وداعاً... أسمهان ابنة البحر (1-2)

نشر في 04-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 04-08-2013 | 00:02
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على الرغم من ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
قائمة أكثر الحوادث غموضاً في مصر طويلة... وغريبة.. وكثيراً ما تؤلم الضمير! ولعل مصرع المطربة أسمهان يأتي في مقدمة هذه الحوادث التي تحولت إلى ألغاز ما زالت تبحث عمن يفك شفرتها ولو من باب ردّ الاعتبار لمن ماتوا.

لا شك في أن أسمهان كانت في قمة توهجها وذروة شهرتها يوم فارقت الحياة في حادث نجا فيه شخص واحد. ما زال هارباً حتى الآن لو كان على قيد الحياة! ولا شك في أنها، بعدما أضحت نجمة تتبعها الأضواء، صار لها خصوم من أصحاب المقام العالي والنفوذ المرعب والقدرة على الانتقام، لا سيما عندما تكون من بينهم الملكة نازلي ملكة مصر... وما أدراك ما نازلي! الغريب أن الصراع بين الملكة والمطربة كان على رجل.

من بين خصومها، أيضاً، زوجها الثالث الذي حاول أن يطلق عليها الرصاص قبل الحادث بفترة وجيزة..أما الخصم الثالث فكان أشد ضراوة، المخابرات البريطانية التي كانت أسمهان تتباهى بأنها تعمل معها... ولحسابها.

لكن قبل أن نصل إلى الحادث الذي وقع في ظروف مريبة، علينا رسم صورة كلامية فوق هذه السطور لبطلته، فهي امرأة عاشت فوق القمة حيناً وهي أميرة زوجة أمير في جبل الدروز في سورية... وعاشت في القاع حيناً آخر بعدما رحلت مع أسرتها إلى مصر، حيث عاشوا في حارة في حي الفجالة في القاهرة... فقر مدقع ونوم بلا عشاء في أوقات كثيرة... إنها سيدة التناقضات التي ذاقت الفقر وظلت تخشى العودة إليه حتى وفاتها، ثم عاشت ترفاً في نعيم الثراء وأنفقت ببذخ.

التناقضات كانت عنواناً كبيراً لحياتها، فهي تشرب الخمر حتى تفقد الوعي وتزور الأولياء وتعطف على الفقراء. تسهر فتملأ المكان بهجة وسعادة وتدوي ضحكاتها كأنها بلبل يصرخ فوق أغصان الصباح. وإذا خلت بنفسها تبكي وتشكو الحزن الذي يعتصر قلبها... تكذب وتكره الكذابين... سرعان ما تتزوج وسرعان ما تطلب الطلاق.

أخطر ما في حياتها يوم دخل بيت الأسرة الفلكي الشهير باسم الأسيوطي، وأبلغها أنها ستموت في حادث بالماء. حاولت الأسرة أن تقنعها بأن الغيب لا يعلمه إلا الله... وكذب المنجمون ولو صدفوا، لكنها ظلت طوال عمرها تعاني عقدة الموت في حادث.. وفي سن مبكرة! ولذا حاولت أن تفوز بمتع الحياة بأقصى سرعة!.

إنها المطربة الكبيرة التي هددت عرش أم كلثوم، كما أشيع آنذاك، ومع ذلك كانت أسمهان تكره اسمها وتغضب إذا ناداها به أحد المقربين منها. كانت تحب اسمها الحقيقي المكتوب في شهادة الميلاد... آمال... أو اسم الدلع إيميلي.

بحرية

 

قبل أن تخرج إلى الحياة بساعات، كانت أسمهان تتحرك داخل أحشاء أمها السيدة علياء المنذر زوجة فهد الأطرش، وكانت الأم تتحرك أيضاً جيئة وذهاباً داخل حجرتها في الباخرة التي تتجه فوق مياه البحر إلى بيروت. آلام المخاض تشتد على الأم... صرخات مكتومة وتوجعات مسموعة شعرت بها النساء القريبات منها على متن الباخرة... تسرع النساء لمساعدة جارتهن حتى ينزل الجنين، فتصيح إحدى النساء: {بنت... زي القمر!}. وتصيح أخرى: {على أمها أن تسميها بحرية}.

على رغم الآلام تبتسم الأم ولا تفوت الفرصة وتهمس لمن حولها: “اسمها آمال”. لم يكن اختيار الأم لاسم آمال عشوائياً، بل من واقع الأحداث المريرة التي تمر بالأسرة منذ فصلت السلطات التركية الأب من عمله وناصبته العداء، فهرب بزوجته وأولاده إلى لبنان عبر هذه الباخرة... وكانت الأم تعقد الآمال على المستقبل الذي ينتظرهم في بيروت... لذا منحت مولودتها اسم آمال.

