دكتاتورية الأغلبية وديمقراطية «الأخ الأكبر»!

نشر في 02-03-2013
آخر تحديث 02-03-2013 | 00:01
 أنس محمود الشيخ مظهر  لا يمكن فصل ما يحدث في العراق حالياً عمّا يحصل في المنطقة من ثورات عربية أطاحت بدكتاتوريات عتيدة وجاءت بأحزاب إسلامية راديكالية للحكم، بيد أن الوضع في العراق يختلف عن نظائره في الدول العربية، نظراً إلى التنوع القومي والمذهبي الذي يمتاز به، فالتنوع العرقي والطائفي في العراق موزع بشكل يجعل لكل مكون فيه القدرة على المضي باتجاه يرسخ انتماءه بمعزل عن الأطراف الأخرى، والتوزيع الجغرافي لهذه المكونات وتمركز كل منها في مناطق شاسعة لتشكل فيها الأغلبية، وامتلاك كل منها لعمق استراتيجي خارج حدود العراق، كل ذلك يجعل من الصعب على أي طرف السيطرة على الأطراف الأخرى.

مع قصر عهد العراق بالديمقراطية والعملية الانتخابية، فبنظرة سريعة على الأحداث منذ الإطاحة بحكم صدام حسين حتى الآن نستنتج أن الحكومة العراقية (الشيعية الصبغة) التي يمكن تسميتها بحكومة "الائتلاف الوطني"، اختلقت أزمات كثيرة مع المكونين الكردي والسنّي العربي، وإن كانت الأزمات بين حكومة المركز وإقليم كردستان قد أصبحت سمة من سمات العملية السياسة العراقية، فإن ما تشهده بعض المدن العراقية حالياً من هبَّة للشارع السنّي ضد هذه الحكومة يعتبر بداية لأزمة من نوع خاص لا يمكن التنبؤ بمجرياتها ولا نتائجها.

فما الذي دفع بالشارع السنّي إلى الخروج والتظاهر للانقلاب على وضع مضى عليه ما يقارب السنوات العشر منذ بدء العملية السياسية بشكلها الحالي؟... أتصور أن هناك سببين رئيسيين أديا بالشارع السنّي إلى الخروج عن طاعة الحكومة الحالية وإعلان العصيان المدني رفضاً للواقع المعيش وهما:

- استغلال التجربة الديمقراطية لتكون حسب مقاس مكون واحد.

- ممارسة دكتاتورية الأغلبية.

بشكل عام لا يمكن حصر فكرة الديمقراطية في انتخاب الشعوب لمن يحكمها، واعتبار الانتخابات هذه صكاً موقعاً من قبل الشعب يعطي الحاكم الحق في التصرف كما يشاء في مقدرات البلد، فوجود مكون يمثل الأغلبية (في العراق) يعتمد في أساس تكوينه على طرح مذهبي خاص به لا يعطيه الحق في لعب دور الوصي على كل المكونات الأخرى التي تختلف معه حتى في ما يتعلق بإدارة الشؤون السياسية العامة، كونه ينظر إلى السياسة من خلال الرؤية المذهبية له التي لا تشاركه فيها بقية مكونات المجتمع.

فالأحزاب الشيعية، التي تسيطر على الحكم في العراق تعتمد في أفكارها على طرح ديني استطاعت من خلاله حشد الشارع حولها في كل الانتخابات التي جرت في العراق منذ 2003 حتى الآن، وتقوقعت في ائتلاف سمته "الائتلاف الوطني" ضم الأحزاب الشيعية المتبنية لهذا الطرح المذهبي وبعض التيارات العلمانية في الشارع الشيعي، وهنا لابد من الإشارة إلى أن تعبير "علماني شيعي" هو تعبير سياسي غير صحيح، كون المذهب الشيعي في أساسه مبنياً على فكرة إمامة الدولة وقيادتها من قبل جهة دينية، وهكذا فإما أن نقول علمانياً (وحسب) وإما فإن تعبير "علماني شيعي" هو كفر بقاموس المصطلحات السياسية لا يجوز ذكره. إن وجود الائتلاف الوطني بهذه الكيفية ونجاحه في استغلال العاطفة المذهبية للشارع الشيعي وافتقار هذا الشارع (الذي يمثل الأغلبية في العراق) إلى أحزاب علمانية سياسية جعلت من إجراء أي عملية انتخابية مستقبلاً بمنزلة هراء سياسي، فمهما تغيرت الوجوه لرئاسة الوزراء والوزارات بشكل عام، فإن الأغلبية في البرلمان ورئاسة الوزارة ستبقى حكراً على "الائتلاف الوطني" العراقي، مما يعني أن الطرح الشيعي السياسي الذي يعتمد على النظرة المذهبية للأمور سيكون هو السائد في الساحة السياسية العراقية لعقود من الزمن، مما يمثل احتكاراً للسلطة يتنافى مع المبادئ الأساسية للديمقراطية ويمهد لولادة دكتاتورية الأغلبية التي لا تختلف عن دكتاتورية الفرد إن لم تكن أسوأ منها.

