القارئ بطل الرواية... القارئ هو الحكاية

نشر في 16-09-2013 | 00:01
آخر تحديث 16-09-2013 | 00:01
No Image Caption
ثمة كثير من الروايات العالمية والعربية اختار أصحابها أو كتّابها أن يكون البطل فيها قارئاً، والقراءة في الرواية تبدو رديفة لسرد الحكاية والدخول في المتاهة. حتى أبطال الروايات يظهرون كمخلوقات كتابية والكتب ككائنات حية لها روحها التي تنبعث من الكلمات، وأحياناً تصير أشبه بكوابيس.
تصنَّف {دون كيشوت} للإسباني ميغيل دي ثرفانتس في خانة أفضل مئة رواية في العالم، مع أن كوليردج قال (عن {دون كيشوت}) إنه كتاب يُقرأ قراءة كاملة مرة واحدة. أما في المرة الثانية فيمر القارئ على بعض صفحاته فقط. ولعله يعني بذلك أن بعض أقسامه مملة، بل وتافهة. دون كيشوت بطل ثرفانتس الذي أصبح مصطلحاً صحفياً واجتماعيا، رجل نحيف هزيل قد ناهز الخمسين يعيش في إحدى قرى إسبانيا إبان القرن السادس عشر. كان يمضي أوقاته بين كتب مكتبته يقرأ، ومن كثرة قراءاته في كتب الفروسية والنبل وحكايات البطولة كاد يفقد عقله وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية ثم بلغ به الهوس حداً جعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض ويخرجون كي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين.

ويعتبر دارسو أدب ثِرفانتِس أنه اتجه إلى نقد روايات الفروسية بهدف تقديم خدمة للأدب الوطني والأخلاق. وقد أشار الكاتب نفسه، أكثر من مرة، إلى كراهيته لهذا الفن الذي كان يسخر منه، فكتب في مستهلّ الرواية: {الهدف الأوحد من الكتاب هو تحطيم سلطان روايات الفروسية ومنع انتشارها في المجتمع الراقي وبين الناس البسطاء} و{تدمير البناء المقلقَل لروايات الفروسية، حيث إن كثيرين يعافونها، مع أن بعض الناس ما زالوا يمجِّدونها}.

الصراع ضد روايات الفروسية لا يخوضه الكاتب فحسب، بل بطله الذي يطلب إضرام النار في كتب الفروسية لتحقيق مطلب اجتماعي: {وفي تلك الليلة ذاتها، بفضل جهود الخادمة، تمَّ حرق الكتب كلها عن بكرة أبيها، سواء ما كان متناثراً منها في الفناء أو التي ظلَّت في الغرفة. وأغلب الظن أنه قد احترقت معها أيضاً تلك التي كان ينبغي وضعها في الأرشيف الأبدي، لكن سوء الطالع وكسل المفتش لم يريدا ذلك}. بل تمَّت أيضاً معاقبة غرفة الكتب، حيث {بنوا حائطاً لإخفاء الباب، كي لا يجدها دون كيشوت عندما يستيقظ}، ثم أعلنوا له أن ساحراً حمل الغرفة بما فيها من كتب!

وفي النهاية يستدرك مؤلف رواية {دون كيشوت} كي يعيدنا إلى اندحار بطله حيث يقوم البطل أو الفارس الجوال بحرق مكتبته بعد خيباته الطويلة وسياحاته اللامجدية.

«الحياة الجديدة»

ليس ثرفانتس وحده من وظف القراءة في روايته، ليكتب حكايات كثيرة مخترعة ومشوقة وكاذبة، لعبة الحديث عن الكتب والمخطوطات والقارئ متوافرة بقوة في كثير من الروايات العالمية، وكلما قدر الروائي على الخداع والكذب بطريقة محترفة، يزيد من وقع نصه لدى المتلقي، وتوظيف القارئ كبطل في الروايات هو جزء من منظومة أعذب الروايات أكذبها، نلمح بقوة كيف أن بعض أبطال روايات كونديرا مثقفون وينتقدون الشعر بقوة، خصوصاً جاروميل في رواية {الحياة في مكان آخر}. والقراءة أشبه بفخ في رواية {اسم الوردة} لأمبرتو إيكو يدفعنا إلى متابعة وقائع محاولات مستمرة للكشف عن سر الجرائم الغامضة المتتالية التي تقع داخل جدران أحد الأديرة في القرون الوسطى في إيطاليا. ويتردد الحديث عن كتاب مسموم يقال إن له {قوة ألف عقرب}. ويموت كل من يلمس صفحاته، لأن السم يتسرب إلى أصابعه التي تقلب هذه الصفحات. وهذا الكتاب الغامض المفقود، هو الجزء الثاني من مخطوطة الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن الشعر، وهو الجزء الذي خصصه للحديث عن الكوميديا والضحك. ثمة أسرار غامضة تكتنف اختفاء هذا الكتاب... وأخيراً يكتشف الشرطي وليام أن القاتل هو الراهب بورج، الذي أخفى المخطوط لأكثر من 20 عاماً، وقعت خلالها كل تلك الجرائم. فالراهب هو الذي وضع السم في صفحات الكتاب، حتى يضمن أن كل من يقرأ فيه يكون مصيره الموت.

