سلاطين من ورق

نشر في 22-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 22-07-2013 | 00:01
السلطانة خندان تعزف عن ممارسة السياسة وتكتفي بإدارة الحرملك
سادت حالة من الهدوء جنبات الحرملك العثماني بعد إقصاء السلطانة حفصة خاتون، وإحكام السلطانة خندان خاتون؛ والدة السلطان الشاب أحمد الأول، قبضتها على الحرملك، التي فضلت الابتعاد عن السياسة والالتزام بقواعد «الحرمك» العثماني، كما وضعتها السلطانة حفصة خاتون والدة السلطان سليمان القانوني، ولم تتعد دورها لتتدخل في شؤون السياسة، كما جرت العادة منذ عقود.

وكانت لشخصية السلطانة خندان العازفة عن السيطرة وحب التملك دور في السلام الذي عرفه الحرملك بعد النار التي أشعلتها صفية خاتون، إلا أن السبب الرئيسي في تحجيم نفوذ «الحرملك» مع مطلع القرن السابع عشر يرجع في الأساس إلى شخصية السلطان أحمد الأول، فرغم أنه تولى السلطنة شابا صغير السن لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فإنه أظهر حمية وكفاءة نادرة لانتشال الدولة العثمانية من كبوتها.

وكانت أول أعمال السلطان الشاب لإعادة ترتيب البيت العثماني تحجيم سلطانات «الحرملك»، فأقصى جدته المتسلطة حفصة خاتون، وأبعد والدته السلطانة الأم خندان، فالمؤرخون المعاصرون قالوا إن السلطان تجاهل نصائح والدته في ما يتعلق بشؤون الدولة العلية، دون الخروج عن تعاليم الإسلام التي تعطي الأم حقها الكامل من الاحترام والتقدير، وتجعل رضاها من رضا الله، لذلك تحايل السلطان أحمد على طلبات والدته، ومن ضمنها رفع راتبها الشهري الذي لم يكن يتجاوز الـ1000 قطعة ذهبية، في حين كان راتب حفصة خاتون، 3000 قطعة، رغم أن الأخيرة لم تعد تحمل أيّ لقب رسمي، على كل حال لم تطل فترة ولاية خندان خاتون على الحرملك، بعد أن جاءها زائر الموت في عام 1605م، لتدفن في مسجد ولدها السلطان أحمد بعد إنشائه.

تخلص بذلك السلطان أحمد من سلطان الحرملك إلى حين، خصوصا أن زوجته السلطانة خديجة ماه فيروز، أو جاريته المفضلة ماه بيكر كوسم، كانتا صغيرتي السن بدرجة لم تسمح لأيّ منهما بلعب أيّ دور في تاريخ الدولة العثمانية، طوال فترة سلطنة أحمد الأول، لكن الأزمة الحقيقية التي واجهت السلطان أحمد لم تأته من الحرملك بقدر ما اقتحمته من فرق الجيش، فقد جاء طغيان فرق الانكشارية على الدولة وسيطرة قاداتها على أمور الحكم، وتدخلوا بعنف في شؤون الحكم وأجبروا السلطان على الخضوع لرغباتهم ونزواتهم، فأصبح السلطان معهم حبيس قفص، لا يستطيع أن يأمر بما يخالف زعماء الانكشارية، وهو وضع قلص من نفوذ السلطان ومعه سلطان الحرملك الذي تقلص إلى أبعد الحدود، في فترة الفوضى التي عمت الدولة العثمانية.

والانكشارية (من التركية العثمانية يني جري، التي تعني الجنود الجدد) وهي الفرق الخاصة وعماد الجيش العثماني، نشأت مع بدايات الدولة في القرن الرابع عشر الميلادي، وفلسفة هذه الفرق العسكرية هي تجنيد أسرى الحروب من الغلمان والشباب وإحداث قطيعة بينهم وبين أصولهم، وتربيتهم تربية إسلامية، على أن يكون السلطان والدهم الروحي، على أن تكون الحرب صنعتهم الوحيدة، وتطور أسلوب جمع أفراد الانكشارية لدى سلاطين بني عثمان لاحقاً، إذ باتوا يؤخذون من الأسر المسيحية وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ»الدوشرمه» أو «الدويشرمه»، في عملية جمع دورية تجري كل سنة أو ثلاث أو أربع أو خمس، وتجلب عناصر انكشارية جديدة يقارب عددهم من 8 إلى 12 ألف فرد.

