يوسف عبدلكي والتفاصيل المشاغِبة

نشر في 11-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 11-08-2013 | 00:01
في المنفى الباريسي، طلب مني يوسف عبدلكي أن أكتب تقديماً لكاتالوغ المعرض الأول الذي أقيم للوحاته في غاليري الأتاسي بدمشق، في مايو 1995. فكانت هذه الكلمة المهداة إلى رفيق يوسف ورفيقي الأديب والمناضل اليساري السوري جميل حتمل الذي قتله المنفى.
تعرفتُ إلى كاريكاتور يوسف عبدلكي قبل أن أشاهد أعماله الفنية الأخرى. وعندما شاهدت تلك الأعمال، راودني سؤ...ال لم أجد له جواباً جاهزاً: كيف يصالح يوسف بين الكاريكاتور والتشكيل؟

في واحدة من محفورات مجموعة {ثمانينات} التي عرضت أخيراً في مسرح بيروت، يسلـّمنا يوسف عناصر للإجابة عن هذا السؤال. يبدو المشهد للوهلة الأولى مشهد مضاجعة بين زوجين. تستطيع أن تمرّ بالمحفورة مكتفياً بهذا الانطباع. على أن مجموعة تفاصيل صغيرة تنبئك بأنك أخطأت النظر وأسأت الظن، تفاصيل تعيد تركيب المشهد على نحو مختلف تمام الاختلاف. فإذا أنت حيال ما هو أقرب إلى عملية اغتصاب، أو قـُلْ مضاجعة باردة بلا إيروسية ولا حب ولا لذة. وقد تكتفي بهذه المفاجأة. على أن يوسف عبدلكي يحتفظ لك بمفاجأة أخرى. عنوان المحفورة – {المدير العام}، تفصيل جديد يقلب المشهد رأساً على عقب ويشحن توازن القوى الوحشي القائم في السرير بين رئيس ومرؤوسة بشحنة اجتماعية لاذعة.

باختصار، يوسف عبدلكي عمل بك {مقلباً}. لا تبحث عنده عن السهل والبديهي. إنه يسعى إلى الحقيقي. والحقيقي مشج وتركيب. ليس الكاريكاتور بين يديه مجرد تشويه وتضخيم. هو منظور آخر للحياة. ولا دأب الفنان التسلية أو إثارة الضحك. إنه يرمي إلى التنبيه والصدمة. إن الكاريكاتور في تشكيل يوسف عبدلكي مسلسل من {المقالب} تحذّرك: لا تتوقع أن يريك الفنان ما ترى أو ما يروق لك رؤيته. يريد الفنان أن يريك ما لا يريك إياه المسيطرون على المشهد البصري، جماعة {الوهلة الأولى}.

هذه التفاصيل المشاغِبة هي المدخل إلى عالم يوسف عبدلكي الفني.

إنها الحركات التي بها تتشكـّل مفردات نصه التشكيلي.

تنتظم مجموعة {ثمانينات} في مناخين متفارقين. يسبح عدد من المحفورات في غنائية شرقية تدرج المشهد اليومي في إطار يستوحي تركيب المنمنمات. لكنها منمنمات نقيضة، إذا جاز التعبير. تكفي مجموعة خطوط سوداء لكي ينفتح إطار المنمنمة على الحاضر وتلسعك القيود التي تكبّل إنساننا المعاصر. تبلغ هذه التقنية ذروتها وتتجاوز نفسها في محفورة {الروح القدس} المدهشة. ليست مجرد مشهد ذي إيحاء ديني. إنها {مقلب} متكامل. ينبني السرد ويتكثف بواسطة المجابهة بين اليومي والأسطوري، والنافل والمقدّس، والروحي والحسّي. الكلب الأليف يغفو على نغم الأسطورة، والحَمَام المقدّس يحاكي الدجاج الأخرق. ومريم تتسربل في زي شهرزاد لتستقبل {البشارة} تظهر على شاكلة إيروسية فرس أو جسد ذكوري مقطوع الرأس.

يعلن عدد آخر من المحفورات أن لعبة التفاصيل قد استنفدت أغراضها. كأن يوسف لم يعد يكتفي بالوحشي ورموزه تدهم حميمية اليومي والعادي والأليف. يمسخ الفنان حيواناته المشحونة عافية وإيروسية فينيخها تارة أو يطلق لها الأعنّة تارة أخرى، لتستحيل، في الحالتين، بهائم ميكانيكية هي نتاج المسافحة بين السلاح والحيوان.

في مجموعته الحالية، {أشخاص}، يحقق يوسف نقلة كبيرة في التشكيل والتعبير، تنمّ عن نضج وثقة متزايدة بالنفس وسيطرة أكبر على الموضوع والتقنيات. تنسحب الغنائية لصالح السخرية ويتحول الكاريكاتور إلى مَسخ. مَسخ يطاول الشكل البشري هذه المرة.

هذه الأيقونات الوحشية والموحِشة تعرض ثلاثة شخوص في صَمْدة مَن هو عارف أنك تصوّره وتشاهده. هم ثالوث يواجهك في كل جلال عبثه وعذابه والصمت. لا ليس مجرد صمت. هو جدل محيّر بين حضور وغياب وبين هوية وإمّحاء. وهو توازن مضغوط بين أفراد {عائلة مقدسة} يشي بالاختلال المروّع في العلاقات والمواقع والمقامات.

هذا وجه إله أو ملك آشوري يحمل كل مهابة فشله. وهذه إلهة الخصب عند العرب البائدة. ولك، إن شئت، عذراء معاصرة يجاورها حارسا عفافها، كأنهما يكرران على مسمعها، ومسمعك، أمثولة يوسف وهبي الشهيرة: {شََرَف الِبنت زيّ عُود الكبريت}. إبحث بنفسك عن الجلاّد والضحية. واحدهما يستظهر الآخر. فقد تلقى الضحية اكتسبت ملامح الجلاد.

