نحو «ليبرالية» إسلامية قوامها عقلانية «المعتزلة»

نشر في 24-01-2013
آخر تحديث 24-01-2013 | 00:01
 أ. د. محمد جابر الأنصاري لم يكن "المعتزلة" جماعة واحدة، كان الجاحظ أولهم، وكان الحسن البصري واعظهم ومفكرهم، وكان فيهم السنّة والشيعة والراجح أنهم قوم اعتزلوا لأنهم لم يريدوا الانجرار وراء الفتن، فاعتزالهم اعتزال سياسة ولا داعي للبحث والتفريع في معنى الاعتزال وأصله.

وقد أطلقوا على أنفسهم "أهل العدل والتوحيد" وصاروا يُعرفون بهذه الصفة بين الفرق والفئات، ولهذه التسمية معنى فكري فالعدل صفة يطلقونها على الله سبحانه، وقد حرصوا على معنى التوحيد الإلهي، وكان لهم من الصفات الإلهية موقف، فكانوا أقرب إلى نفيها تأكيداً لوحدانية الذات الإلهية.

أما أهم موقف فكري لهم فهو موقفهم من العقل، فقد رأوا أن له أهمية كبرى في تدقيق الأحكام والتوصل إليها.

ولكن يؤخذ عليهم أنهم لم يرأفوا بخصومهم رغم مواقفهم "المعتدلة"، فقد وقفوا منهم موقفاً "استبدادياً" ونهوهم عن إبداء آرائهم، ورغم أن أحمد أمين في "فجر الإسلام" قد أعلى من شأنهم فإنه ندّد بالنهج الاستبدادي الذي انتهجوه.

ولا أدلّ على اعتزالهم السياسي من العبارة الشهيرة التي اشتهروا بها "المنزلة بين المنزلتين"، كانت جواباً سياسياً عن السؤال: ما وضع الذي سبّب الفتنة بين المسلمين؟ فكان جوابهم: إنه "منزلة بين المنزلتين".

لذلك نرى البحث في المعاني اللغوية للاعتزال مضيعة للوقت، وهو ما انشغل به الباحثون العرب وسواهم من المستشرقين في نشأة المعتزلة.

أما الميزة الثانية التي امتازوا بها فهي إعلاؤهم من شأن العقل في السياسة والدين وسواهما من شؤون الحياة.

وقد ذهبوا إلى أن النبي، عليه الصلاة والسلام، كان يتعبد قبل نزول الوحي، على شرعة العقل، وأن هذه الشرعة لم تبطل بنزول الوحي، والقول باستمرار شرع العقل مع الشرع الإسلامي يستند إلى مبدأ الاستصحاب الفقهي القائل بقبول العناصر المصاحبة لنمو الشرع الإسلامي والسابقة عليه التي أقرها أو لم يحظرها (انظر: مصطفى عبدالرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص: 156).

وقد ظهرت مدرسة عقلانية إسلامية منتصف الثلاثينيات تستوحي فكر الإمام محمد عبده، ومن تأثير هذه في "الجو المعتزلي"، كتب توفيق الحكيم عام 1937م "لا يمكن لنبي أن يكون نبياً حتى يكشف له الصانع الأعظم عن بعض نوره، ويوحي إليه بنشر هذا النور على الإنسانية"- (توفيق الحكيم، "تحت شمس الفكر"، ط 1972، ص: 28).

ولم  يقتصر  ذلك الجو المعتزلي، إحياءً وإشادة، على توفيق الحكيم، بل تجاوزه إلى مختصين في الفكر الإسلامي كمصطفى عبدالرازق، شيخ الأزهر، ومحمد البهي، ولم يعدم ذلك الاحياء المعتزلي من ناقديه، إذ نجد شيخ الأزهر عبدالحليم محمود في عهد السادات يقول: "إن المعتزلة لم تسجد قط لله، وإنما للعقل".

ورغم هذا النوع من النقد، فإن قانونياً كعبدالرازق السنهوري (1895هـ- 1972م) عندما انتقل إلى العراق، قام بالاتفاق مع الحكومة العراقية، التي استدعته إلى هناك على التوفيق بين مبادئ التشريع الإسلامي ومبادئ التشريع الحديث، فعمد إلى إدخال عناصر من القانون الغربي في القانون العراقي الذي كان إسلامياً في الأساس، كما أدخل عناصر من القانون الإسلامي في القانون المصري الذي كان مستمداً من "القانون الفرنسي".

ويمكن أن يعزى النجاح الملحوظ الذي أحرزه السنهوري إلى أنه بدأ بتطبيق أسلوبه في المواضيع التي تثير أقل معارضة.

وقد اهتم التوفيقيون المعاصرون بالتقريب بين النظامين الشيوعي والرأسمالي: "وإذا كان النظام الشيوعي قد خرج في النهاية من ساحة المواجهة، فان المسألة ستبقى بالنسبة إلى التوفيقيين الإسلاميين تقديم الصيغة التوفيقية الإسلامية مع الليبرالية الغربية...".

وما يحدث في عالمنا العربي اليوم هو محاولة التوافق بين الجانبين، ليس غير... والواقع أن لدينا "مكتبة" متكاملة من "الإحياء التوفيقي المعتزلي" ندعو إلى الاستفادة منها.

ولو عدنا إلى الجو الحضاري الأصيل إلى الاعتزال، لوجدنا أبرز خليفة يعتنق الفكرة الاعتزالية التوفيقية، وهو الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، والمأمون هو من أنشأ "دار الحكمة"، وبلغت سعة أفقه أنه عمل على التقريب بين أكبر مدرستين في الإسلام وهما السنّية والشيعية في مشروعه لولاية العهد لإمام بارز، وإن أحيط ذلك المشروع بالشبهات، ومن سوء الحظ أن ذلك الإمام الاثني عشري توفاه الله وبقي المأمون وحيداً من بعده، ولكن الفكرة التوفيقية، لم تمت بموته بل ظلت في سلسلة من الخلفاء من أبنائه إلى أن صدر "إعلان من أحد الخلفاء العباسيين" يمنع القول بأقوال المعتزلة مما أدى إلى أفول نجمهم، وتبنت الدولة العباسية الفكر الأشعري (نسبة إلى أبي الحسن الأشعري).

إن فكرة التوفيق بين العقل والشرع تستحق أن يدرسها المسلمون المعاصرون، لاستعادة ذلك الألق الحضاري الذي تمثل بـ"دار الحكمة".

* أكاديمي ومفكر من البحرين

back to top