وقد بدأت ظاهرة تدخل النكشارية في سياسة الدولة منذ عهد مبكر في تاريخ الدولة العثمانية، غير أن هذا التدخل ظل تحت السيطرة في عهد سلاطين الدولة العظام؛ أمثال محمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني، لأن قوة السلطان كانت تكبح جماح هؤلاء الانكشاريين، حتى إذا بدأت الدولة في الضعف والانكماش بدأ نفوذ الانكشاريين في الظهور للعلن، فكانوا يعزلون السلاطين ويقتلون بعضهم، ولم يكن سلاطين الدولة في فترة ضعفها يملكون دفع هذه الشرور أو الوقوف في وجهها، ولم يستطع السلطان أحمد الوقوف أمام تعاظم قوة سلطان فرق الانكشارية التي اعتادت السلب والنهب في عاصمة الدولة العثمانية بلا رقيب ولا حسيب.

تحطيم الساعة

لذلك لم تحقق الدولة انتصارات عظيمة في عصر السلطان أحمد، الذي أصيب بالاكتئاب والحزن نتيجة فشله في إعادة الدولة إلى سابق عهدها، وتمثل هذا الحزن في حادثة ذات مغزى بعيد، فأثناء إحدى نوبات يأسه من جدوى الإصلاح أمام فساد فرق الجيش، أمر بتحطيم الساعة التي جاءت هدية من الملكة الإنكليزية إليزابيث الأولى، لصفية خاتون، كان تحطيم الساعة التي تذكر السلطان بتقدم الغرب المسيحي، إعلانا لفشل مشروعه الإصلاحي، وبمنزلة اعترافه بتأخر الدولة العثمانية عن ركب الحضارة، ولم تطل مدة حياة السلطان أحمد، إذ رحل عن الدنيا وهو في سن الثامنة والعشرين، بعد إصابته بمرض التيفود، في سنة 1617م، ولم يعد يذكر في يومنا هذا إلا من خلال مسجده الفخم الذي يعد بحق آية الفن التركي العثماني في إسطنبول.

بوفاة السلطان أحمد المفاجئة، دخلت الدولة في فوضى غير خلاقة، وعاد الصراع إلى الحرملك من جديد، بين زوجتي السلطان الراحل خديجة ماه فيروز، وكوسم ماه بيكر، حول السيطرة على الحرملك، وشخص السلطان الجديد، ولما كان أبناء السلطان أحمد صغار السن، تفتق ذهن ماه بيكر كوسم، على أن تستدعي أخا السلطان الراحل، الأمير مصطفى الموجود في القصر القديم، ليتولى هو قيادة الدولة العثمانية كفترة انتقالية حتى يكبر ابنها ويتولى هو إدارة الدولة، ولم تكن ماه بيكر كوسم وحدها في هذا التدبير، بل شاركها فيه قادة فرق الانكشارية أصحاب الكلمة العليا في إسطنبول؛ آنذاك، الذين أقروا تقاسم السلطة بانفرادهم بإدارة الدولة والحجر على السلطان الجديد، فيما تطلق يد السلطانة ماه بيكر كوسم داخل الحرملك لتصبح سيدته الأولى بلا منازع، لتدشن بذلك سيادتها في الحرملك، ولكونها أحد واضعي السياسية العليا للدولة العثمانية على مدار نصف قرن تقريبا.

