علاقة الأم بابنتها... ثنائي استثنائي!
تمرّ العلاقة التي تجمع بين الأم وابنتها بمراحل انفصال لتعود أواصرها وتتبلور في مراحل أخرى، إلا أنها علاقةً معقدة ومتينة لا تنتهي، تتراوح بين الحبّ والكراهية، ويبقى حبل السرة الذي جمع يوماً بينهما قائماً يصعب قطعه. فهل تتسم علاقة الأم بابنتها بالصداقة أم بالعدائية؟
يمكن أن تحبّ الفتاة أمها بألف طريقةٍ وطريقة، ويمكن للأم أن تحبّ ابنتها بألف طريقة وطريقة. تقدّم كلّ عائلة شهادةً في هذا الصدد لا سيما حين تكون المرأة أماً لابنةٍ تشبهها. إلا أن البساطة لا تُعتبر عنوان هذه العلاقة التي يمكن أن تكون انصهارية أو متناقضة أو عدائية. يؤدي الوالد أيضاً دوراً معقداً في العلاقة التي تجمع بينه وبين الأم والابنة.
هوية أنثويةيؤكد علماء النفس أن حصول الفتاة على هويتها الأنثوية أصعب من حصول الصبي على هويته الذكورية. الأم مصدر حياة قوية وهي الكائن الأول الذي يحظى بحبّ مطلق وانصهاري. يدرك الصبي أنه يختلف عن أمه فيبتعد عنها في حين تلاحظ الفتاة نقاطاً مشتركة تجمعها بأمها، فتشعر بأنها نسخة عنها، وتدوم المناقشات بينهما فترة طويلة. رغبةً منها في التحوّل إلى امرأة متزنة والخروج من هوية أمها وتكوين هوية خاصة بها، تلجأ الفتاة إلى استراتيجيات مختلفة، منها عقدة أوديب الشهيرة، فتسعى إلى جذب والدها في محاولةٍ منها للتميّز عن أمها، علماً أن نتائج تترتب عن ذلك قد تصل إلى حد تشويه علاقتهما سنوات.حين يكون التواطؤ حقيقياًتبدو العلاقة بين الأم وابنتها واضحة وطبيعية، تدرك الابنة أن والدتها موجودة إلى جانبها، وتشعر كل واحدة منهما بالحبّ تجاه الأخرى. حتى إن لم تتبنَّ الفتاة قيم أخواتها الأكبر منها سناً اللواتي يرغبن أصلاً في نقلها إليها، إلا أنها تخفي في قلبها إعجاباً بأمها. يبدو التواطؤ حقيقياً فيُترجم بمناقشات حادة حول: العمل، الصداقات، الحياة السياسية وغير ذلك من أمور كانت محرمات في ما مضى وباتت عادية اليوم.كشف استطلاع أجري عام 1998 أن العلاقات التي تجمع بين 81% من الأمهات وبناتهن أفضل من تلك التي كانت تجمع تلك الأمهات بأمهاتهن. لا شكّ في أن علاقة الأم – الابنة تتلبد بغيوم طفيفة لا تتطور في العادة إلى عواصف! تتشاحن الأمهات وبناتهن باستمرار، إلا أن ذلك لا يمنعهن من تمضية ساعات طويلة على الهاتف. حين يحتدم الصراععادةً تكثر النزاعات في مرحلة المراهقة إلا أنها تبدو أساسية. لتتحول الفتاة إلى امرأة لا بدّ من أن تبتعد عن أمها، يتيح النزاع للمراهقة أن تجد لنفسها مكاناً خاصاً... ستواجه صعوبات جمةً من دون شكّ إلا أنها لن تكون مستحيلة. في حالات أخرى، تعاني الأمهات من متلازمة الشباب الأبدي، فيعتبرن انتقال بناتهن من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ خطراً محدقاً يتمثل في تقدمهن في السن، فيفضلن البقاء صديقات دائمات لهن والتصرّف على هذا الأساس. لتجد الفتاة نفسها في خضم هذه العلاقة لا بدّ من أن تتأقلم ووالدتها مع هذه المعطيات وأن تبتعد كلّ واحدة منهما عن الأخرى قليلاً.