الأسد أرغم الولايات المتحدة على التحرك

نشر في 03-09-2013
آخر تحديث 03-09-2013 | 00:01
إن أطلقت الدولة الأبرز في العالم تهديداً، أو قدمت ضماناً، أو رسمت خطاً أحمر، يجب أن تكون مستعدة لتلتزم بكلامها، وإلا تعرضت مصداقيتها القيمة هذه لتشويه قد لا تتمكن من محوه مطلقاً.
 ذي تيليغراف قبل أكثر من ألفَي سنة، امتحن حكام قرطاج مدى تصميم قوة عظمى بمهاجمة مملكة نوميديا المجاورة، لكن هذا القرار لم يكن حكيماً، فردت روما بإشعال الحرب البونية الثالثة، وحولت قرطاج إلى رماد واستعبدت شعبها.

نستخلص من هذه الحادثة أن استفزاز قوة كبرى قد يكون خطيراً، ولا شك أن أوباما مختلف كل الاختلاف عن كاتو الأكبر، القائد المتعطش للحرب الذي دمر قرطاج، ومن المؤكد أن بشار الأسد ليس وريث هانيبعل، لكن التطورات الأخيرة تؤكد أن هذه الخلاصة لا تزال صحيحة.

تُعتبر المصداقية من أثمن أصول القوة العظمى، وإن أطلقت الدولة الأبرز في العالم تهديداً، أو قدمت ضماناً، أو رسمت خطاً أحمر، يجب أن تكون مستعدة لتلتزم بكلامها، وإلا تعرضت مصداقيتها القيمة هذه لتشويه قد لا تتمكن من محوه مطلقاً.

من الواضح أن أوباما محارب متردد، إذ عقد هذا الرئيس الأميركي العزم على عدم التدخل في الحرب الأهلية السورية، رافضاً بعناد النصيحة التي أجمع عليها كامل فريقه في مجال الأمن القومي، فقد حضه هذا الفريق على تسليح الثوار، لكننا لم نفكر في مخاطر "الانجرار إلى تدخل صعب، مكلف، وباهظ الثمن قد يؤدي إلى المزيد من الكره" حتى الأسبوع الماضي. صحيح أن الولايات المتحدة تشكل محور التوقعات العالمية، ولكن "لا يعني ذلك أن علينا التدخل في كل مسألة في الحال"، حسبما أعلن الرئيس أوباما. وأضاف: "علينا أن نفكر ملياً في النواحي الاستراتيجية لما يخدم مصالحنا القومية على الأمد الطويل".

لهذا السبب يبدو العمل العسكري الأميركي ضد سورية مرجحاً، ولكن إن أُطلقت صواريخ كروز، فلا يعني ذلك أن أوباما بدل رأيه وصار من مؤيدي التدخل في سورية، ولا يعني بالضرورة أن هذا الرئيس قرر أن على الولايات المتحدة الإطاحة بالأسد بالقوة، لا، إذا بدأت هذه الحملة، فستُنفذ لأن الرئيس يظن أن لا خيار آخر أمامه. فمصداقية الولايات المتحدة (تلك المصلحة القومية الأساسية الطويلة الأمد) مهددة، ولا يمكن لقائد أي قوة عظمى أن يقبل بتعريض هذه المصلحة البالغة الأهمية للخطر.

في العشرين من أغسطس من السنة الماضية، رسم أوباما "خطا أحمر"، معلِما الأسد أن استخدام الأسلحة الكيماوية "سيبدل معادلته". ولكن تُظهر الأدلة أن نظام الأسد اختار تسميم أعدائه على نطاق لم يسبق له مثيل منذ عهد صدام حسين.

ويعلق في أذهاننا بالتأكيد ذلك الاستهتار غير المبرر وراء هذا العمل المريع، فلم تُستخدم الأسلحة الكمياوية فحسب، بل أُطلقت لقتل المئات، أما الأهداف المختارة، فتقع على بعد نصف ساعة بالسيارة عن الفندق الذي ينزل فيه محققو الأمم المتحدة.

علاوة على ذلك، نُفذ هذا الهجوم في ذكرى فرض أوباما "خطه الأحمر"، واللافت للنظر أن هذا السلاح المريع أُخرج من ترسانة النظام في لحظة كان فيها ميزان القوة مائلا لمصلحة الأسد. افترضت الحكومات الغربية أن النظام لن يلجأ إلى استعمال هذه الأسلحة ضد أعدائه، إلا إذا شعر أنه واقع في مأزق، لكنه بدا آنذاك بعيدا كل البعد عن أي مأزق. رغم ذلك، تشير كل الأدلة إلى أنه سمم أعداءه.

إذا صح ذلك، تُعتبر هذه الخطوة تحدياً كبيرا لخط أوباما الأحمر، ولا شك أن الرئيس الأميركي اضطر إلى التساؤل: كيف يمكننا الحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة، إن لم نرد على انتهاكات النظام هذه؟ عندما ينتقص أحد من قيمة كلمة قوة عادية، تتعرض مصالحها القومية الخاصة لضرر بالغ، لكن مصداقية القوة العظمى تشكل عماد النظام العالمي بأكمله.