وجه القمر

وكوسم سلطان، كانت في الأصل تدعى أناستاسيا، وهي ابنة قديس يوناني في جزيرة تينوس، وقعت في أسر بكلربيك البوسنة، الذي أرسلها ضمن مجموعة هدايا إلى قصر الباب العالي في إسطنبول، وما أن رآها السلطان أحمد حتى قرر ضمها للحريم المخصصات لخدمته، وعندما اعتنقت الإسلام بات اسمها «كوسم»، في حين حصلت على لقب «ماه بيكر» أيّ وجه القمر، لجمالها الاخاذ، وعرفت كوسم خاتون كيف تكسب ودّ رعايا الدولة العثمانية، من خلال أعمالها الخيرية، فكانت تؤدى ديون المعسرين، وأنفقت على زواج كثير من الفتيات الفقيرات وجواري الحرملك، ولها جامع في حي «أسكودار» مشهور باسم «الجامع ذو الخزف»، مزين بأفخر أنواع البورسلين والخزف، ويعتبر تحفة فنية رائعة، ولها خان كبير معروف باسم «خان الوالدة»، أوقفته على مسجدها، وبنت أيضا حماماً ومدرسة للصبيان وسبيلا وعين ماء، ولها وقفية مؤرخة بعام 1640م، أوقفت خلالها أموالا كثيرة للإنفاق على الفقراء الذين يقيمون على الطريق إلى مكة المكرمة، ولها خيرات كثيرة في مكة المكرمة والمدينة.

ولم تهتم ماه بيكر بالتدخل المباشر في أمور السياسة للدولة العثمانية، أيام سلطنة زوجها أحمد الأول، إلا أنها بعد وفاته لم تكف عن لعب أدوار سياسية شديدة التعقيد في ظل واحدة من الفترات السيئة في تاريخ الدولة العثمانية، فأظهرت عشقها للسلطة، الذي لم يقل يوما، بعد أن رفضت أن يلي السلطنة، ابن عدوتها خديجة ماه فيروز، الأمير عثمان، خوفاً من ضياع حظوظ ابنها الأمير مراد، ففضلت أن تستعين بـ»أخو» زوجها مصطفى الذي لم يكن راغباً في ارتقاء العرش، بل كان يريد الهرب بعيداً، خصوصا أن معظم رجال الدولة لم يقتنعوا بشخصية الأمير مصطفى، المعروف بخفة عقله وطيشه، ولم يكن الأمر إلا مجرد اتفاق بين السلطانة كوسم ماه بيكر ورجال الدولة على تصعيد الأمير مصطفى، لإتاحة الوقت أمام السلطانة لتحسم أمرها مع كبار قادة الجيش المنقسمين حول أيّ من أبناء السلطان أحمد أحق بولاية العرش، هكذا وصل السلطان مصطفى إلى سدة الحكم، كأول أخ يلي السلطنة بعد أخيه في التاريخ العثماني.

لم تدم سلطنة مصطفى الأول إلا ثلاثة أشهر، هي مدة المشاورات حول تصعيد الابن الأكبر للسلطان أحمد؛ الأمير عثمان سلطانا للبلاد، وهو ما يعني أن خديجة ماه فيروز انتصرت في معركتها مع كوسم ماه بيكر، وأصبح السلطان عثمان الثاني السلطان الجديد للبلاد، في ظروف شديدة السوء، ففرق الانكشارية اعتبرت أن وصوله إلى سدة الحكم، ما كان ليتم إلا بموافقة الجيش، لذلك بدأ قادة الجيش التدخل في كل كبيرة وصغيرة.

لم يكن جلوس السلطان عثمان على تخت السلطنة يعني نهاية الصراع داخل الطبقة العليا للدولة، بل كان الصراع شديدا حول خلافة السلطان أحمد، فمن ناحية انحاز قطاع عريض في الدولة لحقوق أكبر أبناء السلطان أحمد، ولي العهد الشرعي الأمير عثمان، ابن السلطان من جاريته خديجة ماه فيروز، في حين تحزب قطاع واسع من رجال الدولة والجيش خلف دعوى تولي الأمير مراد بن السلطان أحمد من جاريته كوسم ماه بيكر، وهو ما فجر موجة من المؤامرات داخل الحرملك، لم تنته، حتى قرر قادة الجيش العثماني اختيار الأمير عثمان لتولي حكم البلاد والجلوس على العرش العثماني.

بات السلطان الشاب في حكم المحجور عليه، خصوصا أن زوج أبيه السلطانة ماه بيكر لم تستسلم للواقع الجديد، بل عملت على تأليب رجال الدولة والجيش ضده، واستخدمت كوسم سلطان في ذلك أغا دار السعادة مصطفى أغا، وشيخ الإسلام أسعد أفندي، والقائم مقام صوفي محمد باشا، وقد أجبر هؤلاء من قبل أرباب الانكشارية على استصدار فتوى بضرورة عزل السلطان مصطفى الأول، فعزل في 26 فبراير 1618، ولم يكن قد مضى على سلطنته سوى ثلاثة أشهر وحبس بإحدى غرف القصر العثماني، وتم تعيين السلطان عثمان الثاني أكبر أبناء السلطان أحمد، وهو أمر أشعل غضب السلطانة كوسم، التي رأت رجالها المخلصين تحت سيطرة الانكشارية.

