أحلام السلطانة «الأم» على ضفاف الدردنيل

نشر في 10-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 10-07-2013 | 00:02
وقفت السلطانة حفصة والدة السلطان الأعظم سليمان القانوني حاكم الدولة العثمانية (حكم من سنة 1520 إلى سنة 1566م) على شرفتها المطلة على شواطئ بحر مرمرة ترمق الأفق، تستطلع السماء التي احتلتها سحب متكاثفة كقطع الليل المظلم، منذرة بالعاصفة المقبلة، لم تهتم السلطانة ببرودة الهواء وسرعة حركة الرياح التي بدأت تضرب رداءها، لم تلتفت إلى البرودة التي انتشرت في أطرافها.
كانت حفصة خاتون غارقة في همومها حتى النخاع، تتدافع أفكارها، لترى مستقبل الدولة العثمانية في خطر، ليس من عدو خارجي يتهددها، فالدولة في عنفوان قوتها، جيوشها تجوس قارات العالم الثلاث ودول الغرب والشرق تخطب ود ابنها السلطان الشاب، وهو متوج كأعظم حاكم على الأرض وأكثرهم قوة ورهبة في النفوس، كانت السلطانة حفصة تعرف يقيناً أن الخطر الأكبر الذي بات يهدد مستقبل الدولة العثمانية يكمن هنا... في الغرف القابعة خلفها تحديداً في «الحرملك».

لوعة الحب ونار الغيرة اشتعلت في جناح الحريم السلطاني، في التنافس المرير بين زوجتي السلطان سليمان القانوني، السلطانة خُرَّم (المعروفة أكثر عند الجمهور العربي باسم السلطانة هيام) والسلطانة مهدفران أو ماه دوران، حول قلب السلطان وسعي كل منهما لتأمين العرش لأحد أبنائهما، في صراع ابتلع معه تقاليد الحرملك العثماني العتيدة المتوارثة عبر القرون، ولم تكن السلطانة حفصة والدة السلطان سليمان في نظرتها الشاردة إلا واقفة على أبواب عصر سيمتد مدة قرن كامل، سيطر خلالها ومن وراء ستار نساء السلاطين وأمهاتهم على مقادير الدولة العثمانية ومستقبلها، ولم يكن صراع خرم ومهدفران إلا اللبنة الأولى لما سيعرف تاريخياً بعصر «سلطنة الحريم».

ذهبت السلطانة الأم حفصة خاتون بذاكرتها بعيداً، إلى بدايات الوجود التركي في بلاد الأناضول، عندما استطاعت قبائل الأتراك بقيادة أمراء السلاجقة أن تحقق انتصاراً على سلطان الدولة الغزنوية مسعود سنة 431هـ/ 1040م، في الموقعة الفاصلة قرب دندانقان (بين مدينتي مرو وسرخس جنوب تركستان)، بعدها انفتحت أقاليم الدولة الإسلامية الشاسعة أمام التقدم التركي الذي سيطر على بلاد المسلمين من حدود الهند وآسيا الوسطى غرباً حتى بلاد الشام شرقاً، بعض تلك القبائل التركية الشرسة استقرت في بلاد الأناضول، ومع مرور السنين اتسعت أملاكها على حساب أراضي الإمبراطورية البيزنطية، المعروفة عند العرب بدولة الروم، إحدى الإمارات التركية التي ظهرت في حدود عام 1300م تقريباً، وضع أساسها السلطان عثمان بن طغرل، مؤسس الدولة العثمانية التي أخذت في النمو تدريجياً حتى ابتلعت بلاد الأناضول ثم أسقطت عاصمة الدولة البيزنطية، القسطنطينية في سنة 1453م

