فقد تعلّم هذا الدرس من العراق لكنه أشار أيضاً إلى أن لعدم التدخل ثمناً أيضاً.4- قطعنا وعداً. هدد الرئيس أوباما باتخاذ خطوات قاسية، وإن لم يحددها، ضد الأسد في حال استخدم أسلحة كيماوية (أو حتى نقلها). لكن الأسد نقل الأسلحة الكيماوية واستخدمها أيضاً. تشير تقديرات الاستخبارات الأميركية إلى أن 150 شخصاً قُتلوا بمواد كيماوية حتى اليوم. وعندما قطع أوباما وعده، لم يظن أحد أن هذا سيكون ردّ فعله تجاه استخدام الأسلحة الكيماوية: لنرسل للثوار كمية من الأسلحة والذخيرة. فقد توقع الجميع خطوات أكبر. ويظن كيري أن العاقبة الخطيرة لاستخدام الأسلحة الكيماوية يجب أن تكون توجيه ضربات جوية ضد مطارات النظام.5- التزمت إسرائيل بوعودها، ويمكننا نحن أيضاً ذلك، لم يطرح كيري بحد ذاته، على حدّ علمي، هذه الحجة أمام الجنرالات، لأنه يعلم، حسبما أفترض، أنه ما من أمر قد يثير حفيظتهم بقدر ذلك. لكن آخرين في المعسكر المؤيد للتدخل أثاروا هذه المسألة. ضربت إسرائيل أهدافاً سورية ثلاث مرات في الآونة الأخيرة، مستخدمةً أسلحة ثابتة أطلقتها عبر الحدود، وتعتقد إسرائيل أنها برهنت مدة جديتها: سيكون لمحاولة سورية نقل الأسلحة والأنظمة الصاروخية إلى "حزب الله" في لبنان عواقب وخيمة، لكن ديمبسي أشار في البيت الأبيض أخيراً إلى أن على الولايات المتحدة، إذا كانت ترغب في شن هجوم فاعل على أهدف تابعة للنظام، أن تتخطى أولاً دفاعات سورية الجوية، ما يطلب 700 طلعة على الأقل، لكن مؤيدي التدخل يعتقدون أن وزارة الدفاع الأميركية والبيت الأبيض يستخدمان هذا كعذر لعدم التدخل.6- ليس الثوار مجانين، كما تعتقد وزارة الدفاع الأميركية. تعمل وزارة الخارجية الأميركية منذ بعض الوقت مع القادة الأكثر اعتدالاً في تحالف الثوار المفكك، الذي تكثر فيه النزاعات، ولا تعتقد الوزارة أنها تستطيع التعامل مع عدد كبير من هؤلاء القادة فحسب، بل تظن أيضاً أنها بتعاملها معهم تقوّيهم. عندما عبرت الحدود الأردنية السورية قبل بضعة أشهر والتقيت عدداً من الثوار، لاحظت لحاهم الطويلة التي تُعتبر دليلاً على تعصبهم الديني. لكن الثوار سارعوا إلى إخباري أنهم يطيلون لحاهم لأن الإسلاميين الأكثر تشدداً بينهم يملكون أفضل الأسلحة ولا يقدّمونهم إلا لمن يشاطرونهم أفكارهم ومعتقداتهم. بكلمات أخرى، ما اللحى إلا وسيلة تسويق، لا تعبير عن تشدد حقيقي. ولكن إن بدأ الثوار الأكثر اعتدالاً يحصلون على أسلحة أشدّ فتكاً من الأميركيين، فسيزدادون قوة ويتمكنون من تهميش الإسلاميين.لا شك أنك لاحظت القاسم المشتركة بين كل هذه الحجج: يعتقد كيري وغيره أن للوقوف على الهامش ثمناً، لكن وزارة الدفاع والبيت الأبيض يظنان أنهما يتصرفان بحذر، ولا يقفان على الهامش.