أنا كوماري من سريلانكا
ولدتُ في 1971 في ماتيلي، تلك القرية القريبة من مدينة كاندي في وسَط بلادي سريلانكا. هناك يعيش بوذيّون وهندوس ومسلمون ومسيحيّون، ينقسمون جميعًا إلى سنهال وتاميل. ولئن كان البوذيّون الأكثر عددًا في قريتنا، فالمسلمون عمومًا هم الأغنى، كما أنّهم المعروفون بوجوههم الفاتحة التي تقلّ سمرة عن سواها. وهذا أمر لا يزال يعني لنا الكثير، نحن السريلانكيّين، إذ نعتبره، مع العينين الملوّنتين، دليل امتياز وتفوّق في الجمال.بعض أتباع الديانات يسكنون حارات وأحياء منفصلة في ماتيلي، لكنّ بعضهم الآخر يتجاورون في السكن وفي البيوت، فيما تبقى العواطف والعادات مسألة أخرى، بعضها يبعّد في ما بيننا وبعضها يقرّب. فالتاميل، ونحن منهم، يحبّون الهند لأنّهم من أصول هنديّة، وإن كانت أصولاً بعيدة، بعضها وهن وامّحى. فأنا جدّي ولد في سريلانكا، لكن ما أعرفه عن الهند أنّني ذهبت مرّةً إلى مدراس، التي صار اسمها شنّاي، حيث بقيت قرابة أسبوع، برفقة بضع فتيات. الرحلة إليها لم تكن مكلفة أبدًا، وهناك أحسست بشيء يشبهني، خصوصًا أنّ كلّ الكتابات بالتاميليّة، وهي اللغة التي تُدرّس للأولاد.
على أنّ هذا لا يجمعنا، بالضرورة، بـ»نمور التاميل» الذين باتوا يحظون بشهرة عالميّة واسعة. فـ»النمور» ينحصرون في شمال سريلانكا، في جافنا، بعيدًا عنّا، وكنّا دائمًا نتحدّث عنهم وعن أعمالهم العسكريّة بشيء من الحياد ومن البرودة. وهم، فوق هذا، لا يحبّوننا، نحن تاميل الوسط، ربّما لأنّنا لم نتوجّه شمالاً كي ننضمّ إليهم ونقيم بينهم أو يقاتل رجالنا معهم، مؤثرين البقاء في مناطقنا الهادئة التي نختلط فيها مع سوانا.وأذكر حين كان عمري عشر سنوات أنّ أمّي قرّرت، ممّا جمعته بالتعب وشقّ النفس، أن تشتري قطعة أرض صغيرة في الشمال حيث أدّت المواجهات الحربيّة إلى خفض سعر الأراضي. لكنّ تاميل تلك المناطق لم يرحّبوا بها، كما فرض عليها الحصول على كميّات قليلة من المياه التي تُستخرج من آبار يملكونها صعوبات فائقة وتنازلات عدّة قدّمتها لهم.ثمّ إنّ مآكل التاميل لا تختلف إلاّ قليلاً عن مآكل السنهاليّين. فالكلّ يتناولون الأرزّ الذي يُستخدم كما يُستخدم الخبز في بلدان الشرق الأوسط، مع أنّنا أحيانًا نأكل أيضًا الخبز الذي يُخبز في البيوت. وفي الحلويات يختلف المسلمون قليلاً. فهم، مثلاً، يصنعون، دون سواهم، ما يسمّونه «بودينغ» ذا الاسم الإنكليزيّ، مع أنّه، كما بتّ أعرف لاحقًا، أقرب إلى «الكاسترد» الإنكليزيّة. فهو يتألّف من بيض وسكّر وعسل ويوضع في أوانٍ من تنك. أمّا السنهاليّون فهم، دون غيرهم، يصنعون حلوى أخرى يسمّونها هَلَبا.