انتقال العثمانيين الأتراك بين أكثر من إقليم وقطع مسافات طويلة تتجاوز مئات الكيلومترات جعل وسيلة تنقلهم الأساسية هي الخيول التي يجيدون استخدامها، بمهارة كانت سبباً في حقد أعدائهم، لكن هذه الوسيلة ما كانت لتستطيع إلا أن تحمل الفارس المستعد لعمليات واسعة من السلب والنهب، يحمل كل ما يملك فوق فرسه في مغامرة قد لا يعود منها، لذلك ترك العديد من الأتراك أسرهم خلفهم في وسط آسيا، ولم يستطع إلا كبار أمراء الأتراك حمل حريمهم معهم، ومن هنا ظهر حرص التركي على إخفاء زوجاته عن العيون، في أجنحة خاصة عرفت بـ»الحرملك».

في هذا المكان، بالذات، عاش حريم السلطان داخل أجنحة بعيداً عن أعين الرجال، ولإمعان إحكام قبضة السلطان على الحرملك وضع المهندس العثماني تصميم القصر السلطاني الرئيسي في إستانبول والمعروف باسم «طوب قابي سراي» أيّ «قصر الباب العالي» ليتكون من ثلاثة أقسام، الأول قسم خارجي مخصص لجنود القصر وهم حرس السلطان، والقسم الخاص بإدارة الدولة الذي يضم ديوان السلطان الذي يلتقي فيه وزراء الدولة، أما القسم الداخلي الثالث فكان مخصصاً لنساء القصر لذلك عرف بـ»الحرملك»، وهي كلمة تركية مكونة من اللفظ العربي «الحرم» بالإضافة إلى اللاحقة التركية «لك» الدالة على اسم المكان، فتصبح «الحرملك» بمعنى مكان أو بيت النساء أو الحرم أو الحريم، في مقابلة «السلاملك» المخصص للسلام واستقبال الضيوف من الرجال.

مخاوف سلطانة

 ما كان يخيف السلطانة حفصة وهي تطل من شرفتها هو أن صراع «خُرَّم» و»ماه دوران» هدد نظم الحرملك الذي اضطرب بشدة جراء التنازع بين زوجتي السلطان، التقاليد العريقة المتوارثة لنظام «الحرملك» كانت تتساقط، وما حاولت السلطانة حفصة دعمه من نظام بدأ في التلاشي، فالحرملك العثماني المعروف بقواعده الصارمة وأحكامه الرادعة، نظام عريق وريث نظام الجواري الإسلامي، الذي نشأ في حضن الدولة العباسية في بغداد وسامراء، وكان سلاطين العثمانيين قد ساروا على نهج من سبقهم من ملوك المسلمين في اتخاذ الجواري والعبيد في إطار الوضع الاجتماعي المعترف به في العصور الوسطى في العالم كله، وكان نظام الرق في الإسلام يتميز بالعديد من المميزات التي جعلت للعبد أو الجارية الحق في نيل الحرية بالعديد من الوسائل والطرق.

  هذه السلطانة الأم كانت الرئيسة الفعلية للحرملك، وكانت تشغل وظيفة قريبة لمنصب «الملكة الأم» الذي ظهر في أوروبا في الفترة ذاتها، وتعد السلطانة حفصة خاتون والدة السلطان سليمان أول من تولت هذا المنصب، حيث وضعت نفسها على قمة تنظيم هرمي داخل الحرملك في إطار من التقسيم الثنائي، فقسم لنساء السلطان ويضم زوجاته وأخواته، وقسم لجواري الخدمة والإدارة، ولإشراف السلطانة الأم على كل أنشطة الحرملك كانت تلقب بـ»تاج المستورات»، فضلاً عن لقبها الأصلي «المهد العالي» وتخاطب في المكاتبات الرسمية بـ»دولتلو عصمتلو» أيّ «صاحبة الدولة وصاحبة العصمة».

  وكانت السلطانة الأم، بالإضافة إلى أنها الرئيسة الشرفية للحرملك كله، صاحبة أرفع منزلة في الحريم ولها نائبة تسمى (خازن دار أوستا) ومهمتها الرقابة والإدارة وتدبير النفقات، وكانت ترافق السلطان في زيارته للحريم وإذا ماتت الوالدة خلفتها في مكانتها.

