قطعة البازل الناقصة

نشر في 16-04-2013
آخر تحديث 16-04-2013 | 13:29
 باسم يوسف أنبهر بالطريقة التي يفصِّل بها الإسلامي الحقائق على مقاسه، فهو دائماً يذكرك بما يحدث في بلاد الفرنجة الكافرة كدليل على عدالة مطالبه، ولكنه حين يفعل ذلك يتجاهل الصورة الكاملة ويأخذ جزءاً صغيراً جداً من الحقيقة كقطعة بازل صغيرة ليثبت وجهة نظره.

مثال لذلك حين يتكلم معك عن دور الدين في الدولة، فهو يتباهى بالمعلومة المحفوظة أن ملكة بريطانيا هي راعية الكنيسة، وأنه لا يمكن أن يأتي ملك من خارج طائفة البروتستانت، أو أن هناك ست عشرة دولة في العالم يذكر دستورها أن المسيحية هي الديانة الرئيسية للدولة، ثم يفرح ويطنطن باكتشافه لهذه القطعة الصغيرة كدليل على أن حتى الدول العلمانية لا تفصل الدين عن السياسة، ولكنه يتجاهل بقية الصورة أن الملك في بريطانيا يملك ولا يحكم، وليس له أن يتدخل في التشريعات، ولا أن يفرض أمراً دينياً على الناس، وأن بقية هذه الدول تذكر المسيحية كدين دولة في الدستور، ولكنها لا تفرض على الناس أحكاماً دينية، وتحتفظ بطابعها المدني الذي يساوي بين الناس على أساس إنساني لا ديني.

ثم يستمر الإسلامي في إبهارك بمعلوماته المنقوصة، فيملأ الدنيا صراخاً على منع المآذن بسويسرا، ومنع النقاب في فرنسا والتظاهرات المناهضة لبناء ما عُرِف باسم مسجد الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك، كل هذه الأحداث كافية ليدشن البكائيات عن حال الإسلام المضطهد في العالم، وعن أحوال المسلمين البائسة تحت الحكم العلماني الشرير.

ولكننا إذا نظرنا إلى الصورة الكاملة فسنجد أن أول من هبّ للدفاع عن النقاب هم الفرنسيون أنفسهم، وأن رشيد نكاز الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية كان رأس الحربة في هذه المعركة.

ولكنهم كالعادة نشروا لرشيد نكاز صورة يمشي فيها إلى جانب منتقبة، وقالوا إنها زوجته، وإنه مسلم غيور على دينه، وكل هذا غير صحيح، فهو شخصياً ضد النقاب وعلماني حتى النخاع، بل إن الصندوق الذي أنشأه لدفع الغرامات للمنتقبات أطلق عليه "صندوق الدفاع عن العلمانية والحرية"، وقد فعل ذلك لأن الحريات لا تتجزأ عندهم، فهو مؤمن بحق المرأة في ارتداء ما تحب، ولكنه في نفس الوقت ضد فرضه عليها من زوجها، فهو يدافع عن السيدات اللاتي يرتدين النقاب اقتناعاً لا قصراً، حتى لو كان النقاب، الذي لا يعد من ركائز الإسلام بل وحوله جدل كبير بين المسلمين أنفسهم إن كان فريضة أم لا.

 نفتح العدسة أكثر لنجد أن المسلمين في فرنسا أو سويسرا لم يتعرض أحد لشعائرهم أو مساجدهم أو إمكانية الدعوة إلى الإسلام، وأن حظر المآذن في سويسرا لم ولن يمس المساجد، بل كان الاعتراض على مظهر معماري، وأن 48 في المئة من السويسريين اعترضوا على هذا القانون واعتبروه سُبة في تاريخهم.

نفتح العدسة أكثر فنرى أن اليمينيين المتطرفين في نيويورك الذين اعترضوا على بناء مسجد الحادي عشر من سبتمبر بدافع العنصرية والكراهية بمساندة قناة فوكس نيوز وباقي ماكينة الإعلام اليميني في أميركا، قد تمت مواجهته ليس فقط عن طريق المسلمين، ولكن عن طريق اليسار الديمقراطي الأميركي والليبراليين، بل واليهود الإصلاحيين، ومنهم جون ستيوارت مقدم "الدايلي شو" في أميركا الذي هاجم أيضاً حظر بناء المآذن في سويسرا.

ولكن الإسلامي يتجاهل كل ذلك ويتجاهل الحريات الممنوحة للمسلمين في بلاد الغرب الكافرة ويركز على الاستثناءات التي لا تمس صميم العبادات، مثل حظر النقاب في دولة أو بناء المآذن في أخرى، ويتناسى أيضاً أن هذه القرارات الشاذة جاءت كرد فعل لخطاب الكراهية الديني الموجود في أوروبا وأميركا على يد كثير من الشيوخ المتطرفين، فماذا سيكون رد فعلك إن كنت إنكليزياً أباً عن جد مثلاً وسمعت واحداً مثل "أبوحمزة" يكفر الإنكليز ويحرض عليهم وهو يعيش في حمايتهم وكنفهم ويخطب في مساجدهم؟ قس على ذلك الكثير من الأمثلة المتطرفة التي لفظتهم بلادهم واستقروا في بلاد الغرب "ليعكننوا عليهم".

ولكن الصورة الكبرى التي يتناساها الإسلامي منشغلاً بقطعة البازل الصغيرة أن الحريات التي يزعم أن الغرب انتزعها من المسلمين هناك لا تُقارَن بكم الحريات التي انتزعها مَن يحكمون باسم الإسلام في بلادنا، فنحن نعطي لأنفسنا الحق في الدعوة إلى الإسلام في دول الغرب الكافر، ونوزع المصاحف في شوارع لندن وباريس وبرلين، ولكننا هنا نعتبر التبشير جريمة، ودخول السياح الإيرانيين نشراً للتشيع، ونحاصر بيتاً تردد أن مسيحيين قد أقاموا فيه صلوات، ونحرق بيتاً آخر لمجرد أن مواطناً مصرياً بهائياً يعيش داخله، بل إن بعض الدول قد تقبض على مسيحيين وهم يحتفلون بالكريسماس في بيوتهم.

تخيل لو أن شيئاً من ذلك حدث في هذه البلاد للمسلمين، وهو إن حدث في أكثر البلاد عنصرية فإن القانون والدستور لا يقبلانه، بل يُعاقَب مَن يقوم به حتى لو كان مرتكب الجريمة من أغلبية هذا البلد.

يمكنك أن تتباكى على الحريات المسلوبة كما شئت، وأن تلهي الناس بالتركيز على قطعة البازل الصغيرة، ولكن حتماً سيأتي يوم ستنظر إلى الصورة كاملة وتدرك أن مجتمعاتنا هي المثال العصري للعنصرية وعدم التعايش وكراهية الآخر، ستدرك أن المسلمين الذين تدافع عنهم وتستخدمهم كدليل على مدى عنصرية الغرب يفضلون أن يظلوا هناك على الرجوع لهذه المجتمعات التي تسمى إسلامية، وقد نُزِع منها العدل والتسامح والتعايش الذي هو أساس هذا الدين.

ربما أولى بنا كمسلمين أن نتباكى على العنصرية والكراهية التي تفشت في مجتمعاتنا، أولى بنا أن نتباكى على دين لم يعد يعيش بيننا إلا بمظاهره، أولى بنا أن ندع المسلمين في الغرب وحالهم، فبدوننا هم أفضل كثيراً، وبدوننا الدين أفضل كثيراً.

* ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top