لبنان يبكي وديعه! (1-2)

نشر في 13-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 13-10-2013 | 00:01
عن عمر 92 عاماً رحل وديع فرنـسيس الشهير بوديع الصافي (ولد في 1 نوفمبر 1921)، عرّاب الأغنية اللبنانية الجبلية الصافية، وهو أحد عمالقة الطرب في لبنان، وصاحب الصوت الجبار والنادر والاستثنائي، النقي كالدموع والصافي كأجراس الكنائس في الجبال الغضة. كان له الدور الرائد في ترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، أحدث نقلة نوعية في رفع مستوى الغناء الفلكلوري من طبيعته المحلية الزراعية إلى أفق الوطنية، واقترن اسمه بلبنان وجباله ووديانه، هو صاحب الصوت العنفواني الذي تسافر الأذن مع مداه، وهو في صوته «مخالف للطبيعة البشرية» بحسب الناقد فكتور سحاب.
يروي وديع الصافي في الكتاب الفريد الذي وضعه عنه فكتور سحّاب (نستند إليه في مقالنا علماً أنه سيكون، كما تردد، المستند للفيلم الوثائقي الذي سيصور قريباً عن حياة المطرب الكبير) أن الينابيع الأولى التي استقى منها وجدانه الموسيقي والغنائي كانت الغناء الريفي (الفولكلور) والإنشاد الديني في الكنائس المسيحية الشرقية. الصافي الفنان العملاق كان صغيراً جداً عندما أذهل خاله نمر العجيل بقوة صوته ونقاوته، إذ كان يطيب له أن يمسك بيده ويجول وإياه في أحياء بلدة نيحا الشوفية في لبنان حيث مسقط رأسه. كان خاله دركيّاً كوالده وذا صوت جميل كأبيه جدّ الصافي لأمّه، وهو أوّل من علّمه العزف على العود. كان يعزف سماعيّاً على الربابة ثمّ على الكمان ومن بعدهما جاء العود؛ ومنذ أن أمسك بالعود لم يفارقه.

ولم يكن في الحسبان أن الصافي سيكون مطرباً، فقد عاش طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان. في عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت ودخل وديع الصافي مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، فكان الماروني الوحيد في جوقتها والمنشد الأوّل فيها. لم يكن والده يشجعه على ذاك المنحى فكان الفتى يدلف سراً إلى خاله الذي كان يهوى العزف على العود فاحتضن ابن أخته وقدمه إلى سليم الحلو وميشال خياط، أعجب الأول بموهبته فأعطاه دروساً مجانية في العزف على العود وأداء الموشحات، في حين علّمه الأخير قواعد الغناء. بقي على هذه الحال خمس سنوات حتى تمكن من أنامله وصوته وفق القواعد الأكاديمية فأهداه شقيقه البكر توفيق أول عود خاص له كي يتمرن عليه في فترة بلغ معها والده سن التقاعد في مطلع الثلاثينيات، ولم يعد الشاب قادراً على إخفاء ما يضمر فوضع والده أمام الأمر الواقع.

بياتي وحجاز

بعد استقالة والده من الدرك وانتقاله إلى بيروت عام 1935، شرع بتعلّم العود على يدي ألكسي اللادقاني الذي علّمه أول ما علّمه بياتي وحجاز.  في بيروت، قصد مدرسة المخلّص وفيها أمضى سنتين فقط يرتّل في الجوقة المدرسية. لم تمضِ سنتان إلا ووالده طلب إليهما هو وأخيه توفيق أن يتركا المدرسة لصالح العمل ليسهما في إعالة أسرتهما الكبيرة، فمعاش التقاعد لم يكن كافياً لسدّ احتياجات العائلة، وكان الصافي آنذاك في الخامسة عشرة من عمره تقريباً، فكانت إذاً المرحلة الابتدائية مجمل ما حصّل من التعليم الرسمي.

عمل في محل للملابس وفي محل أحذية وفي صالون للحلاقة، ثمّ في معمل للقرميد والزجاج. ورغم أن بعضهم يقول إن والده لم يكن راضياً أن يدخل ابنه مجال الفن، لكن الصافي نفسه يروي أنه شجعه عام 1937 على التقدّم إلى الإذاعة وفعلاً تقدّم فتمّ قبوله، وهناك علّمه ميشال خياط وسليم الحلو وأقرانهما القصائد والنغم والإيقاع الصحيحين. علّمه هؤلاء الموشّحات والتلحين وكانا يأتيان بالقصائد ويلحّناها على موازين يختاراها فقوّياه. كان ميشال خياط مغرماً بسيد درويش وزكريا أحمد فتعلّم الصافي منه روح الرجلين في التلحين. عام 1938، انتقلت عائلة فرنسيس إلى بيروت وهناك لعبت المصادفة دورها. عندما دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائية تنظمها إذاعة لبنان الرسمية والمعروفة آنذاك في إذاعة الشرق الأدنى. فاز بالمرتبة الأولى في العزف على العود وفي التلحين والغناء ولمّا يكن يبلغ بعد من العمر 17 عاماً.