وكان سلاطين العثمانيين يظهرون الكثير من مشاعر الحب والاحترام والتقدير لأمهاتهم، وهو ما جعلهن يستغللن هذا الوضع من أجل الحصول على المزيد من النفوذ والتدخل في شؤون البلاد، خصوصاً إذا ما تولى إدارة البلاد سلطان ضعيف أو صغير في السن، وقد استمر تدخل السلطانات في شؤون الملك حتى زمن السلطان عبدالحميد الثاني نهاية القرن التاسع عشر، الذي أصدر أوامر مشددة بمنع تدخل النساء في شؤون الدولة منعاً باتاً.

  تذكرت السلطانة الأم حفصة خاتون كيف بدأت القصة كلها، في يوم من أيام الربيع الذي حل مبكراً على إستانبول في هذا العام، حيث كانت هناك جارية هي حديث الحرملك كله، بما لها من ضحكة تخلب العقول وروح جميلة تخطف الأبصار، لم تكن أجمل فتيات الحرملك، لكنها شكلت حالة خاصة، مختلفة هي عن الأخريات، كونت صداقات مع مختلف الجواري، تشوقت السلطانة الأم لرؤية تلك الجارية التي شغلت الجميع، كانت تريد أن تختار عدة فتيات لعرضهن أمام ابنها السلطان الشاب سليمان القانوني، لمعرفتها بالجفوة العابرة بين ابنها وأم ابنه الوحيد ماه دوران باش خاصكي سلطان، رغم قصة العشق التي جرت يوماً في حدائق مانيسا، والسلطانة الأم شاهدة عليها، تنهدت حفصة خاتون قائلة لنفسها «ما أبعد أيام مانيسا، جرت في النهر مياه كثيرة، منذ ذاك الوقت، يا ليتها تعود تلك الأيام المبهجة»، لكنها تعرف يقيناً أن الزمن لا يعود للوراء وأن الحاضر يفرض شروطه على الجميع، أولهم ابنها السلطان الشاب الذي تولى إدارة إمبراطورية مترامية الأطراف.

استدعت السلطانة الأم آغا الحريم سنبل آغا، وأمرته بإحضار الجارية الجديدة التي شغلت حرملك القصر، قال سنبل آغا: «الجارية الروسية المدعوة ألكاسندار يا مولاتي»، قالت: «هي»، واستدركت على الفور: «ما هذا الاسم الغريب على الأذن التركية، سننظر في تغيير اسمها، والآن اذهب واستدعها»، انسحب آغا الحريم في هدوء ولم يُبد ما في نفسه، حيث يعلم يقيناً بخبرته أن الجارية الروسية الجديدة فيها شيء مختلف عن جميع جواري الحرملك، كما أنها تعرف الوصول إلى القلوب عبر أقصر الطرق، مجرد ابتسامة بريئة تزيِّن وجهها الجميل، لكن كل هذا لا يبرر استدعاء السلطانة الأم «الجناب العالي» سيدة الحرملك لها، بهذه السرعة ولم يمض على وجود إلكاسندرا إلا أشهر معدودات، فمن تكون لتأمر السلطانة الأم بإحضارها إلى الجناح السلطاني.

أحلام جارية

كانت الجارية الروسية إلكاسندرا محور حديث القصر العثماني، فهي بطلة الأيام المقبلة، التي أظهرها القدر للسلطان سليمان القانوني لتصبح معشوقته الأثيرة، وزوجته في مستقبل الأيام وأم أولاده، إنها روسلانة المعروفة أكثر باسم السلطانة «حُرَّم»، كانت الفتاة الصغيرة التي دخلت القصر كجارية مشتراة من أسواق العبيد، تحلم كغيرها من فتيات القصر بالوصول إلى الجناح السلطاني، هناك تتفتح أزهار الربيع وتضحك الدنيا وتودع الجارية إذا حالفها الحظ حياة الشقاء في غرف جواري الحرملك.

