الإشعاع الطبي... جرعة مفرطة من الإيجابيات؟
بدأ كل شيء في عام 1895، حين اكتشف ويلهلم رونتغن الأشعة السينية. بعد ست سنوات على ذلك، فاز بجائزة «نوبل للفيزياء». في تلك الفترة، كان الأطباء قد بدأوا باستعمال الأشعة السينية الأولية لتشخيص الأمراض. استمر التعاون بين الأطباء وعلماء الفيزياء منذ ذلك الحين، ما ساهم في إحراز تقدم مدهش تجاوز أقصى طموحات رونتغن.
ساهمت تقنيات التصوير المعاصرة في إنقاذ حياة الكثيرين. لكن مثل جميع الأدوية والجراحات، تأتي هذه المنافع مقابل ثمن معين وتكون هذه الكلفة مادية وصحية أحياناً. في ما يخص التصوير، تشمل المشاكل المحتملة التشخيص الخاطئ والتشخيص المبالغ فيه الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى علاج مفرط أو غير ضروري. قد تنجم آثار جانبية أخرى عن الأشعة نفسها التي تُستعمَل لإنتاج أنواع عدة من الصور التشخيصية.يقول علماء الفيزياء إن الأشعة المؤيّنة تنتج الطاقة على شكل فوتونات تجمع ما يكفي من الجاذبية لإبعاد الإلكترونات عن نواة الذرات. نحن نتعرض بشكل مستمر لكميات ضئيلة من الإشعاعات المؤيّنة التي تنبثق من الأشعة الكونية والعناصر الإشعاعية الموجودة طبيعياً على كوكب الأرض. نحن نقبل بهذا الإشعاع «الضمني» من دون تردد، لكننا نخشى التعرض لجرعات كبيرة من الأشعة المؤيّنة نتيجة الحوادث النووية أو الأسلحة الذرية. كذلك، ركزت الأبحاث على الأضرار المحتملة للأشعة المستعملة في تقنيات التصوير التشخيصي.
يبقى السرطان أبرز مصدر قلق على الإطلاق. تؤذي الإشعاعات المؤيَّنة الحمض النووي في كل خلية تستهدفها. يمكن أن تصلح غالبية الخلايا الأضرار الخفيفة بنفسها. لكن إذا كان الضرر حاداً، قد يتهرب بعض الخلايا من الآليات الطبيعية التي تسيطر على انقسام الخلايا ونموها. تؤدي الضربات الخفيفة المتكررة إلى أضرار تراكمية. على سبيل المثال، يؤدي التعرض لواحد ميلي سيفرت سنوياً طوال 10 سنوات إلى تضرر الحمض النووي بالقدر الذي يحصل عند أخذ جرعة واحدة من 10 ميلي سيفرت. سواء حصل الضرر نتيجة جرعة كبيرة واحدة من الإشعاعات أو عدد من الجرعات الصغيرة، قد تتكاثر الخلايا بشكل عشوائي (ما يعني الإصابة بالسرطان).هذه الحالة ليست شائعة جداً ويجب ألا تخيفنا وتمنعنا من الاستفادة من المنافع الهائلة التي يقدمها التصوير التشخيصي. لكن يجب أن يتذكر المرضى والأطباء على حد سواء ضرورة استعمال هذه التقنيات المدهشة بشكل مسؤول وحذر.احتاج الأطباء لفترة من الزمن كي يدركوا أن الأشعة السينية تستطيع التسبب بالسرطان. في بداية القرن العشرين، أُصيب بعض العلماء بالسرطان نتيجة تجاربهم الرائدة مع الأشعة السينية. لكن حتى في منتصف القرن العشرين، عرض بعض متاجر الأحذية أجهزة أشعة تسمح للعملاء باستعمال الأشعة السينية لرؤية مدى تناسب أحذيتهم، وقد أُصيب بعض المرضى الذي تعرضوا للأشعة في منطقة الرأس والعنق لمعالجة مشاكل عابرة مثل حب الشباب وتضخم اللوزتين بسرطان الغدة الدرقية. تعلّم الأطباء ضرورة تقليص الآثار الجانبية للأشعة السينية العادية. لكن في القرن الواحد والعشرين، يبدو أن الكميات الإشعاعية الكبيرة التي تُستعمل للتصوير المقطعي تستلزم إعادة تقييم مخاطر التصوير التشخيصي ومنافعه.