حين تتحول الأم إلى صديقةتخشى الأمهات أن تعيش بناتهن بعيداً عن سيطرتهن فتغمرهن بالعطف والحنان منذ صغرهن. تتقرب الأم من ابنتها وتتحول إلى صديقة حميمة تعرف أحزانها وأفراحها ومشاكلها ومشاريعها. تبعاً لذلك، يصعب على الفتاة أن تميّز بين مشاعرها الخاصة ومشاعر أمها، لا سيما أن علاقتهما انصهارية. بالتالي، تبوح الفتاة الشابة العاشقة لأمها بسرها من دون تردد، كيف لا وهذا ما اعتادت على فعله دائماً، وتعرف الأم كيف ربّت ابنتها. إلا أن الفتاة التي تتخذ من أمها صديقة لها تتحول إلى رهينة لديها من دون أن تشعر، لأن بنيتها العاطفية تشمل العلاقة الانصهارية التي تجمعهما. لذلك لا تفكر الفتاة إطلاقاً بإبعاد أمها عن حياتها حتى حين تتزوج إذ تدرك تماماً حجم الألم الذي قد تشعر به الأم، ولا تود أن تتحمل مسؤوليته بأي شكلٍ من الأشكال، لا سيما أن ألم الأم يعني أيضاً الألم للفتاة.كيف تتخلص من هذا القرب الهائل؟تتهاتف الأمهات وبناتهن، مرات عدة كلّ يوم، إذ لا تُخفي الواحدة منهنّ أمراً عن الأخرى حتى الأمور الحميمة. أكثر من ذلك، حين تتألم الفتاة تجد أمها إلى جانبها لتهدئ من روعها. صحيح أن هذه العلاقة تبدو رائعة إلا أنها تقصي الآخرين من دائرة الحميمية الضيقة، حتى الحبيب أو الزوج لا يجد لنفسه مكاناً ضمنها، فيحتل مكاناً ثانوياً في حياة الفتاة وقد يضطر إلى كسب إعجاب الأم ليكسب الفتاة، وكأن الأم وابنتها شخصٌ واحد ووجهة نظر الواحدة منهما توجّه الأخرى.ابتداءً من اللحظة التي تعي فيها الفتاة أهمية حياتها الشخصية وتتمنى أن تحمل في قلبها حباً مميزاً يختلف عن ذلك الذي تكنه لأمها، تبدأ العلاقة بالتدهور، خصوصاً أنها تجد نفسها مشتتة بين حبها لأمها وكراهيتها لها، لاعتقادها بأن أمها ترفض منحها فرصة للاستمتاع بحياتها بعيداً عنها، فتميل إلى التفرد والابتعاد عن هذه الأم القادرة، في ظلّ أزمة مراهقة لا تنتهي. الأم المتعسفةلا تصرف الأمهات النظر عن السعي الدائم الى الاحتفاظ بمكانة خاصة مهيمنة في حياة بناتهن، فيسدين نصائح ويحكمن وينتقدن من دون أن يدركن أنه لا بدّ من أن يتركن لهنّ بعض المجال. أحياناً، تترك الأمهات في نفوس بناتهن شعوراً بالضعف لضمان اعتمادهن الدائم عليهن، فتشعر الفتاة بالذنب لأنها لا تضاهي أمها مكانةً، وترفض في لاوعيها أن تنجح في حياتها العاطفية أو المهنية. حين تتدهور العلاقات بين الأم وابنتها إلى هذه الدرجة ويصعب تخطي السيطرة العاطفية، قد تلجأ الابنة إلى محللٍ نفسي يساعدها على الانفصال رمزياً عن أمها المسيطرة. البنت سرّ أمّهاغالباً ما ينظر الناس إلى الأم ليتخيلوا مستقبل الفتاة، حتى وإن كانت البنت تشبه أمها إلا أنهما شخصان مختلفان اختلافاً تاماً. وحين تنكر كلّ منهما شبهها بالأخرى رغبةً منهما في التميّز، يوجههما اللاوعي إلى الطريق عينه. من الضروري معرفة ما إذا كانت الأم تتصرف كأم أكثر مما تتصرف كامرأة (أو العكس)، الأمرين معاً أو لا تتصرف على أي أساسٍ منهما. لا شكّ في أن صورة الفتاة الأنثوية المستقبلية، علاقتها بالرجل وتجسديها لدور الأم في المستقبل ستتأثر بأمها تأثيراً قوياً.