فالأمل راود الجارية الروسية أن تنضم إلى الحريم الخاص بالسلطان سليمان القانوني، والمعروفات بـ«قادين»، فلم يكن السلطان العثماني في العموم، يتقيد بالعقد الشرعي فيكفي أن يقول إن هذه زوجته لتكون زوجة شرعية له، ويقال إن السلطان بايزيد الأول المتوفى عام 1403م أول سلطان تزوج زواجاً شرعياً، لكن هزيمته المدوية أمام السلطان تيمور لنك ثم وقوعه في الأسر ومشاهدته لزوجته وهي تخدم عدوه، جعلته يموت غماً وكمداً، وهو ما دشن عرفاً داخل أروقة القصر العثماني بعدم زواج السلطان زواجاً شرعياً، وقد ظل هذا العرف سائداً ومحترماً لما يزيد على القرن ونصف القرن، حلمت الجارية الروسية لو أنها تستطيع أن تكسر هذا القانون يوماً، لم تعرف أن القدر يخبئ لها مفاجأة سعيدة وأن اسمها سيرتبط عما قريب باسم السلطان سليمان ولن يفرق بينهما حتى الموت ذاته.

عندما دخلت الجارية إلكاسندرا على السلطانة الأم حفصة خاتون، كانت ترتجف كورقة شجر في صباح خريفي غاضب، أحلامها بسيطة، تليق بفتاة انتزعت من أهلها يوماً في بلاد بعيدة تدعى أوكرانيا، لا تريد إلا الأمان الضائع منذ سنوات الأسر، عندما رأتها السلطانة الأم أدركت أن فيها شيئاً مختلفاً، عيناها الخضراوتان فيهما بريق خاص، لم تعرف السلطانة حفصة عيوناً بهذا الجمال والسحر والدلال، تساءلت بينها وبين نفسها هل العينان هما سر هذا السحر الطاغي؟!، نظرت إلى الجارية الجديدة نظرة إجمالية، لم تر فيها جمالاً أخّاذاً، فهي جارية متوسطة الجمال، لكن جاذبيتها لا تقاوم، قالت السلطانة الأم في سرها: «لعلها ليست رائعة الجمال، لكن لديها سحرها الخاص الذي لا يقاوم، وبراءتها لا رياء فيها، أنا أعرف ولدي جيداً إذا رأى تلك الجارية سيسقط في بئر حبها غريقاً».

قالت السلطانة: ما هو اسم هذه الجارية يا سنبل آغا؟ ومن أي البلاد هي؟

رد آغا الحريم سريعاً: حضرة الجناب العالي... الجارية تدعى إلكاسندرا، وهي من بلاد الروس

استعجبت السلطانة من الاسم الثقيل على الآذان التركية قائلة: اسمها صعب النطق على لساننا وثقيل على أسماعنا، ليكن اسمها روسلانة (أيّ الروسية باللغة التركية).

قال الآغا: مولاتنا أمر والجميع ينفذ، فليكن اسمها منذ اليوم روسلانة.

سادت لحظة صمت تفكر السلطانة الأم في عواقب قرارها الذي اتخذت، هل تبوح به أم تتمهل قليلاً، حسمت أمرها قائلة: آغا الحريم سنبل آغا، نفذ أمرنا العالي بتجهيز روسلانة للدخول على ابننا السلطان المعظم في الخلوة الأسبوع المقبل».

اندهش سنبل آغا من القرار الذي لن يمر مرور الكرام، وسيشعل الحريم بنار الغيرة، في حين ارتسمت ابتسامة خلابة على ثغر الجارية روسلانة، التي اقتربت من تحقيق حلمها البعيد، لم يجد سنبل آغا إلا أن يقول: «أمر مولاتي ينفذ فوراً»، وخرج من جناح السلطانة الأم تتبعه الجارية التي تأكد سنبل آغا أن مصيرها قد تغير للأبد، تبعتهما السلطانة الأم بنظراتها القلقة، وقالت بصوت غير مسموع: «استعدي يا ماه دوران لما سينزل بك من ألم الشوق ونار الغيرة».

