لا معاطف {برادا} في فندق الثلج النرويجي
كانت الساعة قد قاربت العاشرة ليلاً يوم الجمعة. خيّم سكون غريب على الفندق المؤلف من 24 غرفة، الذي نزلت فيه في مقاطعة فينمارك شمال النرويج. فقد غاب عن المكان رنين أبواب المصاعد المنزلقة، ضجيج المدينة الخافت، والضحكات المتسربة من حانة الفندق. وبينما تمددت في كيس نومي الأخضر، ما كنت أسمع إلا صوت نفسي المنطلق في الهواء البارد في غرفتي الجليدية.
على غرار الفنادق النرويجية الجيدة كافة، يتولى تقديم المشروبات شاب رشيق يطيل لحيته ويعتمر قبعة صوفية. لكن الاختلاف الوحيد أن الفندق يقع على خط عرض 70 درجةً شمالاً على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الروسية-النرويجية. وقد نُحت المشرب من كتل كبيرة من الجليد. وعند طرفه انتصب تمثال كبير من الجليد على شكل «ترول»، ما يذّكر بالقصص الخرافية النرويجية.في مستهل المساء، وصلتُ برفقة 20 نزيلاً إلى الفندق، ورحنا نتلفت حولنا ونظراتنا فيها مزيج من الحماسة والقلق. في الوقت المناسب، قدّم النادل للجميع عصير الكروبيري في أكواب زجاجية مثلجة.
فشربناه دفعة واحدة كما لو أننا نرحب بالليل المقبل علينا، وتعزز في نفوسنا روح الفريق، روح «أننا نستطيع القيام بما نريد»، أكثر مما أدخل إليها الراحة مع انتهاء أسبوع عمل، تلك الراحة التي تلحظها في وجوه الناس في أوسلو العادية.لا شك في أن الحشد كان سيبدو غريباً لو لم يكن مجتمعاً في ردهة فندق الثلج (Snow Hotel) في كيركنز. بُني الفندق من ثلج اصطناعي أعدّ من المياه الباردة الصافية في البحيرة المجاورة. ومن أهم معالمه حانته المصنوعة من جليد صلب وتمثال عملاق لبابا نويل في الردهة.يشبه الفندق المضاء بأنوار زاهية الألوان بيتاً ضخماً من بيوت شعب الإسكيمو. وقد ارتدى النزلاء قبعات ثلج كبيرة، قفازات مصنوعة من جلد الغزال، ومعاطف سميكة. فمَن يأبه هنا بآخر صيحات برادا. بدا الفندق مقرّاً لمجموعة من الإرهابيين المتوترين أكثر منه فندقاً فاخراً للشجعان. وبدت المديرة آن كويفيستو أشبه بمسؤولة قسم منامة أكثر منها مستشارة في مخيم، فيما راحت تقدّم النصائح والمساعدة للنزلات. وختمت قائلةً وهي تضحك: «ستُلاحظون أمراً إضافيّاً في كل غرفة، البرد بالتأكيد. ولكن لا تقلقوا. ستحصلون على كيس نوم دافئ جدّاً سيكون أداة نجاتكم!».انتقلنا بكل هدوء لتفقّد مقرات المنامة. كانت جدران الردهة زاخرة بمنحوتات حيوانات الترول الراقصة، التي عكست برقة الأنوار المتوهجة خلال تبدلها من الأرجواني إلى الوردي فالأزرق وسط الصمت القطبي.قصة خرافيةيُعاد تشييد الفندق كل سنة في شهر نوفمبر. عندما يتخطى الثلج المتراكم التسعة عشر متراً مكعباً، توضع بالونات ضخمة في موقع الفندق وتُنفخ إلى أن يعادل حجمها حجم الغرف. ويُنفخ حولها نحو متر ونصف المتر من الثلج ويُترك ليتصلّب مدة خمس ساعات. تُفرغ البالونات من الهواء بعد ذلك، فتتشكّل غرف الفندق كاملةً من دون الحاجة إلى أي دعامة إضافية.