تتغلب المرأة على الأم في شخصية الأم حين تتعامل مع طفلتها لأن مرحلة ما بعد الولادة تتطلب ذلك. إلا أنه يتعين عليها ألا تنسى إعادة توازن القطب من دون أن تقلبه انقلاباً تاماً: لتكون أماً لابنتها ولتبقى في الوقت عينه محبوبة زوجها! حين تتغلب الأم على المرأة في شخصية الأم، قد تمنع ابنتها من التوصل إلى تحديد أطر أنوثتها الخاصة وقد تجعلها كذلك ممنونة لها لا بل مذنبة أحياناً إن حظيت بالحبّ والدلال. تميل الأم التي تغلب في شخصيتها المرأة على الأم إلى إبعاد ابنتها تلبية لمصلحة زوجها أو عملها أو حياتها الاجتماعية وقد تصل بها الأمور إلى حد رفضها بعنف. عندما تلازم الأم ابنتها وتغار منها، يمكنك أن تستنج أهمية التحرر من الوزن الثقيل هذا والمبطل.ابنة أبيهاللرابط الذي يجمع البنت بأبيها أهمية قصوى وقد يتراجع بحكم مراحل التطور التي تمرّ فيها الفتاة (عقد أوديب، البلوغ...) فاستناداً إلى النضوج النفسي، والرغبات الواعية أو اللاوعية، يتغير إدراك الفتاة لأبيها وعلاقتها به.الرجل الذي مرّت مرحلة عقد أوديب في حياته بسلام ورفض أمه عن وعي يستطيع أن يحبّ امرأةً أخرى، أم ابنته، وألا يخون ابنته من خلال وضع حدود مانعة تؤدي إلى ابتعاد البنت عن أبيها تماماً كما تسقط الثمرة عن الشجرة.في حال لم يملأ الأب مركزه وكان غائباً وغير موجود، تتساءل ابنته عن سبب غيابه وتبقى إلى جانب أمها باحثةً عن وجود دائم لنموذج ذكوري لم تعرفه يوماً.في حال كان الوالد قاسياً ويتعامل بعنف جسدي ولفظي مع أفراد عائلته، قد ترى البنت في العنف أمراً سخيفاً وتصبح عنيفة في معاملتها لأمها التي تفقد قيمتها في حياتها. اليوم، نلاحظ أن العائلات باتت تخضع بمعظمها لسيطرة الأم في ظلّ غياب الأب الذي يتحول إلى مجرد جذرٍ بسيط، إليه يعود أصل الطفل لا سيما أن الإنجاب بالطرق الاصطناعية الحديثة جعل من الأب مجرد رجلٍ يعطي المرأة حيواناً منوياً لتنجب طفلاً.الموقف الأنسب في معاملة المراهقةيتفق علماء النفس جميعهم في هذا الصدد. لا بدّ ومن أن تعيش الأم وابنتها المراهقة صراعاً لتتمكن البنت من بناء هويتها الخاصة. من هنا يمكن الاستنتاج أنه لا مجال لتجنّب الصراع بين الأجيال إلا إذا أرادت الأم أن تجعل ابنتها نسخةً عنها.يتعين على المراهقات مواجهة أمهاتهن، دفعهن ولومهن على بعض الأمور، فالصدمات هذه ستتيح لهن العثور على دربٍ يتحولن عند سلوكه إلى نساء وإلى تأسيس حياة خاصة بهن.تتهرب الأم وتتنازل عن دورها كأم حين تختار الفرار من النزاع، رغبةً منها في العثور على السلام، تاركةً المجال لابنتها أن تعيش حياتها وتتخطى الحدود. ينبغي أن تضع الأم دائماً حدوداً وتفرض على ابنتها العمل والاحترام، حتى وإن أدى ذلك إلى صراع بينها وبين ابنتها المراهقة.بات معلوماً إذاً أن العلاقة بين الأم والابنة ليست علاقةً سهلة وأن أداء دور الوالدين ليس بالأمر السهل البسيط. يقترف الإنسان الأخطاء لأنه قبل كلّ شيء كائن حيّ، المهم أن يبقى الحبّ أساس العلاقات والدعامة الأساسية التي تسندها وتحميها...