عام 1940، خلال الحرب العالمية الثانية أجرى سليم الحلو مسابقة للغناء من ألحانه شارك فيها مطربون كبار آنذاك من أمثال صابر الصفح ومصطفى كريدية وغيرهما فحلّ الصافي في المرتبة الأولى. وخلال كل تلك المدّة كان يسمع ألحان محمد عبدالوهاب ويرى أفلامه مع ليلى مراد ونجاة علي وغيرهما ويحفظ الألحان ويدرسها، فلم يكن ينام حتى يعرف أساس النغمة ومقامها. كذلك تعرّف في تلك السنوات من أواخر الثلاثينيات إلى أم كلثوم من خلال أسطواناتها وأفلامها ولم يكن يستمع الى أحد غيرها إلا أسمهان. أما عبدالوهاب فثقّفه من حيث الأداء، أخذ عنه غناءه وثقافته وكان يشاهد أفلامه مراراً وتكراراً ليتعلّم منه. كان من حزب عبدالوهاب ضد أم كلثوم وكان يحب غناءه لأنه أنيق والغناء الأنيق أقرب عنده للحفظ والغناء.

عام 1940، بدأ الاحتراف في محلّة «الدورة»، أحد أحياء بيروت الشمالية الشرقيّة كان الناس يقصدونه للتنزّه وكان فيه مقاهٍ يغنّي فيها المطربون والمطربات في عروض فنّية. كانت «الدورة» مركز لهو وعرض عضلات لمن يغنّي، فثمة من كان يغنّي مجاناً ومن كان يغني بثلاث ليرات في الليلة أو بخمسة، أما وديع الصافي فكان يتقاضى عشر ليرات عن الليلة ومن ثمّ 15 ليرة. (أول أجر قيّم تقاضاه الصافي في بداية مشواره الفني كان ثماني ليرات ذهبية من الست نظيرة والدة الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط، ذلك لقاء غنائه لها وهي طريحة الفراش وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة).

جوزيف سعادة

بدأ الصافي رحلته الاحترافية في مقهى جوزيف سعادة، حيث التقى للمرة الأولى بالفنانة صباح التي كانت لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها، وقد جاءت لتغنّي للمرة الأولى أيضاً في مقهى ما كان قد علّمها عمّها «شحرور الوادي» أسعد الفغالي. وكان نجاح تجربة الفنانة نور الهدى في السينما المصرية في فيلم «جوهرة» بمنزلة الأمل بالنسبة إليه وإلى المطربين اللبنانيين والحافز لهم كي يجربوا حظهم في هذا المجال. هكذا، سافر الصافي عام 1944 إلى القاهرة بدعوة من يوسف وهبي ليشارك نور الهدى في فيلم جديد من تأليفه وإخراجه لكن المشروع الفني فشل، وظل الصافي في القاهرة أربعة أشهر ظهر خلالها في فيلم «الخمسة جنيه» للمخرج حسن حلمي ومن إنتاج جبريل تلحمي.

لم ترضِ إقامته في القاهرة طموحه ولم يفعل هناك شيئاً ذا بال، ثم تعرّف إلى الفنان نجيب الريحاني صدفة في مقهى فسأله ما هو فاعل في القاهرة فأجابه بأنه جرّب حظّه فقال له إنّ الظروف ليست مواتية ونصحه بأن يرجع إلى بلده ويعود في ما بعد. أحسّ الصافي أنه سيُهان في مصر فاستدان خمسة جنيهات من المغنّي اللبناني محمد البكار الذي كان مقيماً في القاهرة، والباقي من الحاج بدران وأخذ بنصيحة الريحاني وعاد إلى لبنان بعدما أمضى في القاهرة سنة وشهراً.

في تلك الفترة (نحو 1945)، علم الصافي أن إذاعة الشرق الأدنى تطلب أصواتاً جديدة فشجعه شقيقه البكر توفيق على التقدم من امتحان الأصوات. وأمام لجنة من يحيى اللبابيدي ومحيي الدين سلام وألبر أديب، وقف يغني من الموشحات وبعض العتابا والميجانا ومقاطع من أغنيات محمد عبد الوهاب حتى إذا انتهى الامتحان خرج أعضاء اللجنة للتداول وعادوا بالنتيجة: تصنيفه فئة أولى في الإذاعة. وحين بدرت منه تحية شكر لينصرف دعاه إليه اللبابيدي وقال له: «إذا شئت أن تمتهن الفن يجب أن تغير اسمك. وخرج الشاب يومها من الإذاعة داخلاً مجتمعه وأسرته وعالمه المقبل بالاسم الجديد: وديع الصافي. يُقال إن حليم الرومي أطلق عليه هذا اللقب.