أم الأمير

كانت ماه دوران أم الأمير مصطفى ولي العهد العثماني، والابن الوحيد للسلطان سليمان القانوني حتى ذلك الحين، لذلك حظيت بمكانة رفيعة داخل الحرملك، وكانت السيدة الثانية في القصر بعد السلطانة الأم حفصة خاتون، إلا أنها تميزت بغلظة في الأفعال تسببت في كراهية مستترة بينها وبين السلطانة الأم التي رفضت تعامل ماه دوران بعنف وتعالٍ مع جواري الحرملك، فالمفترض أن تتمتع أم ولي العهد وسيدة الحرملك المستقبلية بأخلاق مثالية واتزان أسطوري يمكنها من إدارة الحرملك الذي يضم مئات الجواري، لكن تعالي ماه دوران كان يخرق الأعراف وتقاليد الحرملك، فتسببت بأفعالها في نفور معظم الجواري منها.

وكانت ماه دوران تدرك جيداً أنه وفقاً لتقاليد الحرملك العثماني فإن أهم القادينات (الجواري المخصصات لخدمة السلطان) تلك التي تنجب ذكوراً، فإذا أنجبت ذكراً أصبحت «باش قادين» أي كبيرة القادينات، أو «خاصكي سلطانة» لتقترب من درجة السلطانة، وتصبح السيدة الأولى بعد وفاة أم السلطان، ويكون ابنها ولي العهد طالما هو أكبر الأبناء.

لم تكن الجواري ناقصات تربية أو فاقدات الأهلية، بل كن على أعلى مستوى من التعليم والتربية وفقاً للتقاليد التركية المحكومة بالشريعة الإسلامية، فكن يتعرضن لدروس مكثفة في بعض العلوم والسلوكيات الاجتماعية الراقية بحيث يكن مؤهلات للدخول في الحريم السلطاني وتلقي التعاليم العثمانية، ومعظم أولئك الجواري كن مسيحيات، وكن يعرفن عند دخولهن الحرملك بـ»عجمي» ولكن بمجرد التحاقهن بالقصر تتغير أوضاعهن فيدخلن في الإسلام ويتعلمن البروتوكول العثماني، وفي أروقة القصر يتلقين دراسات في الثقافة الإسلامية والثقافة العامة والسلوك الاجتماعي واللغة التركية، وأثناء هذه الدراسة تظهر موهبة الفتاة ومدى استعدادها للدراسات الإضافية كاللغات الفارسية والعربية والفرنسية والإنكليزية، والتاريخ الإسلامي والجغرافية، هذا إذا كانت مستعدة للدراسة النظرية، وإذا كان لديها استعداد للدراسة العملية فتتلقى تعليماً في التطريز والحياكة والموسيقى والغناء والرقص، وكانت الجواري ينتظمن في مجموعات كل مجموعة تتكون من عشر جواري، وتشرف رئيسة على كل مجموعة، وبمضي الأيام تزداد الجارية جمالاً ورشاقة وعلماً وثقافة ولباقة وسعة أفق، وعند الوصول إلى سن معينة لا تتجاوز الخامسة والعشرين يعتقها السلطان ويأذن لها كسيدة حرة في الزواج من أحد رجال الدولة، والسلطان هو الذي يختار لها الزوج وتغادر القصر.

