ثورة رجل غير سياسي... الناشر التركي جان أوز

نشر في 30-06-2013 | 00:02
آخر تحديث 30-06-2013 | 00:02
No Image Caption
طوال سنوات، التزم جان أوز بنصيحة والده الذي دعاه إلى البقاء خارج عالم السياسة. لكن يبدو أن الاضطرابات السائدة في تركيا دفعت بهذا الناشر البارز إلى وسط المعمعة وجعلته يشترك في هذه المعركة، فأصبح صوتاً أساسياً في التحرك المستمر. {شبيغل} تابعت تحرك الناشر.
في 31 مايو، تقابل الناشر التركي جان أوز مع شريكين موثوقَين له: رئيس التحرير في دار النشر التي يملكها ومدير التسويق. أراد إبلاغهما بقرار اتخذه.

على بُعد مسافة قصيرة من ذلك اللقاء، في ميدان تقسيم في اسطنبول، كان الناس يعتصمون منذ أيام ضد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. لم يستطع أوز النوم، فقد نزل إلى الشوارع مع المتظاهرين الآخرين عندما أحضرت الشرطة خراطيم المياه ورشّت الغاز المسيّل للدموع وضربت المواطنين.

لكنه كان متحمساً جداً: {التزمتُ الصمت لفترة طويلة. لكن انتهى ذلك الآن}. كان الناس في تركيا يحتجّون ويطالبون بحقوقهم. أخبر أوز زميليه بأنه سيطلق تصريحاً في فترة بعد الظهر من ذلك اليوم، لكنهما شعرا بالقلق وحذّراه من القيام بذلك خوفاً من أن تنتقم منه الحكومة وتغلق دار النشر.

جان أوز صديق لي. عرفتُه منذ كنت أدرس في اسطنبول. يبلغ 32 عاماً، أي أنه أكبر مني ببضع سنوات، لكنه يرأس دار نشر أدبية مهمة (Can Yayinlari) منذ ست سنوات. ينشر أعمالاً مترجمة إلى اللغة التركية لمؤلفين من أمثال أومبرتو إيكو ودانيال كيلمان وجاين أوستن.

خلال محادثاته مع أصدقائه، لطالما انتقد سياسات حكومة أردوغان ولكنه لم يعبّر يوماً عن آرائه علناً خوفاً على مصير عائلته وشركته. فقد أقدمت إدارة أردوغان على اعتقال مفكرين وصحافيين كانوا ينتقدونها. فتوقف أوز عن التحدث على الهاتف خوفاً من التنصت على مكالماته.

كسر حاجز الصمت

جاءت الانتفاضة في تركيا لتغيّر ذلك الوضع كله. في البداية، دعم أوز المتظاهرين على موقع {تويتر} فكتب أن المحتشدين لديهم كل الحق في الاحتجاج. ثم شرح في افتتاحية نُشرت في 11 يونيو في صحيفة {ذي غارديان} البريطانية السبب الذي جعله غير مستعد لتحمّل استبداد أردوغان بعد الآن: {لا أخشى أن أخسر شركتي وثروتي أو حتى حريتي في حال تم اعتقالي أو إدانتي. لكني لم أعد أستطيع تحمّل العيش من دون كرامة}.

كان أوز يرتدي قميص {بولو} ويضع نظارات من دون إطار ولم يكن قد حلق لحيته منذ ثلاثة أيام.  يصف رئيس الحكومة أردوغان المتظاهرين من أمثال أوز بـ{الإرهابيين}.

كان النقل مباشراً من ميدان تقسيم على حاسوبين في شقته الواقعة في مبنى تاريخي في حي بيوغلو في اسطنبول. منذ تحدث علناً عن الثورة، تلقى رسائل كره وتهديد عبر بريده الإلكتروني فضلاً عن رسائل دعم. يحتفظ بأقنعة واقية من الغازات وخوذات بناء في خزانته.

