كيف تخرّب بلداً خلال 369 يوماً؟

نشر في 13-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 13-07-2013 | 00:01
No Image Caption
كان من الممكن لمخرج آمن تتوصل إليه الأطراف المختلفة من خلال التفاوض أن يضمن لـ«الإخوان المسلمين» الاحتفاظ بمكاسب سياسية، فضلاً عن المشاركة في تصميم المرحلة الانتقالية والانتخابات المقبلة.
 Michael Wahid Hanna    لنوضح هذه المسألة: يجب ألا يفرح أحد بالانقسامات وإراقة الدماء التي نشهدها راهناً في شوارع القاهرة، وخصوصاً مع تصاعد القمع العسكري، ولكن من الضروري أن نشدّد أيضاً على أن رجلاً واحداً يتحمل المسؤولية الكبرى عن أزمة القيادة هذه، ألا وهو محمد مرسي.

بما أن الجيش اعتقل مرسي تعسفاً بعد الإطاحة به في الثالث من يوليو، وبما أن قوى الأمن تمارس كل أنواع العنف والقمع المتهور، يملك الرئيس المصري السابق وجماعة "الإخوان المسلمين" مخاوف محقة من هذه المعاملة غير المبررة، ولكن يجب ألا ننسى ما أوصلنا إلى هذه المرحلة الحالكة، ففي ليل الثلاثين من يونيو، تعرض مرسي لجرح سياسي مع امتلاء الشوارع بحشد شعبي وطني غير مسبوق وتظاهرات كبيرة، فتقوّضت شرعيته، ولحقت بقدرته على حكم مصر أضراراً لا يمكن إصلاحها.

صحيح أن مرسي ورث مشاكل سياسية، واقتصادية، واجتماعية كثيرة ومعقدة عندما تسلم السلطة في الثلاثين من يونيو عام 2012، لكن كانت أمامه خيارات، فاختار مكاسب مقسِّمة، وسياسات فيها رابح وخاسر، وديماغوجيا شعبوية، وفي نظام لا ضوابط فاعلة له ولا عمليات موازنة، أدت هذه الخيارات إلى تعميق الانشقاقات، وتبديد الثقة، وشلّ الدولة.

وضعت القرارات المصيرية الخاطئة التي اتخذها مرسي خلال عهده وقبل تظاهرات الثلاثين من يونيو وبعدها مصر على شفير حرب أهلية وصراع عنيف، فقد قرر هذا الرئيس العنيد المعزول تجاهل الواقع ودفع البلد نحو تدخل عسكري مؤسف بالتأكيد في السياسات المدنية.

تعكس قرارات مرسي القاتلة الأخيرة نظرته الضيقة المقسِّمة، التي أعطت أولوية لجماعة "الإخوان المسلمين" على الأمة، وببسيط العبارة، لم يفهم مرسي أن جماعته السرية لا تُحكِم سيطرتها على مصر وأن انتصارها الانتخابي لا يُعتبر تفويضاً مطلقاً. اعتقد "الإخوان المسلمون" أن سلسلة الانتخابات التي عقدت خلال عامَي 2011 و2012 ومثلت من نواحٍ عدة الانتخابات الأخيرة في عهد حسني مبارك، تعكس صورة أساسية عن المجتمع المصري ومكانة "الإخوان المسلمين" فيه.

اتسمت الأيام الثلاثمئة والتسعة والستون التي أمضاها مرسي في الحكم بغياب الإصلاح (ما همّش الناشطين والمصلحين) وغياب مساعي المصالحة (ما حال دون محاولة التقرب من أعضاء النظام السابق)، فضلاً عن طريقة حكم ضيقة استئثارية استبعدت كل القوى السياسية، خصوصاً خلفاءه الإسلاميين السابقين، مثل حزب "النور" الذي تخلى عن مرسي خلال ساعاته الأخيرة. أدت هذه المقاربة المتهورة من السلطة إلى التهميش وشلّ الحكم، وقادت إلى القمع والاستياء، فنمت المعارضة. لا شك أن لائحة هذه الخطوات الخاطئة دامغة، وتعود إلى مرحلة ما بعد مبارك مباشرة، حين اختار "الإخوان المسلمون" اتّباع عملية انتقالية متشددة اعتبرت الانتخابات وحدها ديمقراطية، متجاهلةً في الوقت عينه إجراء الإصلاحات الضرورية في هذا النظام الفاشل. من المؤكد أن الفرصة الضيقة، التي برزت لمواجهة دولة مبارك البوليسية ورأسمالية الأقارب والأصدقاء، احتاجت إلى الحد الأدنى من الوحدة بين القوى المحرِّكة للانتفاضة المناهضة لمبارك. ولكن في خطوة أولى في سلسلة طويلة من الخيانات، سعت جماعة "الإخوان المسلمين" إلى إعادة تنظيم دولة مبارك المستبدة وتبنت أدوات القمع التي كانت تعتمدها، مع إمساك جماعة "الإخوان المسلمين" بزمام الأمور.