لِنلقِ نظرة على بعض تقنيات التصوير التي تعتمد على الإشعاعات المؤيَّنة.سيتم تشخيص سرطان البروستات عند 218 ألف رجل أميركي تقريباً هذه السنة. بما أن معظم الحالات يُرصَد عبر اختبار «المُستضدّ النوعي للبروستات»، من المتوقع أن تتماشى في معظمها مع معيار «المرض المنخفض الخطورة» (يكون المُستضدُّ النوعي للبروستات أقل من 10 نانوغرامات/ملليلتر ويبلغ مقياس غليسون معدل 6 أو أقل). تعتبر جمعية المسالك البولية الأميركية والكلية الأميركية للطب الإشعاعي وجماعات مختصة أخرى أن هؤلاء الرجال لا يحتاجون إلى دراسات عن تقنيات التصوير لأن عدداً قليلاً جداً من تلك الإصابات السرطانية تنتشر من البروستات إلى أنسجة مثل الغدد الليمفاوية أو العظام. رغم ذلك، أفادت دراستان في عام 2011 بأن 36% إلى 48% من الرجال المصابين بسرطان البروستات القليل الخطورة يخضعون لمسح العظام أو التصوير المقطعي أو التصوير بالرنين المغناطيسي من دون مبرر. الأشعة السينية حتى في عصر التصوير المقطعي والتصوير بالرنين المغناطيسي، تبقى الأشعة السينية العادية أداة مهمة لتشخيص المشاكل الطبية التي تتراوح بين الكسور والالتهاب الرئوي. يبث أنبوب ثابت الأشعة السينية عبر جسم المريض. تمنع الأنسجة السميكة، مثل العظام، الأشعة السينية من اختراق الجسم بينما تسمح الأنسجة الأقل سماكة، مثل العضلات والدهون، بمرورها إلى شريط وراء المريض. عند تطوير الشريط، تظهر الأنسجة السميكة باللون الأبيض بينما تكون الأنسجة الأقل سماكة باللون الأسود أو بمختلف درجات اللون الرمادي.ساهمت التقنيات الرقمية الجديدة التي تستعمل نسبة أقل من الإشعاعات في جعل الأشعة السينية أوضح وأكثر أماناً من أي وقت مضى. يمكن رؤية الأشعة السينية الرقمية وتخرينها إلكترونياً مع التخلص من الشريط الضخم، ويمكن أن يرسل الأطباء الصور إلى المعالجين في أي مكان من العالم فوراً. تقدم تقنيات المسح الجديدة هذه الإيجابيات نفسها. لكن لا تستطيع التكنولوجيا الرقمية تجاوز حدود الأشعة السينية: هي لا تستطيع إنتاج أي صور للأنسجة التي لا تكون سميكة. تبدو الرئتان السليمتان مثلاً سوداوتين بالكامل لأنهما مليئتان بالهواء. لكن إذا كانت الرئتان مليئتين بسائل مختلف (ما يشير إلى خلل في القلب) أو بالقيح (ما يشير إلى التهاب رئوي)، تبدو المنطقة غير الطبيعية بيضاء على الشريط أو الشاشة. من خلال استعمال المواد المتناقضة كظليل للأشعة، يمكن أن يحصل الأطباء على صور للأنسجة تسمح للأشعة السينية بإحداث اختراق مباشر: تشمل الأمثلة على ذلك تصوير الأوعية الدموية، واختبار ابتلاع الباريوم، والحقن الشرجية للقناة الهضمية، وتصوير الحويضة الوريدي للكلى والمسالك البولية (لكن ليس البروستات). صحيح أن هذه التقنيات تحسّن التشخيص والعلاجات، لكنها تبث إشعاعات مؤيّنة أكثر مما تفعل الأشعة السينية وحدها.