النافذة المفتوحة... في الطريق المسدود!

نشر في 11-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 11-07-2013 | 00:01
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. رغم ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
نحن الآن في حي روض الفرج. حي شعبي مكتظ بالسكان من  جميع الفئات والأعمار، لكنه جزء من تاريخ مصر! الساعة تقترب من العاشرة مساء، الشوارع شبه خالية، البرد يلدغ الأجساد كعقرب جائع! الشتاء كأن بينه وبين الناس ثأر قديم، فأرسل إليهم بكل جيوشه الباردة والممطرة والعاصفة، البيوت تبدو كأنها داخل ثلاجة. لكن المنزل رقم 128 في شارع جانبي من جزيرة بدران كان بيتاً مختلفاً عن باقي البيوت، بما فيه من دفء عائلي وحوارات أسرية متشعبة تشتد حلاوتها في المساء!

الطابق الأول في هذا البيت يضم شقة المهندس الكبير، حيث يعيش فيها مع زوجته وشريكة حياته أكثر من ثلاثين عاماً، ومعهما ابنهما أيمن الطالب بكلية الزراعة وابنتهما بسمة الطالبة في كلية الآداب. الساعة العاشرة وخمس دقائق انسحب الأبوان إلى حجرتهما الخاصة... ودخل أيمن وبسمة إلى غرفتهما حيث تدثر كل منهما بالأغطية الثقيلة فوق سريرة، وكل منهما يستكمل حديثاً عن قرب انتهاء إجازة نصف العام والعودة إلى الدراسة والمذاكرة! لحظات وغلب النعاس الأخوين فالنوم في الشتاء صديق مخلص لليالي الباردة!

انتصف الليل، ومضت ساعة أو أكثر. فجأة، يدوي صوت عدة رصاصات متتالية. هب الأخوان من نومهما في فزع، قفزا من الفراش ثم هرولا باتجاه حجرة الأبوين، ربما يكون الأبوان قد سمعا هذا الدوي الهائل. فتح أيمن الحجرة ولم يحتمل المشهد... صرخ بأعلى صوته وسقط مغشياً عليه، وما إن وقعت عينا بسمة على بركة الدماء التي تسبح فيها جثتا أمها وأبيها حتى فقدت الابنة النطق؟

 بلحظات تجمّع الجيران وتحوّل المكان إلى خليّة نحل بشرية. العيون التي تتجه نحو المشهد لا يفوتها منظر غاية في الأهمية، مسدس الأب المرخص فوق الكومودينو المجاور لسرير الزوجين. تحفظت الشرطة، فور وصولها، على المسدس بشكل يحفظ ما قد يكون فوقه من بصمات. الابن يفيق ويضرب كفاً بكف... الليلة التي كانت باردة تحولت إلى ليلة دامية. ليلة حمراء بلون الدم الذي لطخ الأرض والسجاد والجدران. لا شيء يميز بين دم ست الحبايب ودم الأب... لقد امتزجت دماؤهما!

يأخذ رئيس المباحث أقوال الابن الذي يبدو كأنه يهذي، ولم تكن بسمة أفضل حالاً. كل منهما لا يصدق أن والده ارتكب هذه الجريمة الحمقاء بمسدسه المرخص. كل منهما لا يصدق أن الحب الكبير الذي كان يجمع بين أبويهما يمكن أن ينقلب إلى قصة جريمة... وإذا كان الأب قتل زوجته لسرّ ما لا يعرفه سواهما، فلماذا قتل نفسه هو الآخر؟ وكيف هانت عشرة ثلاثين عاماً على الأب، وهو الذي توّج حبه الكبير لزوجته، وهما في عمر الشباب، على يد المأذون، ثم الآن يكتب كلمة النهاية بطلقات الرصاص؟ لكن لا جدوى من الأسئلة، ولا حتى من الإجابات في تلك اللحظات العصيبة، خصوصاً أن الشرطة طلبت إخلاء المكان لإجراء المعاينة!

في مكانه الصحيح

شقة المهندس الكبير مكونة من ثلاث حجرات وحمامين ومطبخ، مؤثثة بشكل جيد وذوق راق. كل شيء داخل الشقة في مكانه الصحيح... جثة الأم ممدة فوق السرير، وجثة الأب نصفها الأعلى فوق السرير ونصفها الأسفل يتدلى نحو الأرض. الدماء تتفجر من ثلاثة ثقوب برأس الأب ومن ثقبين أحدهما برأس الأم والثاني بصدرها... تثبت المعاينة أن الأب أصيب بثلاث طلقات نارية، والأم أصيبت بطلقتين... والاتجاه الواضح وشبه المؤكد لدى الجميع أن الأب أطلق الرصاص على زوجته ثم انتحر بثلاث طلقات!