ونحن حين كنّا صغارًا، كنا ندخل بيوت رفاقنا ورفيقاتنا من جماعة أخرى، كما أنّ الجميع كانوا يتبادلون التعازي في مناسبات الموت، ويتشاركون في فرح الأعراس وفي بقية المناسبات الاحتفاليّة.بيد أنّ لغة السنهال هي اللغة الرسميّة في سريلانكا، ويُفترض أنّها لغة الجميع، المكتوبة في كلّ مكان. فأنا، مثلاً، أجيدها علمًا بأن للتاميل لغة أخرى خاصّة بهم. ومسلمو سريلانكا جميعًا، وفي عدادهم غير التاميل منهم، يتحدّثون بها، وإن صلّوا بالعربيّة وحدها. فمن دون هذه اللغة لا يستطيع واحدنا تدبير أموره وحلّ مشكلاته هناك.ونحن، وإن كنا تاميليّين، يغلب على منطقتنا المختلطة السنهاليّون ببوذيّيهم وهندوسيّيهم ومسيحيّيهم. لكنّ كلّ واحدة من الجماعات الإثنيّة والدينيّة لديها مركز خاصّ بها وبعبادتها وطقوسها. فككاثوليك، نتوجّه نحن للصلاة إلى كنيسة سان توماس القريبة منّا، وهذا ما كنّا نفعله مرّة كلّ أحدين إذ أقصد الكنيسة برفقة أختي وأخي. والحقيقة أنّني لا أصلّي فقط في الكنيسة، بل كنت، ولا أزال، أصلّي وحدي قبل مغادرة البيت صباحًا، وهو ما أفعله قُبيل النوم أيضًا. والشيء نفسه يصحّ في المسيحيّين الأرثوذكس، إذ لديهم، هم كذلك، كنيستهم في القرية، وأظنّ أنّ أحوالهم لا تختلف كثيرًا عن أحوالنا.على أنّني لم ألاحظ في صغري أنّ الناس يتحدّثون في الدين على النحو الذي صاروه لاحقًا، وربّما هم لم يكونوا يتحدّثون فيه أصلاً. كذلك لم يكن الخوف سلعة يتبادلونها في ما بين أديانهم وطوائفهم، ذاك أنّ الكلّ فقراء والكلّ متشابهون في جوانب أساسيّة عديدة من حياتهم. جدّي لأمّي، مثلاً، كان وحده من يملك راديو في القرية، وجميع سكّانها تقريبًا كانوا يأتون إليه في الرابعة مساء، وقد أتمّوا أشغالهم، كي يستمعوا إلى نشرة الأخبار. وهو كان محبوبًا منهم كلّهم كما كان يحبّني كثيرًا ويستثنيني، لسبب لا أعرفه، من بين أخوتي. ومن صفات جدّي أنّه كان، مثل المسلمين، أشدّ بياضًا من معظم أهل القرية، عمل مراقبًا على شغّيلة المطّاط في مشروع حكوميّ لا يبعد عنّا كثيرًا.أمّي اسمها سِنّامّا، وأختي الكبرى إنترا، أمّا أخي الأكبر فراجي إندرام، يليه يوسف. وقد عشنا السرّاء والضّراء معًا متكاتفين، فعبرنا، مثلنا مثل عائلات كثيرة في سريلانكا، محنة النصف الثاني من السبعينات، حينما كان النظام القائم يمنع الاستيراد ويقنّن بيع الموادّ الغذائيّة كلّها تقريبًا. آنذاك بات بعض الأغنياء يفتقرون إلى حاجاتهم الأبسط، أمّا الفقراء مثلنا ومثل جيراننا فكادوا أن يتاخموا الجوع. والوالد كان عامل باطون. لكنّه، هو وأمّي، مطلّقان منذ عهد طفولتي المتأخّرة. عند طلاقهما كانت أمّي، التي تعمل في قطف الشاي، حاملاً بيوسف، أصغر أخوتي.