بعض المتظاهرين بعمر أوز أو أصغر منه. يشارك معظمهم للمرة الأولى في تحرك احتجاجي. كان أهاليهم قد اختبروا الاضطرابات خلال الستينيات والثمانينيات، حين انتفض الأكراد والشيوعيون وتقاتلت الجماعات المتطرفة في الشوارع. فتدخل الجيش حينها وأطاح بالحكومة في عام 1980 وأمر بإعدام عدد من الأشخاص.

اختبر أهل أوز ذلك الانقلاب أيضاً. نشأت والدته سامية ضمن عائلة من الطبقة الراقية في اسطنبول. وشمل أسلافها وزير خارجية ومؤسس فريق كرة القدم {غالاتا سراي}. في شبابها، قصدت أنقرة حيث قابلت إردال أوز، كاتب من الأناضول، خلال السبعينبات. كان والد جان ينتقد النظام العسكري في كتاباته ويقتبس كلام ماركس ولينين وسارتر. في عام 1971، تم اعتقاله وتعرض في السجن للتعذيب وسوء المعاملة. يعلّق أوز على جدار مكتبه اليوم نشرة إعلانية من تلك الحقبة. أفصح والده عن طريقة معاملته في السجن لعائلته قبل سنوات قليلة من وفاته، في عام 2006. فنصح ابنه بالبقاء خارج معترك السياسة.

انقسام حاد واحتجاجات

اندثرت ذكريات الفوضى والوحشية التي طبعت الصراع السياسي من ذاكرة تركيا الجماعية. فقد اعتُبر الجيل الذي وُلد بعد عام 1980 غير سياسي. يقول أوز: {نشأنا ونحن ندرك أن السياسة عالم خطير. كنا مقتنعين بأننا لا نستطيع تغيير شيء مهما فعلنا وأن الابتعاد عن السياسة هو أفضل حل. لكنّ حركة الاحتجاج في حديقة {جيزي} غيرت الوضع}.

فيما كان أوز يقطع المسافة القصيرة من شقته إلى مكتبه عبر شارع جانبي من حي بيوغلو، قابل ضباط شرطة وهم يرتدون زي مكافحة الشغب. كانت المروحيات تحوم فوق المدينة وكانت رائحة الغاز المسيّل للدموع تفوح في الهواء. كان أوز ذاهباً لمقابلة أمه. أرادت سامية أوز التحدث مع ابنها عن الاضطرابات الحاصلة. كانت قد استضافت نحو 24 متظاهراً في شقتها في الليلة السابقة.

تعكس حركة الاحتجاج في حديقة {جيزي} ولادة ثقافة احتجاجية جديدة في تركيا بحسب رأي أوز الذي قال لوالدته: {الأمر لا يشبه ما حصل خلال السبعينات يا أمي، لأن الجماعات العدائية لا تتقاتل هذه المرة. بل إن المجتمع المدني الشاب بدأ يرفع صوته. تظاهر محبو نادي {بشكتاش} إلى جانب المتحولين جنسياً وضد المسلمين المعادين للرأسمالية. الأمر أشبه بعيش حلم حقيقي}.

غالباً ما يُعتبر الخط الفاصل بين السياسة التركية والمجتمع أشبه بالتناقض القائم بين النخبة العسكرية العلمانية (مناصرو أتاتورك) والمسلمين المحافظين الحيويين. طوال عقود، كانت الطبقة العلمانية تقمع المتديّنين في تركيا. عبّر أردوغان الذي أصبح رئيس الحكومة في عام 2003 عن تلك الاختلافات في خطاباته. فقال إننا نحن الأتراك {الحقيقيون} مقموعون بينما هم الظالمون، أي الجنرالات ومناصرو أتاتورك. تعب أتراك كثيرون من الانقسام الحاد لأنهم لم يجدوا لأنفسهم مكاناً في ظل بيئة مماثلة. لا يمكن أن يصوّت أوز مثلاً لصالح حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان. لكن كان الجنرالات، أي الأشخاص الذين ادّعوا أنهم ورثة أتاتورك، هم الذين اعتقلوا والده وعذبوه. يواجه معظم الأتراك الشباب الموقف نفسه. يعارض المتظاهرون في حديقة {جيزي} أردوغان ولكنهم يطلقون صيحات الاستهجان أيضاً أمام كل سياسي معارِض يحاول خطف تحرّكهم.