لكن بقيت أسئلة محيّرة في ذهن مدير الإدارة العامة لمباحث القاهرة... أولها... إذا كان الأب قد بادر بإطلاق النار على زوجته تكفيه طلقة واحدة في رأسه ينهي بها حياته... والسؤال الثاني: إذا كان قد أطلق أول رصاصة نحو رأسه فالمؤكد أنه لا يستطيع حمل سلاحه ليطلق منه عياراً ثانياً ثم ثالثاً وقد خارت قواه وشلت حركته بعد الطلقة الأولى... فكيف حدث ذلك؟ أما السؤال الثالث والأخير والأكثر أهمية فكان وجود المسدس فوق الكومودينو المجاور للسرير... وكيف استطاع المهندس الكبير بعدما قتل نفسه حمل مسدسه ووضعه في هذا المكان؟

 

مات 29

يروي أيمن وبسمة، أمام النيابة، أحداث تلك الليلة الدامية. بداية الصباح لم تكن غريبة عن أي صباح آخر منذ بدأت إجازة نصف العام. فبعدما استيقظت الأسرة وتناولت إفطارها بدأ الجميع يتجاذبون أطراف الحديث، الوجوه باسمة وتعليقات متباينة على الأخبار السياسية والاجتماعية والرياضية في صحف اليوم. كل واحد من أفراد الأسرة ممسك بجريدة بينما بسمة تطالع مجلة فنية. الرياح العاصفة تزمجر خارج النوافذ المغلقة، وجو عائلي رائع داخل الشقة التي التأم فيها شمل الأسرة بعدما خرج الأب إلى المعاش وكبر الأبناء. الساعات تمضي بعد طعام الغذاء... الشمس تغيب رويدا رويدا وكأنها تحاول أن تعلن عن خطر مقبل بما غطى السماء من سحب كثيفة نشرت تحتها ظلاماً قبل أن يحلّ الليل... المصريون يكرهون عادة هذا الجو الغامض ولهذا يفضلون الالتزام في بيوتهم!

 المهم أن الأسرة بعدما شاهدت أكثر من مسلسل تلفزيوني عادت إلى الحوار الرياضي هذه المرة أثناء مباراة الأهلي والزمالك المذاعة على الهواء مباشرة... انتهت المبارة في التاسعة والنصف ولاحظ أيمن وبسمة أن الحوار لم يعد رباعياً مثلما كان طوال اليوم.

ما زال أيمن وبسمة يعلقان على المباراة بينما خفت صوت الأم والأب، وفي مثل هذه الحالات اعتاد الابنان أن ينسحبا من المكان ليتركا لأبويهما فرصة إكمال الحوار الهامس والخافت، فلابد أن هناك شيئاً يخصهما وحدهما! ويؤكد أيمن وبسمة أنهما قبل أن يدخلا حجرتهما شاهدا الأب والأم يقومان في اللحظة نفسها ويتجهان إلى حجرتهما، ويعرب أيمن وبسمة عن دهشتهما من هذا الحوار الهامس الذي ينتهي إلى جريمة قتل راح الأبوان ضحيتها. ما الذي قالته الأم حتى يفرغ الأب رصاص مسدسه في رأسها وقلبها؟ وما الذي شعر به الأب حتى ينهي حياته بثلاث رصاصات؟

يسأل وكيل النيابة أيمن عن المسدس الذي تم تحريزه وعثرت عليه الشرطة في حجرة نوم الأبوين... ويقول أيمن:

* هذه طبنجة فرنساوي “مات 29” رخصها أبي قبل سنوات بغرض الدفاع عن النفس ولاعتبارات وظيفته ومركزه الأدبي!

** وهل اعتاد والدك الاحتفاظ بالطبنجة في هذا المكان الذي تم العثور عليها فيه؟

* لا... أبي كان يحتفظ بها داخل دولابه. لكنه في الأسابيع الأخيرة وبعدما زادت حوادث سرقة الشقق في الشوارع المجاورة لنا، أخرجها أبي من دولابه وجعل لها مكاناً ثابتاً فوق الكومودينو، لتكون بالقرب منه لو تعرضت شقتنا لأي هجوم من عصابات السرقة!.

** هل بين والديك خلافات؟

* أحياناً تقع خلافات عادية مثلما يحدث في أي بيت... لكن سرعان ما كان أحدهما يبادر بمصالحة الآخر، وقد عودانا على ألا نتدخل في خلافاتهما... كنا فقط نلاحظ هذه المخالفات حينما يتبادلان حديثاً هامساً مثلما حدث ليلة الواقعة، وكانا يسارعان إلى دخول حجرتهما وهو ما حدث بالضبط قبل أن نسمع صوت الرصاص بساعات قليلة!

** هل لوالدك أعداء؟!

* على الإطلاق. أبي كان محبوباً من الجميع، ولو كان لدينا أعداء فكيف دخلوا الشقة... ولماذا يقتلون أبي وأمي معاً. ولماذا لم يحاولوا سرقة الحلي الذهبية التي كانت أمي تحتفظ بها في شقتها؟

** التحريات تقول إن والدتك كانت متزوجة قبل والدك وأنجبت ابنا من زوجها الأول. لكن والدك بعد زواجه منها اشترط عليها ألا تزور ابنها ولا يأتي هو لزيارتها... وأن تقطع كل صلة لها بزوجها الأول. ما رأيك بهذه المعلومات؟

* صحيحة وحقيقية، لكن تنقصها معلومة مهمة. في السنوات الأخيرة سمح أبي بأن تستقبل أمي ابنها من زوجها الأول على أن يكون ذلك في أوقات لا يتواجد فيها أبي داخل البيت. وأمي شكرت له هذا الموقف. وبالفعل كان أخونا هذا يزورنا مرتين أو ثلاث مرات في شهر يوليو من كل عام!