إن الإقرار بأن الأغلبية الانتخابية في العراق هي للشيعة لا تعني أن يكون البلد كله رهناً لإرادة هذا المكون، فحكومات الائتلاف الوطني في العراق ومنذ استلامها للسلطة تتعامل مع الوضع السياسي العراقي بمعزل تام عن كل ما يمكن تسميته بالمصلحة العراقية ككل، فالمصلحة العليا للبلد اختزلت في الطائفة وحسب المزاج السياسي لها، بما يتطابق مع أفكار المذهب حتى إن كان مردود ذلك سلبياً على العراق ككل، فعلاقات العراق مع دول المنطقة والعالم مثلاً تنطلق من الموقف السياسي العقائدي وتعتمد على مدى البعد والقرب من أجنداتها المذهبية، فأصبح العراق معزولاً عن الدول الإقليمية (عربية وغير عربية) التي يشكل السنّة فيها أغلبية، باستثناء الجمهورية الإسلامية الإيرانية كونها تشترك في المذهب مع حكومات "الائتلاف الوطني".

قد يبدو هذا التوجه طبيعياً عند البعض باعتباره استحقاقاً انتخابياً، لكن عندما تكون الأغلبية هذه غير ناضجة سياسياً ولا تعير اهتماماً يذكر للمصالح العليا للبلاد وتنقاد لأي موقف سياسي فقط حينما يكون متطابقاً مع مصلحة المذهب السياسية (حتى إن كانت ضد المصلحة العام) فهنا تكمن المشكلة!

كان الأحرى بحكومة الائتلاف الوطني أن تستغل التنوع الطائفي والعرقي في العراق ليصب في المصلحة الوطنية العامة وتدشين علاقات جيدة مع الدول السنّية العربية من خلال المكون السنّي العربي في العراق، مع الحفاظ على علاقات جيدة مع إيران، وكذلك استغلال التجربة الكردية في العراق وتطبيقها في كل العراق والعمل من خلال الإقليم على نسج شبكة العلاقات الاقتصادية المعقدة مع دول العالم اقتصادياً. لكن ما لاحظناه أن المركز توجه إلى خلق حالة من الصراع غير المبرر مع كلا الطرفين والعمل على خنق أي حالة تكاملية معهما. "الائتلاف الوطني" مطالب الآن أكثر من أي وقت مضى بإدراك أن الظروف الدولية والإقليمية قد تغيرت ولا يمكن العمل وفق مبدأ "الأخ الأكبر" في الشأن الداخلي للعراق، فقانون الأغلبية والأقلية لا يحسب بلغة الأرقام بل بالتأثير السياسي والقدرة على خلق الحالة الموجبة للدفع بالدولة في اتجاه ديمقراطي حقيقي بعيداً عن الطروحات المتشنجة... والخلاف السياسي عندما يكون بعيداً عن "التمذهب" يكون شاملاً لكل العراق بين معارض وموال، بينما "التمذهب" يجعل من العراق قطعاً منفصلة سياسياً تكون فيها المعارضة والموالاة محددة بالانتماء إليها لا إلى الاختلاف الفكري للرؤى كما في الاختلاف السياسي.

* كردستان العراق – دهوك

back to top