فلم يساهم "الإخوان المسلمون" في صياغة خريطة الطريق الانتقالية المليئة بالشوائب والفجوات والنواقص، التي وضعها الحاكم العسكري المؤقت، والتصديق عليها فحسب، بل سعت هذه الجماعة أيضاً إلى تشويه صورة خصومها، مستندةً إلى ديماغوجيا طائفية ودينية مجحفة. فشُوّهت سمعة كل القوى الإصلاحية والناشطة، التي حاولت تحدي النظام السياسي الناشئ، وعوملت كعقبة في طريق "الإخوان المسلمين" نحو تحقيق مكاسب خاصة. نتيجة لذلك، نشأت مرحلة انتقالية متحررة كانت ميزتها الوحيدة هي إجراء سلسلة مضنية من الانتخابات. رغم غياب الثقة، قرر عدد من المصلحين دعم مرسي في حملته ضد أحمد شفيق، أحد رجال نظام مبارك السابق، خوفاً من انتكاسة مباشرة وعودة الحكم المستبد. وانجذب هؤلاء الداعمون المترددون إلى مرسي نتيجة سلسلة من الوعود بشأن تأسيس حكم شامل، والتعهد باختيار مجموعة متنوعة من المستشارين، وتشكيل هيئة تشريعية متعددة الأطراف لوضع دستور للبلاد. وقد عادت هذه المناورات على مرسي بالفائدة، متيحةً له تحقيق فوز انتخابي ضيق.

لكن هذه الضمانات التي دُوّنت في وثيقة رسمية قبل نحو سنة لم تُحقَّق بمعظمها، ما مهّد الطريق أمام مرحلة عنيفة من الحكم المستبد المخيف، وسوء الإدارة العام، وتعمّق الانشقاقات. وبما أن مرسي لم يواجه ضوابط تذكر، سعى إلى تكبيل القضاء، باذلاً في الوقت عينه جهوداً مكثّفة إنما عقيمة للسيطرة على مؤسسات الدولة المختلفة. لكن الأسوأ من ذلك سعيه للتوصل إلى تفاهم مع معذبي "الإخوان السابقين" في سلك الشرطة، الذي بقي على حاله وتواصلت ممارسته المسيئة بدون حسيب أو رقيب. فأغدق مرسي وحكومته الثناء على رجال الشرطة ومنحوهم العلاوات والترقيات، ولا شك أنها مفارقة مقلقة أن تشارك قوى الشرطة عينها في قمع "الإخوان المسلمين" وداعميهم وحملهم على الرضوخ.

على الصعيد التشريعي، سعت حكومة مرسي إلى تمرير تشريعات مكبِّلة في أكثر من مجال، بما فيها قوانين تعيق التنظيمات العمالية المستقلة وتتدخل في عمل المنظمات غير الحكومية. كذلك لم تحرك حكومته ساكناً لتحدّ من الملاحقات القضائية المتعلق بحرية التعبير، خصوصاً قضايا الكفر وإهانة الرئيس. علاوة على ذلك، عانى نظام القضاء الجنائي الفساد واستُخدم كأداة عقب التعيين غير الشرعي لمدّعٍ عام مختار بعناية. جرى هذا التعيين من خلال إعلان مرسي الدستوري المستبد في شهر نوفمبر عام 2012. أعفى هذا الإعلان الرئيس من أي إشراف قضائي، ومهّد الطريق أمام تبنٍّ مثير للجدل لوثيقة غير متقنة وتحويلها إلى نص تأسيس لهذا البلد. يعتبر كثيرون هذه الخطوة الأخيرة في ترسيخ الأزمة السياسية المصرية، فنتيجة الانشقاقات العميقة، بات الاتفاق على أبسط تفاصيل الحكم مستحيلاً، ما فاقم أزمة البلاد الاقتصادية، مع مساهمة معدل البطالة المتنامي بسرعة في تنشيط المعارضة في قطاعات من المجتمع كانت هادئة سابقاً. وهكذا ما عادت معارضة مرسي محدودة جغرافياً أو محصورةً بطبقة اجتماعية محددة، بل أصبحت منتشرة جغرافياً وصارت تضم طيفاً واسعاً من المجتمع المصري شمل الفقراء في المدن وشرائح كبيرة ومتنوعة من الريف.

كان بإمكان مرسي الإقرار بالواقع والحصول على مخرج مشرّف، فما عاد هذا الرئيس المشلول، الذي لم يستطع إحكام قبضته على السلطة وعجز عن الحكم بفاعلية حتى خلال ذروة شعبيته، في موضع يتيح له أداء دوره. كذلك كان من الممكن لمخرج آمن تتوصل إليه الأطراف المختلفة من خلال التفاوض أن يضمن لـ"الإخوان المسلمين" الاحتفاظ بمكاسب سياسية، فضلاً عن المشاركة في تصميم المرحلة الانتقالية والانتخابات المقبلة. بالإضافة إلى ذلك، كان هذا المخرج سيعكس تأثيرات قرار جماعة "الإخوان المسلمين" الكارثي عدم الالتزام بتعهداتها السابقة وتحدي الانتخابات الرئاسية، موفراً على هذه الجماعة عناء حكم مصر خلال مرحلة كثيرة الاضطرابات.

لاتخاذ قرار مماثل، كان على مرسي أن يقيّم كامل أخطائه وينظر بموضوعية إلى التفاعلات الحالية في مصر. صحيح أن هذه الخطوة بالغة الصعوبة، إلا أنها كانت مخرج مصر الوحيد، لكن مرسي اختار أحد السمّين.

ولكن لا يمكن تأسيس نظام سياسي فاعل ومرحلة انتقالية ديمقراطية من دون مشاركة "الإخوان المسلمين" الحرة، والعادلة، والكاملة. صحيح أن مرسي معتقل اليوم وممتلئ على الأرجح غضباً واستياءً لما آل إليه مصيره، ولكن ما زال بإمكانه الحؤول دون سقوط مصر في الهاوية، ولتحقيق هذا الهدف، عليه أن يتصرف كقائد حقيقي ويقدِم على تنازل مؤلم، واضعاً مستقبل بلاده فوق كل اعتبار.

back to top