لإعداد المشرب والمنحوتات، تُقطع 15 طنّاً من الجليد من البحيرة بواسطة مناشير كهربائية، وتُجرّ بواسطة مركبات الثلج إلى موقع البناء. فيأتي ثمانية حرفيين من شمال شرق الصين لينحتوا التماثيل. فيعملون على مدار الساعة لإنهاء الترتيبات الأخيرة استعداداً لإعادة افتتاح الفندق.تختلف المواضيع من سنة إلى أخرى، وقد اختار معدو الفندق هذه السنة القصة الخرافية والأحلام النرويجية. فترى في غرف جناحي النوم حيوانات ترول فرحة، بابا نويل، بطاريق، وحتى مارلين مونرو. شملت محاور السنوات السابقة بحر القطب الشمالي، ثقافة السامي (شعوب شمال أوروبية الأصليين)، والأبطال الشماليين.عندما تبدأ الحرارة بالارتفاع في الربيع، يوضح روني أوسترم، أحد مالكي الفندق، أن إمدادات الكهرباء تُفكّ وأجهزة إطفاء الحرائق تُزال لأن الفندق سرعان ما يذوب. فتعود مياهه إلى البحيرة في وداع أخير للشتاء النرويجي. ويضيف: «يصَنّف هذا من أبرز الفنادق الصديقة للبيئة».يعتبر بعض النزلاء أن فندق الثلج تجربة لا بدّ منها. إلا أن الفندق يضم أيضاً مطعماً، متجراً صغيراً لبيع المعدات، خيمة شبيهة بخيم شعوب السامي الأصليين، وقاعدة للقيام بالمغامرات على مركبات الثلج ورحلات اصطياد حيوانات السلطعون العملاقة. يصل معظم النزلاء إلى الفندق بواسطة سفن سياحية، مثل أسطول Hurtigruten الشهير، الذي يتألف من 11 سفينة تجوب السواحل النرويجية منذ 120 عاماً. أنشئت هذه الشركة بادئ الأمر لتنقل البضائع ومن ثم البريد، إلا أن Hurtigruten باتت اليوم تسيّر سفناً سياحية مريحة إلى وجهات فريدة ومميزة. تُعتبر كيركنز آخر المرافئ التي تبلغها سفنها شمالاً خلال رحلاتها لرؤية الشفق القطبي والفيوردات النرويجية قبل أن تعود جنوباً إلى بيرجن.يبحث زوار آخرون عن متعة أكبر مخصصين يوماً كاملاً للمغامرات. فيمكنهم التنزه على الثلج، الذهاب في رحلة لاصطياد السلطعون العملاق، أو ركوب المزلاج التقليدي الذي تجره 10 كلاب من نوع الهاسكي الألسكي. عندما انتهينا من جولتنا في مختلف أرجاء الفندق، رافقت كويفيستو النزلاء إلى مطعم غابا، حيث تمتزج العناصر التقليدية النرويجية بحضارة السامي. فرحتُ بتمضية الأمسية في هذا الجو الهادئ بعدما أمضيت بعد الظهر منطلقة بسرعة على مركبة ثلج في أحد الفيوردات المالحة المثلجة. هناك قطعنا الجليد السميك وانتشلنا أفخاخ السلطعون العملاق، نوع واسع الانتشار في بحيرات المنطقة. توسطت المطعم نار متأججة، فنشرت الدفء والبريق فيما جلس النزلاء على مقاعد تمتد على طول طاولات عائلية.بدأت الوجبة بتقديم الندلاء للنزلاء أسياخاً من نقانق لحم الغزال ودعوتهم لشيها فوق النار. ولا عجب في أن تكون أسماك السلمون والقد الطبق التالي لنتناول بعد ذلك البوظة بنكهة الفانيلا المزينة بحبات التوت البري الساخن. الطعام النرويجي خفيف، مقارنة بمطابخ البلدان الأوروبية الأخرى، لأنه لا يشمل الكثير من الصلصات الدسمة. ولم تشكّل أطباق مطعم غابا استثناء.