كان درس إطاحة السلطان مصطفى من على العرش العثماني ورفع عثمان الثاني محله، من فعل الانكشارية التي باتت القوى الأعظم داخل الدولة العثمانية، لذلك لم تجد السلطانة كوسم مفراً من التحالف مع الانكشارية للتخلص من السلطان عثمان الثاني ابن عدوتها خديجة ماه فيروز، خصوصا أن السلطان الشاب اتبع سياسة والده الراحل السلطان أحمد، وقرر تقليص نفوذ الحرملك، وهو ما لم ترض به السلطانة ماه بيكر.

عملت كوسم ماه بيكر على شراء ذمم قادة الجيش، وضمنت سريعا ولاءهم لها ولقضية ابنها الأمير مراد، وجاءت الظروف السياسية أكثر من مناسبة لطموح كوسم ماه بيكر، فالسلطان الشاب عثمان الثاني، رغم صغر سنه (تولى الحكم وهو في الثالثة عشرة من عمره)، وضع رؤية إصلاحية لأحوال الدولة العثمانية المتدهورة، فعندما تولى السلطان أحمد إدارة البلاد، كان موقف الدولة غاية في الصعوبة في الملعب الدولي، فرغم الانتصارات فإن عوامل الضعف أصبحت واضحة أمام جميع ملوك أوروبا، كما أن ظهور دولة روسيا القيصرية على المسرح السياسي، حمل مستقبلاً سيئاً للدولة العثمانية، لذلك كان السلطان عثمان يؤمن بحاجة الدولة إلى تبديل نظامها في كل المجالات بإصلاحات جذرية، وقرر في البداية استرضاء عامة إسطنبول بتشييد قبر لأبيه في رواق مسجده الشهير والمعروف بـ»مسجد أحمد الأول» أو المسجد الأزرق.

فكر السلطان عثمان في إجراء إصلاح شامل في تركيبة الجيش العثماني، الذي اعتادت فرقه على العصيان أكثر من مرة، لذلك وضع مخطط الإطاحة بالانشكارية وفرق الجيش الأخرى من خلال تنظيم جيش مركزي جديد، وأرسل في سرية إلى ولاة مصر والشام والأناضول، يأمرهم بتدريب فرق عسكرية وفقاً للقواعد الجديدة، دون علم قادة فرق الانكشارية، لكن تسرع السلطان في إعلان خططه لعدد كبير من مستشاريه دون مراعاة لنفوذ الانكشارية وحجم علاقاتهم المتشابكة مع مجموعات المصالح في العاصمة العثمانية، كل ذلك جعل هناك مجموعات رفض لإصلاحات السلطان، تطورت سريعا لتصطف في حزب مناوئ.

فقد السلطان عثمان سنده في الحرملك بوفاة والدته السلطانة الأم خديجة ماه فيروز، سنة 1621م، ربما بفعل مؤامرة من تدبير عدوتها اللدودة كوسم ماه بيكر، كما أنه نجح في استعداء عامة الشعب، بعدما أصدر أوامره بخنق شقيقه من والدته، الأمير محمد شاهزادة، مطلع عام 1621م، وكان الأمير محمد وليا للعهد، يقال إن السلطان شعر بمؤامرة في القصر لإجلاس شقيقه الذي لم يتجاوز الـ15 من عمره، لذلك أمر بقتله، عندما دخل العبيد يحملون الموت للأمير الشاب، لم يقل إلا أنه يتمنى أن تصيب السلطان نفس العاقبة، ربما تكون هذه الحادثة البشعة سبباً في وفاة أم الشقيقين السلطانة خديجة شاهزادة.