وهو كان وظلّ غريبًا، لم نعرفه ولم يعرفنا. فقد انتمى أصلاً إلى قرية أخرى لم أزرها أبدًا، ولا أذكر حتّى اسمها، وهو لم يأت إلى ماتيلي إلاّ بعد زواجه من أميّ. ويبدو أنّ حياتهما معًا كانت جحيمًا عليها، وربّما عليه أيضًا، فكان يُكثر من الشرب ويمعن في ضربها، وفي اضطهادها بلا رحمة. ومع الطلاق انتقلتْ، وانتقلنا معها، للعيش مع أمّها، جدّتي، ومع خالي الذي بات يهتمّ بها وبنا. حينذاك كانت أمّي في الثلاثين، وأنا لم أرَ أبي إلاّ لاحقًا، في عرس أختي الكبرى، إنترا. لقد كانت المرّة الأولى التي أشاهده فيها بعد تركه إيانا وأنا لا أزالا طفلة. بالطبع كان ينتابني الفضول لرؤيته لأنّني كنت أتخيّل وجهه تخيّلاً، وحين حصل ذلك اكتشفت أنّ أختي إنترا تشبهه كثيرًا في الشكل والهيئة، فلم يكن مستغربًا أنّه عبّر عن حبّه لها وحدها من بين أبنائه، فيما عاملنا نحن بالبرودة والتجاهل.لكنّنا بالكاد رأيناه يوم العرس. لقد جاء وكان معه من قريته أناس كثيرون، كما كان هناك كثيرون من أهل قريتنا. إلاّ أنّ الذين جاؤوا معه سألوه بالمناسبة عن سبب عدم اكتراثه بنا وقدومه لزيارتنا، وكان يجيب بعبارة واحد تكاد لا تتغيّر كلماتها والحركات الجسمانيّة التي تصاحبها: أبنائي كبروا جميعًا ونضجوا وهم ما عادوا في حاجة إليّ.خالي، في هذه الغضون، كان مَن يتولّى أمرنا وينفق عليّ أنا وإخوتي، خصوصًا أنّه تأخّر في الزواج ولم ينجب بحيث صرنا نحن بمثابة أولاد له. وبهدف تخفيف الأعباء عن أخيها، لم تُرد لي أمّي أن أكمل تعليمي في المدرسة. لقد أرادتني أن أذهب إلى العمل وأن أشارك باكرًا في إعالة العائلة.فحين كنت في العاشرة عهدت بي إلى المعلّم الذي أنشأ مدرسة في القرية حيث بقيتُ ثماني سنوات متوالية. ثمّ قالت على نحو صارم يكاد لا يقبل النقاش: «هذا يكفي. أنت بنت، ولا حاجة لك إلى العلم أكثر مّما تعلّمتِ». بكيت يومها وتدخّل خالي قائلاً إنّني إذا بقيت في المدرسة أصبح أقدر على شراء الطعام والملابس والأحذية. لكنّ ذلك لم ينفع بتاتًا مع أمّي الصارمة والحاسمة.المدرسة كانت مختلطة بين أفراد الجنسين، والجميع كانوا يُرسَلون إليها في السادسة من أعمارهم أو ما يقارب ذلك، الأمر الذي ينطبق على الشبّان والشابّات سواء بسواء. لكنّ الأولاد الأكثر فقرًا مثلي كان يتأخّر إرسالهم، هذا إذا أُرسلوا في الأصل. وأذكر أنّ الأستاذ في تلك المدرسة الرسميّة كان يطوف على بيوت القرية ليسأل أهلها إن كان لديهم أولاد، محاولاً إقناعهم بتسجيلهم في المدرسة، وأحيانًا كان يتوسّل إليهم كي يفعلوا ذلك. والأستاذ هذا كان هندوسيّ الديانة، لكنّه كان يؤكّد لنا دائمًا أنّنا كلّنا أخوة في الوطن لا تفرّقنا الأديان ولا أيّ اعتبار آخر. وبالفعل كنّا، في كلّ صباح، لا ندخل صفوفنا إلاّ بعد أن نصطفّ في الساحة ونتلو النشيد الوطنيّ بصوت واحد مرتفع.