 بعد فترة قصيرة أتيح له أن يذهب إلى دمشق ليتقدم من امتحان أمام لجنة الأصوات فيها ولم يكن أعضاؤها مطلعين على نتيجة امتحانه في إذاعة الشرق الأدنى فإذا بهم بعد امتحانه يخرجون بالنتيجة البيروتية نفسها: تصنيف فئة أولى في الصوت وفي العزف على العود بعدما أتم دوزانه أمام اللجنة التحكيمية.

عاد إلى لبنان عام 1946 ليعمل مع الأخوين رحباني في مربع لنجيب عطيّة في شارع بشارة الخوري على طريق الشام في وسط بيروت، حيث كانت خاصة من المستمعين تأتي لتسمعه هو وعاصي ومنصور يعزفان معه، عاصي على البزق ومنصور على الكمان. كان يغنّي الميجانا والعتابا و{الفنّ» الجديدة لمحمد عبد لوهاب وأغنيات مصرية أخرى. وكان قد قرأ قصيدة لأسعد السبعلي في أحد دواوينه عنوانها «طلّ الصباح وتكتك العصفور» أعجبته كثيراً فأخذها وراح يغنيها فلاقت نجاحاً كبيراً.

في مربع نجيب عطية، تعرّف الصافي إلى مغترب لبناني ثري اسمه كميل كريدي كان يعزف على البيانو ويحب الموسيقى والغناء فنصحه بأن يجرّب حظه في البرازيل وموّل تذكرته على الباخرة، أما البذلتان اللتان أخذهما معه فكانتا من ريع حفلة وداعية أقيمت على الرميلة في بيروت قبيل سفره.

كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها وكانت عائلته تسكن بالإيجار لدى السيد معروف قليلات، ولم تكن قادرة على دفع بدل الإجار في موعده، إلا أنّ معروفاً لم يكن يسأل وكان يرضى التأجيل. لكن الصافي لم يحتمل هذا الوضع فقال إنه سيسافر ويعود بثمن بيت يأوي عائلته ويريح أبيه من دفع الإيجار أو لا يعود. سافر ومعه ليرة واحدة أخرجها من جيبه وقال لأخته جان دارك التي كانت تودّعه باكية في المرفأ: «هذه الليرة بيني وبين لبنان وسأرى ما سيكون بيننا». سافر ولم ينظر خلفه من الباخرة المبحرة من ميناء بيروت وكان ذلك عام 1947. سافرت معه على الباخرة نفسها الفنانتان حنان ونهاد بشعلاني فتولّى تدريبهما وكانت حنان مطربة مهولة أهم من نهاد.

كانت رحلته إلى البرازيل مغامرة فإما أن يعود بثمن بيت أو لا يعود. وصدف أن كانت رحلته أول رحلة اغترابية لفنان لبناني بعد الحرب العالمية الثانية، وجمع ثروة من سفرته الطويلة. كانت «طلّ الصباح» قد لاقت نجاحاً كبيراً في لبنان فأخذها معه إلى البرازيل ونشرها بين المغتربين هناك. وراح يغني إلى جانب المعنّى والميجانا والعتابا القصائد الفصيحة من بينها «ما لنا كلنا جوٍ يا رسول» لأبي الطيب المتنبي و{بين الخمائل والربى» لابراهيم البسيط وغيرها الكثير.

أصالة وعصرية

في سنواته الأخيرة حرص الصافي على أن يغني على المسرح مع نجوى كرم ووائل كفوري، وهو يقول إنه لا يتوقف عند جيل واحد، لذا يتوافق مع مطربي هذا الزمن فيمنحهم أصالة ويمنحونه عصرية، ورغم رصيده الضخم من الأغاني الناجحة الخاصة به فإنه كثيراً ما يتطلع إلى تقديم أغان للآخرين.

حمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلا أنه يفتخر باللبنانية ويردد أن الأيام علمته بأن ما أعز من الولد إلا البلد... من أحب الأغاني إلى قلبه «الليل يا ليلى»... ووصيته الدائمة لأولاده أن يتسلحوا بالمحبة: «لتكن المحبة زادكم اليومي وانتم تعملون... وانتم تأكلون وأنتم تتحدثون وأنتم تغنون»... سنة 1989، أقيمت له حفلة تكريم في المعهد العربي في باريس بمناسبة اليوبيل الذهبي لانطلاقته وعطاءاته الفنية.

back to top