لم تراع أم ولي العهد تلك التقاليد، وكشفت عن أطماعها في أن تصبح سيدة الحرملك بلا منازع، ما سبب حساسية في التعامل مع السلطانة الأم حفصة خاتون، التي رأت ضرورة إشعال قلب ماه دوران وشغلها بإدخال جارية جديدة على السلطان الشاب، علها تنجح في جذب انتباه ابنها، ومن الممكن أن تتطور العلاقة إلى إنجاب ولد منه، عندها ستصبح الجارية في منزلة مساوية لمنزلة ماه دوران، ويبدأ صراع بينهما تخرج منه السلطانة الأم وحدها منتصرة، لذلك استعانت السلطانة الأم بالجارية الجديدة المدعوة روسلانة لتنفيذ مخططها، لكن القدر كان يحمل للجميع مفاجآت عدة.

فروسلانة التي ستعرف بـ»خُرَّم» ستنجح في التربع على قلب السلطان سليمان سريعاً، وستقلب نظام الحرملك رأساً على عقب، وستترك بصمتها التي لا تمحى على التاريخ العثماني، وكانت السلطانة الأم الغارقة في أحلامها لا تدرك حقيقة أن الصراع  بين زوجات ابنها السلطان سليمان على وشك البدء وانتهت معه حالة الهدوء التي سادت الحرملك سنوات.

 آل عثمان

ظهرت إمارة آل عثمان على صفحات التاريخ في حدود سنة 1300م، كإحدى الإمارات التركية التي غزت منطقة الأناضول (آسيا الصغرى)، في إطار الهجرة التركية الكبرى في العصور الوسطى، التي نجحت في إزاحة الدولة البيزنطية (الدولة الرومانية الشرقية أو دولة الروم) غرباً، ونجحت إمارة آل عثمان الصغيرة عبر قرن كامل في إزاحة عدة إمارات تركية من الوجود، وبدا مع نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، أن إمارة العثمانيين تحولت إلى دولة مرهوبة الجانب، خاصة بعد أن حقق سلاطين الدولة انتصارات عديدة في أوروبا واقتربوا من فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، المقر التاريخي للإمبراطورية الرومانية والمسيحية الأرثوذكسية الشرقية معاً، فكانت رمز أوروبا السياسي والديني.

إلا أن هجوم تيمور لنك القادم من وسط آسيا اقتلع كإعصار عنيف أوتاد الدول التي ألقاها حظها العاثر في وجه ذلك الغازي العنيف، وعندما وصل تيمور لنك إلى مشارف الأناضول، اصطفت الإمارات التركية خلف السلطان العثماني بايزيد الأول لوقف المد الآسيوي، إلا أن تيمور لنك ألحق هزيمة مذلة بالعاهل العثماني في معركة أنقرة 1402، وهي الهزيمة التي كادت أن تعصف بآل عثمان خاصة بعد وقوع السلطان بايزيد في أسر تيمور لنك.

 كعنقاء نهضت من الرماد، نجحت الدولة العثمانية في لم شتاتها من جديد لتخرج من كبوتها سريعاً، فأثبت خلفاء بايزيد مقدرة كبيرة في تخطي الصعاب التي واجهت الدولة سواء في الأناضول أو في الساحة الأوروبية، حتى كلل السلطان محمد الفاتح تلك الجهود بفتح مدينة القسطنطينية سنة 1453م، ليقضي على إمبراطورية تجاوز عمرها الألف عام، ويجعلها عاصمة البلاد بعد أن غير اسمها إلى «إستانبول»، ويثبت أقدام العثمانيين بالقضاء على الإمارات التركية والتركمانية في الأناضول، مجبراً دول البلقان من المجر والبلغار على الاعتراف بسلطانه، وعندما خلفه ابنه بايزيد الثاني على عرش الدولة، عمل على تدعيم نفوذ دولته وتوسيع رقعة ممتلكاته شرقاً وغرباً وعندما سلم الدولة إلى خليفته السلطان سليم الأول ترك له دولة ثابتة الأركان مرهوبة الجانب، تثير الرعب في قلوب ملوك أوروبا، ينظر إليها ملوك الإسلام بوجل.

back to top