جاءت تلك الأحداث بمنزلة الإنقاذ لحظوظ أبناء السلطانة كوسم ماه بيكر، فقد تخلصت من عدوتها اللدودة، كما أصبح ابنها الأمير مراد وليا للعهد، عادت ماه بيكر إلى واجهة المشهد وقررت هذه المرة ألا تتنازل عن سلطانها أبداً، فعرفت كيف تستغل موجة الطقس السيئ التي ضربت إسطنبول في شتاء 1621م، والذي أدى إلى تجمد مياه مضيق الدردنيل، لتتصل آسيا وأوروبا لأول مرة في التاريخ العثماني، وصار بإمكان الرعايا التنقل بين إسطنبول في أوروبا إلى أسكودار في آسيا مشياً على الأقدام، وهو ما اعتبره الرعايا نذير شؤم، خصوصا مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية بصورة غير مسبوقة.

 عرفت السلطانة كوسم ماهبيكر، كيف تستغل طموح السلطان للتخلص منه، فعقدت تحالفا مع قيادات الانكشارية، بهدف التخلص من السلطان عثمان الثاني ودبروا مؤامرة لاغتياله.

اغتيال الحلم

استغل أعداء السلطان الشاب قراره المفاجئ، بالخروج إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، كان القرار مفاجئا، فسلاطين آل عثمان اتخذوا قرارا منذ زمن بعيد بعدم الخروج إلى الحج، لا لنقص في إيمانهم، ولكن لطول أيام السفر إلى الحجاز، وهي رحلة تستغرق أشهرا، ما يعني غياب السلطان عن إدارة الدولة لفترة طويلة، لذلك أصدر شيوخ الإسلام العديد من الفتاوى التي تؤكد أن إدارة الدولة أهم من عبادة الحج.

لم يكن قرار السلطان عثمان نابعاً من عاطفته الدينية، بقدر احتياجه إلى غطاء شرعي لخروجه من العاصمة العثمانية الخاضعة لحكم الانكشارية، ليصل إلى الأقاليم الشرقية للدولة؛ مصر والشام، حيث الفرق العسكرية التي بدأ في إعدادها هناك لتكون نواة الجيش العثماني الجديد، لم يكن الغرض الحقيقي من خروج السلطان للحج بغائب عن قادة الانكشارية الذين تحركوا بسرعة، وقرروا التصعيد ضد السلطان.

ما ان ضربت الخيمة السلطانية في حي أسكودار كمقدمة لرحيل ركب السلطان إلى بلاد الحجاز، حتى اجتمعت فرق الانشكارية وبقية الجيش في مسجد السلطان أحمد، أمام قصر الباب العالي حاملين فتوى شيخ الإسلام خوجه زاده أسعد أفندي، والتي تقول: «لا لزوم لحج البادشاهات (السلاطين)، والبقاء في مكانهم والعدل أولى لهم، حتى لا تكون هناك فتنة»، كان واضحا انحياز العلماء للجيش، كرد فعل غاضب على إنقاص السلطان عثمان مخصصاتهم المالية.

توترت الأوضاع سريعاً بعد أن قطع السلطان الفتوى، وأصر على موقفه، نتيجة للخيانة دخلت فرق الجيش قصر «طوب كابي» مقر العرش العثماني للمرة الأولى في التاريخ، وطالبوا بإعدام كبار مستشاري السلطان، وهو ما رفضه الأخير، نتيجة لتعاون الحرملك مع الثوار تم الاتفاق على خلع السلطان عثمان وإعادة السلطان المجنون مصطفى، مرة ثانية، كان الغرض من هذه الحركة إتاحة الوقت الكافي لابن السلطانة كوسم ماهبيكر، الأمير مراد ليصل إلى السن المناسبة لإدارة الدولة، كما أن الانكشارية فضلوا تعيين السلطان مصطفى حتى يحصلوا على إكرامية الجلوس على عرش السلطنة، ثم يخلعون بعد حين السلطان مصطفى، المشكوك في قواه العقلية ويعينون مراد مكانه ويحصلون مرة أخرى على إكرامية الجلوس.

لم يوافق العلماء في البداية على اتفاق الحرملك والجيش، وقالوا: «أيها الرفقاء، إن السلطان عثمان أعطى لكم ما طلبتموه، والسلطان مصطفى مسلوب العقل لا تجوز مبايعته»، فلم يتموا كلامهم إلا وقد هجموا عليهم وأكرهوهم على المبايعة، بذلك عاد مصطفى الثاني إلى العرش مرة أخرى.