وصلت الأسرة إلى لبنان ومنها إلى سورية، حيث موطن عائلة الأطرش، أكبر عائلات جبل الدروز التي يتزعمها سلطان باشا الأطرش المعروف بعدائه للاحتلال الفرنسي. عاشت السيدة علياء المنذر مع زوجها فهد وأولادها فؤاد وفريد وآمال أوضاعاً صعبة بسبب الظروف السياسية. وبينما كانت آمال آخر العنقود أنجبت علياء طفلين آخريين هما أنور ووداد. لكن تنفجر الثورة السورية الكبرى في وجه الفرنسيين ويلقى فهد الأطرش مصرعه، وتهرب الأم بأولادها إلى الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة، حيث تستقر في إحدى حواري الفجالة، وتضطر الأم إلى مواجهة الفقر المدقع بالعمل كخياطة ثم العمل في الأديرة، لكنها تعجز عن علاج طفليها أنور ووداد فيتوفان واحداً بعد الآخر.

يرق قلب مليونير أميركي على العائلة الفقيرة ويقدم مساعدة شهرية قدرها مائة دولار تنفق منها الأسرة، ويعمل فريد على {تريسكل}في أحد المخابز ويلتحق فؤاد بوظيفة {تمورجي} بعيادة أحد الأطباء.

مع الأيام تعبر الأسرة من تحت خط الفقر حتى تصل إلى مستوى الفقراء العاديين، وتدخر قدر ما تستطيع لتنفق على آمال في المدرسة الإنكليزية التي التحقت بها؟... أيام لا تنساها آمال... شعارها الكبير هو الحرمان.

لكن يبدو أن الحياة بدأت تبتسم رويداً، رويداً، بعدما درس فريد الموسيقى، واكتشف كبار الملحنين حلاوة صوته وموهبته الفنية الفذة فقدموه إلى الإذاعة كمطرب، وتبناه الملحن الكبير داوود حسني. وفي أحد الأيام بينما كان يزوره في بيت الأسرة، سمع بالصدفة صوت فتاة تغني داخل حجرتها فسأل عنها، واندهش عندما عرف أن صاحبة هذا الصوت الجميل هي شقيقة فريد الصغرى... فلم يتردد في تبنيها بعدما خاضت معه اختبارات في الجلسة نفسها... ثم همس للأسرة:

* ابنتكم ستكون نجمة كبيرة... سوف أقدمها للجماهير باسم أسمهان بدلاً من آمال... أصارحكم بأنني كنت أدرب فتاة بنفس حلاوة صوت آمال، وأعدّها لتكون قنبلة فنية تسحب البساط من تحت أقدام المطربات... وكان اسمها أسمهان.. لكنها ماتت قبل أن يسمعها الجمهور... وهذه فرصة عظيمة لتظهر آمال بالاسم نفسه... أسمهان.

كانت آمال ابنة الخمسة عشر عاماً تنصت باهتمام إلى الملحن الكبير. كل ما يقوله أعجبها، باستثناء اسم أسمهان. إنه فأل غير حسن من وجهة نظرها... كيف تظهر باسم فتاة ميتة وهي التي تعشق الحياة، وتكره الموت، والفقر؟

لم تجرؤ آمال على الاعتراض، نظراً إلى الوعد الذي قدمه لها الملحن الكبير. وبالفعل بدأت تظهر في الحفلات البسيطة وبعض المحلات والملاهي كمطربة ناشئة، تميزت بفستانها الأسود لتتألق من خلاله بشرتها البيضاء بلون الحليب.

ذات يوم عاد فريد إلى أسرته سعيداً وبرفقته الفلكي الشهير الأسيوطي الذي اشتهر في الوسط الفني بنبوءاته من خلال قراءة الكف... لكنه ما إن أمسك بيد أسمهان ونظر في كفها، حتى همس قائلاً:

* يوجد في يدك خطان للحياة، أحدهما يتوازى مع الثاني... والآخر يقطعه في أكثر من نقطة، ومعنى ذلك أنك ستكونين ضحية حادث وستنتهين في الماء!

انقبض قلب المطربة الصاعدة، الموت مرة أخرى، وفي الماء مثلما ولدتها أمها في الماء.. واسمها مستعار من اسم فتاة ماتت صغيرة... لذا كرهت اسمها كرهها للموت... والفقر.

الأميرة آمال

اشتهرت أسمهان بسرعة، وأشاد بها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وقال عنها إنها فتاة صغيرة، لكنها تمتلك صوت امرأة ناضجة... وانطلقت لتغني في الأوبرا والحفلات الكبيرة وارتفع أجرها... لكن حدث ما لم تتوقعه!

فوجئت الأسرة بزيارة الأمير حسن الأطرش... جاء خصيصاً من جبل الدروز ليمنع فضيحة غناء ابنة عمه أمام الرجال والسكارى. كان ثائراً لأن زوجة عمه علياء المنذر سمحت لابنتها بالعمل في الوسط الفني... لكن ما إن خرجت أسمهان من حجرتها ثائرة هي الأخرى لتدخله في شؤون أسرتها حتى وقع الأمير حسن في غرامها، ولاحظ أنه أمام أجمل بنات العائلة... كلما ناقشها اكتشف فيها موطناً جديداً من مواطن الجمال.