التصوير بالرنين المغناطيسيبدل الاتكال على الأشعة، تستعمل تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الخصائص المغناطيسية الطبيعية في الجسم لإنتاج صور مفصلة عن أي عضو داخل الجسم. بما أن الهيدروجين يفيض في الجسم، لا سيما في الماء والدهون، يصبح الهدف. مثلما يحصل في كوكب الأرض، تدور نواة الهيدروجين (على شكل بروتون واحد) حول محورها. ومثل الأرض أيضاً، يتحرك كل بروتون من الهيدروجين مثل شريط مغناطيسي له قطب شمالي وآخر جنوبي. في الظروف الطبيعية، تصطف الأقطاب المغناطيسية عشوائياً ولا تنتج طاقة كافية لإنتاج الصور. لكن حين يصبح الجسم في حقل مغناطيسي قوي، يصطف «مغناطيس» البروتون على طول المحور مثلما تفعل أعداد كبيرة من إبر البوصلة المتوازية. إذا تعرضت البروتونات حينها لحملة قصيرة من الموجات الإذاعية العالية الدقة، سرعان ما تغير مسارها فوراً. بعد ذلك، خلال عملية عودتها إلى وجهتها الأصلية، تبث إشارة إذاعية قصيرة خاصة بها.للحصول على صورة بالرنين المغناطيسي، يضع خبير تقني المريض داخل أنبوب أسطواني طويل ينتج حقلاً مغناطيسياً قوياً ونبضات من الموجات الإذاعية. تطلق بروتونات الهيدروجين في الأنسجة أشكالاً من الصدى وتبث إشارات إذاعية تلتقطها المجسّات ويعالجها الحاسوب ويحوّلها إلى صور مفصّلة. من خلال تحويل سلسلة النبضات، يمكن أن يستعمل الأطباء تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي للحصول على صور للأنسجة في جميع أجزاء الجسم. ومن خلال استعمال عنصر نقيض (غادولينيوم)، يمكن أن يحسّن الأطباء نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي.رغم ذلك، ينجح بعض الأعضاء في إخفاء أسراره عن هذه التقنية. ينطبق هذا الأمر على البروستات مثلاً، لكن قد يتغير هذا الوضع (وقد لا يتغير) بفضل لفائف جديدة تُستعمل خلال التصوير بالرنين المغناطيسي حيث يوضع مولّد النبضات في المستقيم وراء البروستات مباشرةً.يبدو التصوير بالرنين المغناطيسي مخيفاً ولكنه يبقى آمناً بالنسبة إلى جميع أنسجة الجسم بما أنه لا يستعمل الأشعة. لكن يحصل بعض الفحوصات بالرنين المغناطيسي عبر عناصر متناقضة تسبب أحياناً ردود فعل معاكسة. وحتى من دون حقن أي مواد متناقضة، يرتعب بعض المرضى من فكرة التصوير بالرنين المغناطيسي وقد يُصابون بنوبة هلع حين يتواجدون وحدهم في تلك الغرفة ويدخلون في أنبوب ضيق ومزعج لفترة تصل إلى 30 دقيقة. يمكن أن تساعدهم المهدئات على تجاوز تلك التجربة وتوفر الماسحات المفتوحة الجديدة راحة أكبر (مع أنها تبقى أقل دقة). لا يستطيع المرضى الذين يملكون قطعاً معدنية في أجسامهم (مثل أجهزة ضبط نبضات القلب، والأذن الداخلية المزروعة، والمشابك عند تمدد الأوعية الدموية في الدماغ، وبعض الأطراف الاصطناعية، والشظايا) استعمال تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي (لكنهم يستطيعون الخضوع للتصوير المقطعي). على صعيد آخر، من المعروف أن تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي مكلفة جداً.