قراءة الكتاب المسموم طريق إلى الموت في رواية إيكو، أما بالبطل القارئ في رواية {الحياة الجديدة} للروائي التركي أورهان باموق فيجد في القراءة وسيلة للانبعاث وتغيير الحياة والتجدد وحتى الموت. بطل الرواية شاب جامعي في بداية العشرينيات من عمره، يعيش حياة بسيطة كباقي أقرانه من الشباب في قرية طاش قشله التركية مع والدته... يقرأ بطل الرواية عُثمان كتاباً يقع بين يديه مصادفة ليغير الكتاب مجرى حياته. يعاود قراءة الكتاب عشرات المرات ثم إعادة صياغته وكتابته بلغته الخاصة. في كل مرة كان يقرأ فيها الكتاب ثمة ضوء قوي ينبثق منه تصعب على الشاب مقاومته. يُصاب بعدها البطل بوحدة وانعزال... بالإضافة إلى حالة من التشتت والتفكير بلا شيء سوى بالكتاب... ولكن ما هو هذا الكتاب؟ ومن مؤلفه؟ وما هي الأفكار التي تختبئ في ثناياه؟ كانت جميعها أموراً مجهولة وغامضة.

يغادر عثمان طاش قشله مع فتاه يقع في غرامها وتدعى جانان كانت فقدت عشيقها محمد الذي راح ضحية البحث عن الحياة الجديدة التي تحدث عنها الكتاب. يصل عُثمان وجانان إلى منزل نارين، الذي يحدثهما عن أمور كثيرة عن ابنه. يكتشف بطلا الرواية عثمان وجانان أن هذا الابن هو محمد (عشيق جانان السابق). يعود عُثمان إلى طاش قشله متمنياً إيجاد الحبيبة، وطامعاً في العودة إلى حياته السابقة (قبل قراءة الكتاب) ولكن الرياح شاءت أن تعاند سفنه.

    

لوليتا في طهران

 

الإيرانية آذر نفيسي أكثر مباشرة ووضوحاً في توظيف القراءة لقول أمور عن الحرية في روايتها، اختارت أن تكتب سيرة روائية، جوهرها أن أبطالها يقرأون الكتب لمواجهة نظام الملالي وبحثاً عن الحرية. من عنوان روايتها {أن تقرأ لوليتا في طهران} ندرك مآل ما تريده، إذ تروي قصة محاضرات في التمرد امتدت على سنتين، لقنتها آذر نفيسي لمجموعة من النساء الإيرانيات ابتداءً من عام 1995 بعد استقالتها من وظيفتها في الجامعة، وظيفة لم تستطع تحمّلها بسبب نظام الملالي الإيراني. على مدى سنتين، قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة، أسست نفيسي وطالباتها دائرة من الحرية الشخصية لهنّ، تخللتها قراءة روايات فلاديمير نابوكوف صاحب لوليتا وسكوت فيتزجيرالد وجاين أوستن وهنري جيمس. من خلال نقاشاتها مع طلبتها حول الكتب الأدبية، تسرد تاريخ أيام ما بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وتربط بين أفكار وشخصيات الروايات، وواقع إيران في تلك الأيام.

تروي آذر كل هذا التاريخ (1979 - 1997) بأسلوب سردي حميمي رائع من خلال حيوات وتجارب تلميذاتها وأصدقائها وعائلتها ومن خلال تجربتها الشخصية كأستاذة للأدب الإنكليزي في جامعات طهران فقد اضطرت إلى عيش الصراع حتى مع طلبتها الذين كان الكثير منهم منتمين إلى جماعات إسلامية ثورية تؤمن بأن الأدب الوحيد المسموح به هو الأدب الذي يخدم أغراضها وينقل قيمها. وتركز آذر بشكل خاص على تجربتها وتجارب طالباتها كنساء في بلد يتشدد في فرض القوانين على المرأة ويمكن أن يكون جنة للرجل.

ظل الريح

بالعودة الى ثرفانتس، أصدر مواطنه كارلوس رويث زافون روايتين نجد فيهما القراءة هي البطلة، القراءة هي المتاهة والجنون والسرد المشوق. الروايتان بعنوان {لعبة الملاك} و{ظل الريح} تكملان بعضهما من مختلف النواحي. تدور أحداث {ظل الريح} في برشلونة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. بطلها دانييل، ابن وراق يبيع الكتب المستعملة والنادرة، فتى في مقتبل العمر يعيش مع أبيه الذي يأخذه يوماً إلى مكتبة كبيرة تدعى {مقبرة الكتب القديمة}. مسار الرواية يشبه مسار بطل ثرفانتس.

في المقبرة يتعين على كارلوس رويث زافون أن يختار كتاباً يحتفظ به لنفسه. يختار دانييل كتاباً بعنوان {ظل الريح} لمؤلف غير معروف يدعى جوليان كاراكس. يقرأ دانييل الرواية بشغف وينغمس في صفحاتها وينسى ما حوله إلى أن يفرغ من القراءة. تشده الرواية إلى حد الهوس وفي الحال ينطلق للبحث عمن يكون جوليان كاراكس وما إذا كانت له مؤلفات أخرى.