ولا يفوتك البحث عمن اختار موقعه بين هذا وتلك، ففقد وجهه والملامح.

إن القداسة الوحيدة في هذه الأيقونات هي الإعلان عن حالة تنتهك فيها كل المحرمات وجميع المقدسات.

ثم إنك تستطيع أن تستعرض تلك الأيقونات على نحو متسارع، واحدة تلو الأخرى، فيتشكـّل المشهد، إذ ذاك، مسرحاً للدمى المتحركة. هؤلاء {الأشخاص} شخوص، وهذه الشخوص دمى تمثّل شخصيات وأدواراً. حرّكها على هواك. إجعلها تتخلع بحركاتها المتخشّبة الفجائية الصمّاء. إذا كان يوسف عبدلكي ليس يزوّدك بدليل استخدام، إلا أن {صندوق الفرجة} هذا كامل التجهيز. يأتيك ومعه لوازمه والمكمّلات.

إنها {قطع غيار} المشهد العربي الراهن: أيدٍ وأصابع وساعات وأحواض نبات وقبّعات وأزياء وغُربان وقصاصات صحف وعصافير وأوسمة وأوشحة... لك منها جميعاً ما تحتاج وأزود. شكّل وحرّك في هذا النص التشكيلي ما استطعتَ إليه سبيلاً.

إن شخوص يوسف عبدلكي ليس ينقصها إلا سيناريوهاتك عن الأنا المتضخمة والوقت، وسارقي وقتنا، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وأنت أدرى، والإصلاح الزراعي والجنس السياسي والتصنيع الثقيل والحب العذري والحل السلمي، على سبيل المثال لا الحصر. (ولن يخفى على الـمُشاهد اللبيب أن بين اللوازم إصبعاً مصمّمة خصيصاً لأداء الحركة المعلومة. يرجى استخدامها في حدود اللياقة والحفاظ على الآداب العامة).

على غرار مسوخ غويا ومسوخ بيكاسو، فترة الحرب الأهلية الإسبانية وتتويجها في {غيرنيكا}، أنتج يوسف عبدلكي مسوخه كائنات غرائبية تحاول مجاراة فوق،غرائبية وفوق، عبثية “واقعنا” لتعلن فضيحته.

وفي هذه المجابهة حوار خصيب هو هذيان حرّية...

يوسف عبدلكي 2013

قبض الجلادون على الرجال، وقبضوا على النساء، وقبضوا على الأطفال، وقبضوا على جياد السهول وطيور الجبال، وتنبه الجلادون فجأة إلى أن قوس قزح لا يزال طليقاً حراً، فبادروا إلى القبض عليه، وتحولت البلاد مقبرة وسجناً.

زكريا تامر

مذنب!

ذنبه أنه يريد الحرية لشعبه ويحلم بالتغيير الجذري لنظام استبداد وفساد وقتل يرزح على صدر السوريين منذ نصف قرن. مذنب، يوسف عبدلكي، لأنه يصرّ على أن يتولى الشعب السوري مصيره بيده، وحلّ أزمته الدامية بقواه الذاتية، لبناء سورية حرّة مستقلة علمانية ديمقراطية في ظل العدالة الاجتماعية.

أدخل يوسف عبدلكي السجن معارضاً ومناضلاً بتهمة الانتماء إلى حزب العمل الشيوعي، صاحب الدعوة المبكرة بإسقاط... النظام، وخرج منه مناضلاً ومعارضاً. معارضاً اختار المنفى، ومعارضاً لم يعلن التوبة ولا أنكر عقيدته ولا تخلّى عن رفاقه، في أحلك الأيام التي مرّت بها المعارضة السورية وفي أقسى أيام النفي.

معارضاً عاد يوسف عبدلكي إلى بلده مرفوع الرأس ومعارضاً قرر البقاء في دمشق رافضاً سلوك طريق المنفى مرة ثانية. معارضاً بقي ليسهم في إعادة بناء حزب العمل الشيوعي وتفعيل جبهة للمعارضة السلمية الداعية إلى تغيير النظام والرافضة للتدخل الخارجي والحل العسكري. قد تتفق مع يوسف عبدلكي ورفاقه في هذا الخيار أو تختلف. ولي في الخيارين الكثير لأقوله. وقد قلته. لكن هذا لا يغيّر قيد شعرة من حقيقة أن يوسف عبدلكي الفنان الكبير، الذي صقل المنفى موهبته وتجوهر فنه في الثورة والحرب، مناضل يساري ملتزم، لم يفصل مرة موقعه كفنان عن التزامه الفكري والسياسي، هو الآن قيد الاعتقال مع لا أقل من مئة ألف مواطن ومواطنة سوريين مذنبين مثله بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

أضم صوتي إلى الأصوات كافة المرفوعة من أجل إطلاق سراح رفيقي وصديقي يوسف عبدلكي في امتداد الدعوة إلى إطلاق سراح جميع المعتقلات والمعتقلين في السجون السورية. قد نفرح عندما يتوفر لبعض المثقفين فرصة الخروج الباكر من الأسر، تحت ضغط حملات عربية ودولية لإطلاق سراحهم. لكن هذا لن ينسينا بأن هذه الفرصة هي امتياز لقلّة وبأن الكثرة من مثقفي سورية ومثقفاتها الأسرى قضوا تحت التعذيب أو لا زالوا في غياهب السجون.

الذراع مبتورة لكن قبضتها لا تزال مضمومة

back to top