أما السلطان عثمان، فقرر المقاومة، كان يريد الوصول إلى فرق الجيش الجديدة ليعود إلى عاصمة ملكه منتصراً من جديد، إلا أن الانكشارية منعته الخروج من إسطنبول، ودار نقاش حول مصير السلطان المخلوع، ورغم أن الاتجاه العام كان ينحو نحو الإبقاء على حياة السلطان الشاب، فإن أوامر السلطانة كوسم ماه بيكر كانت صريحة بضرورة التخلص من السلطان الشاب.

هجم الانكشارية على جناح السلطان عثمان الثاني، وقبضوا عليه من بين جواريه وزوجاته وقادوه قهراً، وبعد إجبارهم رجال الدولة بإتمام البيعة للسلطان مصطفى بالقوة، أحضر السلطان عثمان الثاني إلى جامع «أورطة جامع» مع سبه وشتمه، وحاولوا خنقه بالحبل تنفيذاً لأوامر الصدر الأعظم «داوود باشا» المعروف بـ»قرا باشا»، لكنهم فضلوا شنقه خارج الجامع، فاقتادوا عثمان الثاني إلى القلعة المعروفة بذات السبع قباب، وهناك قتل أول سلطان عثماني على يد الانكشارية في التاريخ، وهو الحدث الذي ترك أثاره على مصير الدولة العثمانية، فالسلطان «كنج عثمان» كما سماه الشعب العثماني، كان بمنزلة الحلم للدولة المضطربة لو نجح في تجربة التحديث التي بدأها لتغيير مصير الدولة العثمانية التي بدأت تدخل عصور ضعفها واضمحلالها سريعاً، كان السلطان عثمان، رغم صغر سنه (قتل وهو في السابعة عشرة) صاحب رؤية مستقبلية لو أمكن تنفيذها لتغير مصير العالم كله.

بذلك نفذت السلطانة كوسم انتقامها بالتخلص من السلطان عثمان وإعادة تنصيب السلطان مصطفى الألعوبة من جديد، وكانت تريد أن تكون فترة سلطنة مصطفى الثانية مجرد فترة انتقالية حتى يبلغ ابنها مراد بن السلطان أحمد مبلغ الرجال ويلي السلطنة، لكن الثمن كان باهظا.

 أوقاف صفية

ترتبط السلطانة صفية خاتون بالمصريين من خلال مسجد ضخم يحمل اسمها في منطقة القاهرة القديمة وتحديدا في شارع محمد علي، ويحمل اسم مسجد «الست صفية»، وهو المسجد الذي أنشأه عثمان أغا، أغا دار السعادة مملوك السلطانة صفية، ولما علمت السلطانة أن أحد مماليكها يزمع بناء مسجد في ثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية؛ القاهرة، قررت الاستيلاء عليه.

وهو ما تحقق بعد وفاة عثمان أغا، فقررت على الفور الاستيلاء على المسجد بزعم أنه مملوكها ولم يعتق، فتؤول ممتلكاته إليها بعد وفاته، وأرسلت أحد مماليكها إلى مصر، وهو إسماعيل أغا ناظر الوقف، حيث تابع عملية إتمام بناء المسجد، الذي تغيرت اللوحة التذكارية لافتتاحه للصلاة لتحمل اسم السلطانة صفية، وكان الفراغ منه في محرم سنة 1019هـ كما هو مسجل أعلى باب المسجد.

ومكتوب على اللوحة الموجودة حتى يومنا هذا بجوار مدخل المسجد «أنشأت هذا الجامع المبارك المعمور بذكر الله تعالى «صاحبت» الخير الآدر، الشريفة والدة المرحوم مولانا السلطان محمد خان طاب ثراه، على يد فخر الخواص المتقربين مولانا الناظر الشرعي على الوقف المذكور، وكان الفراغ من هذا البناء المذكور في السابع والعشرين من شهر محرم من سنة 1019 من الهجرة». ( وذلك يوافق 21 أبريل 1610م)، وعينت السلطانة صفية للمسجد عالما زاهدا وخطيبا كريم الخلق يخطب فيه في الجمع والأعياد، وعينت فيه خدما لتلبية احتياجات المسجد المختلفة.

back to top