يكتشف دانييل أن جوليان كان سافر إلى باريس وهناك تعرض للقتل ثم يكتشف أن ثمة من يطارده كي ينتزع الرواية منه. يكتشف أن الكتاب الذي بين يديه هو النسخة الوحيدة الباقية من الرواية. الشخص الذي يطارده يدعى لايين كوبيرت على اسم شخصية الشرير الشيطاني في الرواية. هذا الشخص الغامض سبق أن اشترى كل نسخ الرواية وأتلفها. وها هو يطارد دانييل لينتزع منه النسخة الأخيرة الباقية على قيد الحياة.

في رواية {لعبة الملاك} نذهب مجدداً إلى مقبرة الكتب. مثل دانييل، بطل رواية {ظل الريح}، فإن دافيد، بطل الرواية الجديدة، يعيش ويكبر بين الكتب. والده شخص جاهل، غير متعلم، يعامله بفظاظة وقسوة. أرسله إلى صاحب مكتبة كي يعمل لديه. راح دافيد يمضي وقته في المكتبة يقرأ القصص والروايات. في المكتبة يتعرف إلى أعمال تشارلز ديكنز ويتعلق بشكل خاص برواية {توقعات عظيمة}. يصبح مولعاً بديكنز وأعماله. يشبه بطل {توقعات عظيمة}، واسمه مأخوذ من اسم دافيد كوبرفيلد.

يبدأ دافيد كتابة قصص بأسماء مستعارة.  يتلقى اتصالاً من ناشر فرنسي، يعرض عليه فكرة: أن يكتب كراساً عن تأسيس دين جديد في مقابل ثروة مالية ضخمة. غير أن الصفقة أكبر من ذلك. دافيد مصاب بمرض عضال ويوعده كوريلي بأن يشفيه من مرضه إن هو نجح في كتابة بيان جيد. هذا الأمر يدفع دافيد إلى البحث والتقصي. يقوم برحلة طويلة إلى أماكن وجهات ويلتقي بأشخاص من مختلف المنابت والعقائد. خلال هذه الرحلة ننزل إلى أعماق برشلونة. في مقبرة الكتب يعثر دافيد على كتاب ألّفه شخص اسمه مارلاسكا. الكتاب كان محاولة لتأسيس دين جديد انتهى بمؤلفه إلى الجنون فالانتحار.  

 

هذه نماذج قليلة عن القارئ بطل الرواية، أو القارئ المتخيل كوسيلة لقول الحكاية وسردها للقارئ العادي، القارئ الذي يحمل الكتاب بين يديه ويقرأ عن القارئ، هكذا الثقافة لعبة تقوم على الدوران.

بالزاك

 ليست القراءة سبيلا إلى الحرية والحياة في إيران فحسب، بل في الصين الماوية أيضاً، ففي رواية {بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة} لداي سيجي يبدو أن الكتب تغيّر الحياة. نعلم أن داي سيجي أتى من اللغة الصينية إلى اللغة الفرنسية، كما جاء من السينما إلى الرواية، وفي انتقالاته تلك بعض ما يسم روايته. تصف {بالزاك والخياطة الصينية الصغيرة} الرحلة التي قام بها عازف الكمنجة مع صديقه ليو إلى الجبل الذي حكم عليهم المقام به لأجل إعادة التأهيل التي كانت تتم لكل أبناء الطبقة المثقفة عقاباً لعوائلهم على مخالفات يحظرها النظام الماوي في الصين الذي يصادر الحرية وحق اختيار المصير لأبناء شعبه ويحدد حتى الأطر التي يجب عليهم العيش بينها والتفكير بها حيث تعتبر القراءة ذنباً واقتناء الكتب جريمة قد تصل إلى حد العقوبة بالسجن، حتى لو كانت حكاية يستخدمها القارئ للخروج {من واقع} ممل إلى حياة أرحب حيث لا حدود للأفكار، نستطيع أن نكون أياً كان ونفعل ما نشاء، وبعد خطة صغيرة لسرقة كنز صديقهم {صاحب النظارة الأنفية} يتبادل الثلاثي {عازف الكمنجة، ليو العاشق، الخياطة الصينية الصغيرة} الكتب والحكاية، يعشقون حروفها، يتشربونها بدهشة تفتح لهم عوالم مخفية مغيبة لم يعيشوها سابقاً. تغيرهم الكتب من الداخل، تبني مكان من {كانوهم} قديماً، اكتشفوا النصف الآخر من الحياة النصف الممتع والمدهش ولأجل المتعة فحسب يقطعون الجسر.

 في الرواية شاعرة مصنّفة {عدوة للشعب}، تتظاهر بحياكة الصوف بينما {تكتب قصائد في رأسها}. وهذا ابنها الملقب طوال أحداث الرواية بـ{صاحب النظارة الأنفية}، أي التي تثبَّت على الأنف، من دون أن نعرف أسمه الحقيقي، يخفي حقيبة ملأى بالروايات الغربية، مصدر حبكة الرواية.

back to top