يدفعك نمط الجلوس في هذا المطعم إلى خوض محادثات طويلة، إلا أنني أضعت الكثير من الوقت. وحانت اللحظة المنتظرة! نزلت إلى غرفة السونا حيث ارتديت قميصاً وسروالاً قصيراً حراريين لأرتدي فوقهما ملابس النوم ومعطفي. ثم قصدت تحت الثلج المتساقط الغرفة رقم 4 في جناح القصص الخرافية. ولاحظت وأنا أتجه إلى غرفتي ممرات وأبنية مضاءة. ففكرت في أن هذا الجو رومانسي لو لم يكن الطقس بارداً إلى هذا الحد.يقدّم الفندق لنزلائه كيس نوم يحميهم من البرد حتى لو انخفضت الحرارة إلى 35 درجة تحت الصفر. ولكن بما أن درجة الحرارة تبقى دوماً 4 تحت الصفر في الغرف (أكثر دفئاً من الخارج)، فلم أقلق. أعلمني الموظفون أن الأحوال الجوية جيدة في هذه الفترة من السنة. إلا أنني تحصنت وراء قبعة ثلج استعرتها، فضلاً عن قبعتي الصوفية، غطاء للأذنين، وجوربين سميكين. وبما أنني أستخدم هاتفي للتصوير، وقد انطفأ مرات عدة خلال الرحلة بسبب شدة البرد، وضعته في أسفل كيس النوم، ثم دخلته وأحكمت إقفاله. فما عاد يظهر مني إلا وجهي.كانت الغرفة 4 دائرية، ويبلغ قطرها نحو خمسة أمتار. وكان أنيسي الوحيد في تلك الليلة مزلاجين محفورين أسفل السرير وحيوانات ترول تمرح على الجدران كما لو أنها تؤدي رقصة لا تنتهي في هذه الغرفة المستديرة.للحفاظ على تدفق الهواء، استُبدلت الأبواب بستائر معلقة على قضبان خشبية ثقيلة تعلوا فتحات بزوايا حادة. لا تنطفئ الأنوار مطلقاً، ما أشعرني بالراحة حين استيقظت ليلاً.عندما استقررت في فراشي ولفّ الدفء جسمي، لاحظت الصمت الذي خيم على المكان. فما كان أمامي إلا أن أسترخي وأنام وأنا أسبح في ضوء وردي خافت.إذاً، كيف أمضيت ليلة في عالم الجليد؟ صحيح أنني استيقظت مرةً لأنني لم أعتد النوم في ما لا يتعدى عرضه عرض التابوت، لكني صحوت في الصباح الباكر وأنا مرتاحة وذهني صافٍ. فخرجت من كيس النوم بطريقة ما، ونزلت إلى غرفة السونا حيث وجدت أميركيين يتجاذبان أطراف الحديث وإنكليزية تجلس بمفردها. كانوا يرتشفون القهوة. إلا أن لا أحد منهم أقر بأنه توجه ليلاً إلى غرفة السونا رغم استيقاظهم باكراً.قال أحد الأميركيين وهو يضحك، فيما انتقل الحديث بطبيعة الحال إلى المشاركة والمقارنة: «لا أحد يقبل بارتداء سترة المجانين طوعاً، أليس كذلك؟». أما المسافرة الإنكليزية فادعت أنها نامت كالطفل.وماذا عني؟ لربما كان السبب الهواء البارد أو ربما دفق الأدرينالين. لكني تفاجأت حين استيقظت للمرة الأولى منذ ستة أشهر وأنا لا أعاني صداعاً مبرحاً. في عالمي، يُعتبر هذا إنجازاً كبيراً. ولكن كيف عساي أنقل جبلاً زنته 15 طناً من الجليد إلى باحة منزلي الخلفية؟في حال قررت زيارتهيفتح فندق الثلج في كيركنز من 20 ديسمبر إلى 20 أبريل من كل سنة. تبلغ الأسعار نحو 430 دولاراً، وتشمل النقل من وسط مدينة كيركنز، عشاء في مطعم غابا يتألف من ثلاثة أطباق، استعمالاً غير محدود لغرفة السونا (مع الاستحمام)، وفطوراً.،www.visitnorway.com/us ،www.Kirkenessnowhotel.com، أو www.hurtigruten.us.