** ولماذا شهر يوليو؟!

* زوج أمي الأول يعيش في الكويت ومستقر هناك بعدما تزوج وصارت له أسرة... لكنه يزور مصر لشهر أي  مدة إجازته السنوية، وهو شهر يوليو. ويصطحب معه أخي سامر الذي ينتهز الفرصة ويأتي إلى أمه وأمي بالهدايا!

طلقات غريبة

فريق البحث الجنائي كان يجري تحريات سريعة ومكثفة حول زوج الأم الأول وابنهما... لكن ثبت أن كلا منهما غادر القاهرة قبل خمسة أشهر ولم يحضرا بعد!

كان أيمن مندهشاً من المجهود الذي تبذله الشرطة وهي تسعى وراء احتمال أن تكون الجريمة ارتكبها شخص أو أشخاص من خارج المنزل. ذهب الابن إلى رئيس النيابة واعترض بشدة على نبش سيرة والديه وأسرارهما الخاصة، بهذا الشكل الذي يمس سمعتهما بعدما فارقا الحياة. وطلب أيمن الكف عن هذه التحريات التي تتطلب سؤال أقارب وجيران ومعارف عن سلوك الأم والأب، طالما أن الجريمة واضحة والقصد منها كان انتقام والده من أمه لسبب ما وسر خاص في حياتهما!

* يفجر رئيس النيابة مفاجآة مدوية لم يتوقعها الابن... قال له:

* هناك شبه يقين بأن والدك لم يقتل أمك، ولم ينتحر. النيابة والمباحث أدرى بعملهما!

** ماذا تقول؟!

* حينما قمت أنا بالمعاينة ممثلاً للنيابة العامة لاحظت أن نافذة حجرة والديك كانت مفتوحة، وهي قريبة للغاية من الشارع. هذه النافذة المفتوحة لفتت انتباهي بشدة، وحينما سألت الضباط الذين قاموا بالمعاينة الأولى، أكدوا أن تلك النافذة المفتوحة لم تثر انتباههم لأنهم اعتقدوا أن أسرة القتيلين فتحتها بعد اكتشافها الجريمة. ولهذا بدأت شكوكنا، لسبب واضح هو أن برودة الجو والأمطار والعواصف دفعت الناس جميعاً إلى إغلاق نوافذهم في تلك الليلة العصيبة!

صمت أيمن لحظات وأطرق برأسه إلى الأرض يفكر بعمق ثم همس لرئيس النيابة:

** نعم... تذكرت الآن. نافذة الحجرة وقت اكتشافي للحادث كانت مفتوحة... لكن الصدمة شلت تفكيري أثناء رؤيتي للمشهد.

قبل أن يكمل أيمن فاجأه رئيس النيابة بثاني المفاجآت... قال له:

* خذ هذا الدليل أيضاً واحتفظ بأعصابك. مسدس والدك كان ممتلئاً بالطلقات ولم تخرج منه طلقة واحدة... المعمل الجنائي أثبت أيضاً  أن فوارغ الطلقات التي تم العثور عليها في مسرح الحادث كانت غير مطابقة للطلقات الموجودة في مسدس والدك، أي أنها خرجت من مسدس آخر قتل به الجاني والديك. ومهمتنا الآن هي البحث عن هذا الجاني. ولماذا ارتكب جريمته؟ الواضح أن الجريمة هدفها الثأر أو الانتقام فحاول أن تساعدنا في البحث عمن له ثأر عند أحد والديك أو كليهما، أو من كان بينهما وبينه عداء!

** أبي ليس له أعداء ولا خصوم ولا عليه ثأر... وأمي سيدة تخدش حياءها نسمة الصيف!

* هذا ما تؤكده التحريات ويصعّب علينا المهمة!

طريق مسدود

غادر أيمن سراي النيابة منكّس الرأس، يحبس دموعه في مقلتيه حائراً... مندهشاً... حزيناً... عاد إلى بيته وما إن رأى أخته حتى انفجر في البكاء. لا يحتمل كل منهما مجرد النظر إلى حجرة والديه. قررا بيع الشقة وانتقلا إلى مكان آخر، وصار أيمن يتردد على المباحث والنيابة بين حين وآخر حتى فوجئ في النهاية بأن النيابة قيدت الحادث ضد مجهول. قدم الكثير من الشكاوى، وتم استدعاؤه مرات ومرات... وكلما عادت الشرطة للبحث عن الجاني وصلت إلى الطريق المسدود نفسه؟

back to top