وفي نهاية الزيارة التي استغرقت بضعة أيام طلب يد ابنة عمه آمال... اعترضت الأم بشدة، لكن أمام إغراءات الأمير حسن رضخت أخيراً.. خمسمائة جنيه من الذهب الخالص مهراً... وبالفعل تم الزواج وسافرت أسمهان مع عريسها إلى جبل الدروز، حيث أقيمت الولائم وذبحت الذبائح وسهرت القبائل والعشائر احتفالاً بعروس حسن الأطرش أميرهم المحبوب...

هناك اكتسبت آمال لقب أميرة ونسيت اسم أسمهان تماماً.. وجرت الأموال تحت قدميها.. وتفرغت لزوجها وأنجبت ابنتها الوحيدة كامليا... وفي القاهرة ارتفعت شعبية فريد الأطرش وانتعشت أحوال الأسرة مادياً، وانتقلت إلى فيللا رائعة بغاردن سيتي.

لم تحتمل الأميرة آمال الحياة الزوجية غير ست سنوات. غلبها الحنين إلى مصر والغناء وحياة الحرية... افتعلت المشاكل مع زوجها حتى حصلت على الطلاق.

 

غرام الكبار

عادت إلى القاهرة ، وكأنها كانت على موعد مع الحظ...

وجدت طريق المجد مفروشاً أمامها بالورود، تسابق إليها كبار الباشاوات في مقدمهم طلعت حرب... غنت في القصور فارتفع أجرها إلى أرقام خيالية... أحبها الكبار من رجال الصف الأول في المجتمع. لكنها كانت تتلذذ بعذابهم في هواها، فهي الفائز الوحيد في صراعهم عليها. وحده الموسيقار محمد عبد الوهاب كان يمكن أن يفوز برضاها، لكنها رفضت غرامه وقالت: {إنه فنان كبير... لكنه لا يملأ عين امرأة كرجل!}...

أراد عبد الوهاب أن ينتقم منها من دون أن يخسر صداقتها فتعمد أن يعرفها إلى الصحافي الكبير محمد التابعي، لقناعته بأن التابعي هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يكسر أنف هذه المرأة المتعجرفة. أراد عبد الوهاب أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يعرف أن التابعي متعجرف هو الآخر، وأن أسمهان هي المرأة الوحيدة التي يمكنها أن تكسر أنفه... وقد صارحهما عبد الوهاب بذلك في ما بعد فأجابه الاثنان في صوت واحد:

* إحنا الاثنان كسرنا أنف بعض.

لم يعد حب أسمهان للتابعي خافياً على أحد، ولم ينكر التابعي أنها ملأت حياته... وجدت فيه الإنسان الذي تأتمنه على أسرارها وتستريح على صدره ويوفر لها الحماية وينفعها بعلاقاته الواسعة والخطيرة باعتباره أكبر صحافي عربي... وهو وجد فيها المرأة التي تغنيه عن كل نساء العالم... مجنونة الطباع، لكن لا يمكن الاستغناء عنها... السؤال الذي يطرح نفسه إذاً: لماذا لم يفكر التابعي في الزواج من أسمهان؟!

المؤكد أنهما كانا يحبان بعضهما البعض بجنون، ولطالما تألم التابعي من إدمان حبيبته على السهر، حتى وصل الأمر إلى علاقات كانت تظهر بين أسمهان ورجال القصر... ومنهم صاحب السطوة الكبرى أحمد حسنين باشا، بالإضافة إلى مراد محسن باشا مدير الخاصة الملكية، لكن أسمهان حاولت كثيراً إقناع التابعي بأنه وحده في القلب... هؤلاء الكبار هم تسليتها الوحيدة.

 ربما كانت صادقة... لكن التابعي لم يصدقها بسهولة، خصوصاً أنها كذبت عليه أكثر من مرة. وفي كذبتها الأخيرة ليلة عيد ميلادها سببت له إحراجاً لا مثيل له أمام الرأي العام المصري والعربي...

أرسل إليها برقية تهنئة في عيد ميلادها، فاتصلت به تخبره أن الحفلة حضرها كبار المسؤولين في الدولة... ونشر التابعي في “آخر ساعة” خبراً عن عيد ميلاد أسمهان وفي متن الخبر أسماء الكبار الذين حضروا الحفلة ومن بينهم عبد السلام باشا الشاذلي معالي وزير الأوقاف! وما إن صدرت المجلة حتى قامت الدنيا ولم تقعد... توالت التكذيبات على التابعي...ونفى أصحاب الأسماء الكبيرة أنهم حضروا الحفلة، لا سيما وزير الأوقاف صاحب المكانة الدينية الرفيعة واللحية الطويلة والمسبحة التي لا تفارق يده، فكيف يحضر حفلة تدور فيها الكؤوس وترقص النساء!... كانت فضيحة كبرى لمجلة {آخر ساعة}... فقرر على أثرها محمد التابعي قطع علاقته بأسمهان.

(البقية في العدد القادم)

back to top