مشكلة ذاتية الصنع

تتابع الطبقة الوسطى الشابة في المدن النزول إلى شوارع اسطنبول وأنقرة وعدد آخر من المدن التركية الكبرى. يشترون الثياب من متاجر {زارا} ويستفيدون من خصومات الخطوط الجوية للسفر إلى لندن وتمضية العطلة. هم مثقفون وغير إيديولوجيين. الأهم من ذلك وجود عدد كبير منهم. تشمل اسطنبول وحدها 13 مليون نسمة.

ساهم أردوغان جزئياً في إنشاء جيل {جيزي} بنفسه. يدرس عدد من المتظاهرين الذين يحتجون ضده الآن في جامعات طوّرتها الحكومة أو يعملون في شركات نشأت خلال حقبة الازدهار الاقتصادي في السنوات الأخيرة. يستفيد أوز أيضاً لأن عدداً متزايداً من الأتراك اليوم باتوا يملكون المال الكافي لشراء الكتب على عكس الوضع القائم منذ عشر سنوات.

أراد أردوغان تحقيق هذا التطور، لكنه يرفض تقبّل تنامي حاجة المواطنين الأتراك إلى الاستقلالية. على عكس الأجيال السابقة، يريد المتظاهرون أن يكسب الناس حرية التعبير عن رؤيتهم العالمية الخاصة. يظن أوز أن حركة المقاومة أصبحت موحدة في المعركة على حديقة {جيزي} التي أرادت الحكومة جرفها وتطويرها لأن الأشجار لا يمكن تسييسها.

المزاج العام يزداد عدائية

إنه يوم الأحد، 16 يونيو، بعد ثلاثة أسابيع على بدء الاحتجاجات. نزل آلاف المواطنين مجدداً إلى الشوارع. أغلقت الشرطة ميدان تقسيم في اسطنبول. حاول المتظاهرون الوصول إلى الميدان عبر شوارع فرعية. لكن راحت قوى الأمن تطلق الغاز المسيّل للدموع، فتعثر الناس وفقدوا بصرهم في الأزقة. حين سقط رجل في الشارع، بدأ رجال الشرطة يضربونه.

كان أوز يشاهد خطاب أردوغان أمام مئات آلاف المناصرين في اسطنبول على شاشة التلفاز في منزله، إلى جانب حبيبته، الممثلة سلمى أرجيش. فسأل أردوغان: {يا اسطنبول، هل نحن موحّدون؟}.

نشأت أرجيش في ألمانيا. والدها تركي ووالدتها ألمانية. أقامت في أكسفورد لفترة ثم انتقلت إلى اسطنبول منذ عشر سنوات، وتؤدي أحد الأدوار الرئيسة في مسلسل {القرن العظيم} التاريخي الذي يرتكز على حياة السلطان سليمان القانوني، وهو يُعرض في أكثر من 45 بلداً كل أسبوع. على رغم شعبية المسلسل، هددت الحكومة بمنع عرضه لأن أردوغان شعر بأن العمل يشوّه صورة السلطان.

تعتبر أرجيش أن المزاج العام في البلد يزداد عدائية مع كل خطاب يلقيه أردوغان. حين بدأت الاحتجاجات في ميدان تقسيم، نزلت الممثلة إلى الشارع بدورها. لكنها أصبحت أكثر حذراً الآن خوفاً من أن تصبح هدفاً للاعتداءات كونها شخصية مشهورة. اتخذ أحد زملائها الممثلين موقفاً حاداً ضد أردوغان، فتلقى تهديدات بالقتل ولم يغادر منزله طوال أيام.