هناك أتممت المرحلة المتوسّطة، ثمّ بات عليّ الانتقال إلى مدرسة أخرى خارج القرية، وهذا يتطلّب مالاً لشراء الملابس وتأمين أكلاف الانتقال، ممّا هو غير متوافر لدينا، وهو ما قوّى حجّة أمّي عليّ وعلى خالي. لكنّني في تلك السنوات الثماني، تعلّمت قراءة التاميليّة وكتابتها وقليلاً من الإنكليزيّة، كما تعلّمت أوليّات الخياطة والصلاة التي يتعلّمها الجميع عندنا، كلٌّ بحسب دينه. وقد بات لي في المدرسة صديقات بنات حتّى أنّي كنت أحيانًا أستعير مشّاية واحدةٍ منهنّ وألبسها.في هذه الغضون تحسّن وضعنا قليلاً. أخي راجي إندرام ترك المدرسة وما لبث أن توجّه إلى العمل، وكذلك أختي إنترا التي لم تذهب أصلاً إلى المدرسة، فوجدتْ عملاً قبل أن تتزوّج. وفيما عُهد بيوسف، أخي الأصغر، إلى روضة أطفال حكوميّة مجّانيّة، راحت إنترا تشتري لنا ثيابًا وأكلاً أوفر ممّا كنّا نحظى به وأفضل.تُرّكت المدرسة ولي من العمر ثماني عشرة سنة. بقيت في البيت، أعمل في زرع الشاي ثمّ في تعبئته بأكياس النايلون في مشروع تملكه الدولة أقيم على مقربة من بيتنا. كنت يومذاك أحصّل من عملي شيئًا بسيطًا هو خرجيّتي، بينما كانت أمّي توفّر معظم حاجاتي التي تراها ضروريّة. هكذا أتاح لي الشغل التخفيف عنها قليلاً، فبات في وسعي، على الأقلّ، أن أؤمّن ثمن جواربي أو ثمن مجلّة أحبّ أن أرى فيها صور الممثّلين أو موديلات الثياب، وأن أقرأ كلمات الأغاني التي كانت تنشرها المجلاّت. أمّا القليل الذي كان يتبقّى معي فكنت أودعه قجّةً صغيرة. هكذا تمكّنتُ، بعد حين، ممّا في قجّتي وفي قجّة أخي، من شراء خزانة صغيرة للبيت. بعد ذاك صرت أضع النقود التي آخذها من أمّي، أو التي تتحصّل لي على نحو أو آخر، بين دفّتي مجلّة، وفي لحظات البيت الصعبة كنت أخرجها كي أشتري بها خبزًا لأفراد العائلة.شيء آخر طرأ على حياتي القليلة حينذاك. ففي قريتنا كانت هناك امرأة غنيّة تعيش وحدها في حيّ ناء ولا تُحسب من أهل القرية. كان عندها ثمانية أولاد كلّهم متعلّمون، وكلّهم يعيشون ويعملون في العاصمة كولومبو. كانت السيّدة تقيم وحدها مع زوجها المعوّق والمسنّ الذي لا يغادر غرفة نومه البتّة. لقد طلبت منّي أن أؤمّن لها يوميًّا ثلاثة غالونات ماء للشرب، وهو ما بدا بمثابة مشوار لي ولأختي إلى النبع، نتساير خلاله ونغنّي، على ما يفعل أولاد كثيرون، مموهين عن أنفسنا. فمنطقتنا ليس فيها مياه للشرب، والوصول إلى النبع تلزمه ساعة كاملة مشيًا، أمّا في الصيف فيغدو الأمر أسوأ إذ ينقطع الماء كليًّا ويجفّ النبع.