في الوقت الراهن، لا يعاني العالم الكثير من الأعمال الرهيبة بسبب قوة كلمة الولايات المتحدة خصوصاً. على سبيل المثال، تحجم كوريا الشمالية عن مهاجمة جارتها الجنوبية، ولا تضع الصين يدها على سلسلة من الجزر المتنازع عليها، ولا تهدد روسيا دول البلطيق، ولا تسارع إيران إلى اكتساب القدرة على بناء سلاح نووي، ولا شك أن هذه النقطة الأخيرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقرار أوباما في الشأن السوري.

كل ثلاثة أشهر، تُصدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريراً عن طموحات إيران النووية، وإذا تصفحت هذه الوثائق المعقدة، تكتشف بعض الوقائع المهمة، أتذكُرُ محطة تخصيب اليورانيوم التي بنتها إيران تحت جبل؟ ما زال عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة في هذه المنشأة 696 منذ شهر فبراير عام 2012. تضم هذه المنشأة 2014 آلة أخرى، بيد أن طهران تعمدت الإحجام عن تشغيلها.

نعم، تملك إيران مئات أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، ولكن تبين أنها لا تستخدمها إلا لتخصيب اليورانيوم بأدنى نسب ضرورية لتأمين حاجات محطات الطاقة النووية التي تملكها، أما بالنسبة إلى مخزون اليورانيوم المخصب إلى نسبة 20% (معدل يُقارب ما هو ضروري لإنتاج أسلحة نووية)، فتحول إيران جزءاً كبيراً منه إلى قضبان وقود غير مؤذية.

بدل أن تنطلق إيران بسرعة نحو تطوير أسلحة دمار شامل، تحاول صب الماء على برنامجها النووي وتبريده. لماذا؟ لأنها إن لم تتخذ خطوات مماثلة، يخشى قادتها أن يُضطروا إلى خوض حرب ضد الولايات المتحدة. إذن، ما زالت قوة الولايات المتحدة الرادعة تمنعهم حتى اليوم من المضي قدماً في مخططاتهم.

مع محاربة الأسد من أجل بقائه، تحولت سورية من حليف إيران الأبرز إلى ما يُشبه الدولة العميلة، فقد شارك آلاف المقاتلين من "حزب الله"، ميليشيا تسلحها إيران مقرها في جنوب لبنان، في هجوم النظام المضاد، ويذكر قائد دولة أخرى في المنطقة سراً أن المصرف المركزي السوري كان يُفترض أن يُفلس، وفق تقديراته، في شهر أبريل، ولكن يبدو أن إيران هبت لمساعدته.

بفضل هذا الكرم والسخاء، تتمتع إيران اليوم بتأثير كبير في قرارات الأسد، وبات هذا الأخير قائداً ما زال يتربع على عرش السلطة بفضل بنادق أجنبية، رغم المعارضة الشرسة التي يواجهها من شريحة كبيرة من شعبه. إذن، يبدو جلياً أن إيران تستخدم سورية كمسرح لاختبار عزم الولايات المتحدة، فهي تراقب عن كثب لترى ما إذا كان الأسد سيتمكن من تخطي الخط الأحمر، الذي رسمه أوباما بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية، من دون أن يتعرض للعقاب. فإن حدث ذلك (إن تمكن الأسد من تسميم المئات من شعبه من دون دفع الثمن)، تكون بذلك قوة الخط الأحمر الأميركي الآخر في الشرق الأوسط، الخط الذي يمنع إيران راهناً من تحقيق طموحاتها النووية، محور شك.

يجب أن تُستخدم كلمة القوة العظمى بطريقة مدروسة، وعندما يقرر الرئيس اللجوء إليها، يجب أن يكون صادقاً ومستعداً للالتزام بها. ولكن بدا وليام هيغ، وزير الخارجية البريطاني، أكثر عدائية من أوباما في رده على الحوادث الأخيرة في دمشق. يُعتبر رد الرئيس الأميركي العلني الأول لافتاً للنظر نتيجة إفراطه في الحذر، لكن هذا يعود على الأرجح إلى أنه، بخلاف القادة البريطانيين، يتحمل حصة الأسد من مسؤولية ما سيحدث تالياً.

إن كان الجواب أن الولايات المتحدة ستنضم إلى الحرب الأهلية السورية بشكل من الأشكال (حتى لو كان ذلك بتنفيذها ضربات طويلة الأمد كعقاب للنظام)، فسيسأل الأسد نفسه عمّا جره إلى هذا الوضع. فقد دُفع رئيس أميركي متردد بوضوح بشأن التدخل، ومقتنع تماماً بأن على الولايات المتحدة تفادي الانجرار إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، إلى إطلاق صواريخه. إذن، بتهوره جلب الأسد الغضب العسكري الأميركي على نفسه.

وكما أساء قادة قرطاج البائسون تقدير عزم روما، كذلك نسي الأسد أن سلطة كلمة قوة عظمى تشكل الثروة الثمينة التي يجب على الرئيس الأميركي الدفاع عنها بالقوة، إن دعت الحاجة، وإلا فلن يعود قائد قوة عظمى.

* ديفيد بلير

back to top