تُعتبر الأحداث الراهنة أول اختبار جدي يواجهه أوز في حياته. في عام 2005، كان قد عاد لتوه إلى اسطنبول من بوسطن حيث درس علم الاجتماع، لكن أُصيب والده بسرطان الرئة في تلك المرحلة. كان إردال أوز ناشراً لامعاً وكان الكتّاب الذين تعاملوا معه يكنّون له فائق الاحترام. أسس دار النشر في اسطنبول خلال الثمانينيات، بعد نهاية الانقلاب العسكري، واكتشف عدداً من الكتّاب الشباب والموهوبين خلال العقدين اللاحقين. تولى أيضاً نشر كتب أورهان باموك الذي فاز لاحقاً بجائزة نوبل في الأدب. لكنه لم يهتم كثيراً بالجانب المالي من عمله وكان يبرم عقوداً شفهية مع بعض الكتّاب.

حين استلم جان أوز شركة والده، عمد إلى تنظيم العمل في الشركة التي افتتحت فجأةً قسماً للمحاسبة. حتى إن أوز عيّن مستشاراً إدارياً ليحضّر له تقارير أسبوعية. سافر أوز إلى معارض كتب في الخارج وعزز علاقاته مع الناشرين مثل دار “سوركامب” في ألمانيا ودار {بنغوين} في بريطانيا العظمى.

يقول أوز إنه مستعد لمواجهة التدابير التي يمكن أن تتخذها الحكومة ضده. شاهد ما حصل لزملائه الناشرين مثل أيدن دوغان، صاحب صحيفة {حريت} التركية التي تنتقد الحكومة. كاد ينتهي أمر دوغان بسبب نزاع ضريبي في عام 2009.

يوضح أوز: {يدمرون مصداقية الناس، ينشرون الأكاذيب في صحفهم ومحطاتهم التلفزيونية ويدّعون أننا مجرمون أو سكّيرون، ثم يستهدفون شركاتنا ويفرضون غرامات غريبة ويطالبون العملاء بمقاطعة شركاتنا}.

يؤكد أوز على أنه مستعد لدفع هذا الثمن. يملك صندوقاً للحالات الطارئة وقد أنشأه في حال بدأ عمله يتدهور. في أسوأ الأحوال، يقول إنه قد يدخل السجن بدوره.

تحرك يفتقر إلى التوجيه

عشية يوم 18 يونيو، اجتمع مئات المتظاهرين في حديقة {جيهانغير}، بالقرب من ميدان تقسيم. الآن وقد تم إخلاء حديقة {جيزي}، يجتمع المواطنون بشكل دائم لعقد {منتديات مفتوحة}في أماكن مختلفة من اسطنبول. يجلسون معاً ويناقشون مسائل عدة ويتعارفون.

كان المنتدى قد بدأ حين وصل أوز إلى الحديقة. تتعلق المسألة الأساسية في الوقت الراهن بتحديد طريقة تطور الثورة. لا يتصور معظم المتظاهرين أنهم يستطيعون دعم أحد الأحزاب القائمة لكنّ إنشاء حزب جديد هو أمر صعب. من سيموّله؟ وما ستكون أجندته عدا رفض أردوغان؟ اقترحت امرأة شابة أن يبدأ الناشطون بالمشاركة في المشاريع المحلية حصراً، مثل الحفاظ على المباني التاريخية.

اعتبر جان أوز أن الوقت لا يزال مبكراً لتحديد وجهة التحرك: «تعلّمتُ أننا غير محكومين بالرضوخ والتزام الصمت». ثم أضاف أن الناس قد يقومون قريباً بتأليف الكتب وصنع الأفلام عن ثورة «جيزي».

يقول أوز إن ظاهرة ترسيخ الديمقراطية في تركيا قد بدأت لتوها.

back to top