العالم يحتاج إلى العضلات الأميركية

نشر في 27-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 27-05-2013 | 00:01
No Image Caption
بدأ نمو القوة الجوية والبحرية الصينية يعيد ترتيب روابط القوى في آسيا، في حين يشكّل ضعف الاتحاد الأوروبي على الصعيد الجيو-سياسي (بسبب أزمته المالية المتواصلة) فرصة مؤاتية لبروز حلقة نفوذ روسية جديدة في أوروبا الوسطى والشرقية.
 Robert Kaplan لم تعد القوة الخشنة محبّذة منذ إخفاقات حرب العراق عام 2004، فقد كثر الكلام في مجلات السياسة الخارجية ومؤتمرات النخبة خلال السنوات الأخيرة عن "القوة الناعمة"، و"قوة الإقناع، والحاجة إلى إعادة إحياء وزارة الخارجية الأميركية، لا وزارة الدفاع: ألم تعلموا أن الدبلوماسية باتت الوسيلة الأهم اليوم، لا القوة العسكرية؟ ولكن ثمة حالات لا يكون الوضع فيها كذلك، حالات يطالب فيها أعضاء النخبة أنفسهم بالتدخل الإنساني في أماكن مثل ليبيا وسورية، وينسون القوة الناعمة بالكامل.

تُظهر الوقائع أن القوة الخشنة ضرورية بالتأكيد في عالم اليوم، وذلك لأسباب لا علاقة لها بالتدخل الإنساني. لطالما كان جوزيف س. ناي الابن، مسؤول حكومي سابق وبروفيسور في جامعة هارفارد صاغ عام 2004 مصطلح "القوة الناعمة" في كتابه الذي يحمل الاسم عينه، رقيقاً في تفكيره ليدرك أن القوة الخشنة لا تزال ملائمة أيضاً.

فبينما أدوّن هذا المقال، تواجه المنطقتان الأكثر أهمية بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والسياسية الطويلة الأمد، أوروبا وآسيا، تبدلات في ميزان القوى. فقد بدأ نمو القوة الجوية والبحرية الصينية يعيد ترتيب روابط القوى في آسيا، في حين يشكّل ضعف الاتحاد الأوروبي على الصعيد الجيو-سياسي (بسبب أزمته المالية المتواصلة) فرصة مؤاتية لبروز حلقة نفوذ روسية جديدة في أوروبا الوسطى والشرقية. لا شك أن هذين التحديين كليهما يتطلبان دبلوماسية قوية من الجانب الأميركي. إلا أن ما يحتاجان إليه حقاً التزام راسخ بالقوة الأميركية الخشنة. ولا تتردد الدول في هاتين المنطقتين الأساسيتين في التعبير عن ذلك.

يأمل حقاً المسؤولون الأمنيون في دول عدة مثل اليابان وبولندا وفيتنام ورومانيا، أن يكون كل هذا الكلام عن استبدال قوة الولايات المتحدة الخشنة بالقوة الناعمة مجرد كلام، خصوصاً أن نشر السفن الحربية والقوات الأميركية بالغ الأهمية بالنسبة إلى هذه الدول ومسؤوليها. فرغم الخلاصات المخيبة للأمل التي أسفرت عنها حربا أفغانستان والعراق، لم يسبق أن كانت قوة الولايات المتحدة الخشنة مهمةً إلى هذا الحد في أماكن هي بأمس الحاجة إليها.

تشكّل آسيا محور العالم السكاني والاقتصادي، فضلاً عن أنها منطقة تجتمع فيها كل خطوط التواصل البحرية الكبرى. وما لم تشهد الصين انتفاضة سياسية واقتصادية واسعة النطاق (لا يبدو ذلك وشيكاً)، فستتحوّل المملكة الوسطى إلى منافس الولايات المتحدة الأبرز في القرن الحادي والعشرين. ونتيجة النمو العسكري الصيني، بدأت اليابان تتخلى عن توجهها شبه السلمي وتتبنى موقفاً إيجابياً من التوسع العسكري. فعلى الصعيد النفسي، ما عادت اليابان تعتبر الوجود الجوي والبحري الأميركي في شمال شرق آسيا أمراً مسلماً به، لذلك تحاول بدأب استخدام القوة الخشنة الأميركية للتصدي لأي نزاع قد ينشب مع الصين بسبب جزر بحر الصين الشرقي المتنازَع عليها. تدرك اليابان جيداً أن قوة الولايات المتحدة الخشنة وحدها تستطيع موازنة القوة الصينية في المنطقة. على نحو مماثل، تعتبر كوريا الجنوبية القوة الخشنة الأميركية بالغة الأهمية. صحيح أن الجيش الكوري الجنوبي يستطيع الدفاع بمهارة عن نفسه ضد كوريا الشمالية، إلا أن الوجود الجوي والبحري الأميركي في المنطقة يؤمن ميزان قوى مؤاتٍ يحمي سيول من اعتداءات بيونغ يانغ وحلفائها في بكين. أما بالنسبة إلى تايوان، فيعتمد وجودها كدولة بحد ذاته على الانتشار العسكري الأميركي في المحيط الهادئ.

لا تخبروا المسؤولين في الفلبين أن القوة الخشنة الأميركية ما عادت ملائمة كما كانت في العقود الماضية، فعلى غرار اليابان، تبدو مانيلا اليوم، بعد سنوات من اعتبار القوة البحرية والجوية الأميركية أمراً مسلماً به، بأمس الحاجة إلى الدعم والوجود العسكريين الأميركيين كي تتمكن من التصدي للصين، التي تنازعها على جزر غنية بالموارد، على ما يبدو، فضلاً عن معالم جغرافية أخرى في بحر الصين الجنوبي. وعلى غرار اليابان وكوريا الجنوبية، تُعتبر الفلبين حليفاً للولايات المتحدة تجمعه بها معاهدة رسمية. ويعني كل ذلك أن هذه الدول مهمة. أما تايوان، فتُعتبر أحد أبرز الأمثلة على نجاح الديمقراطية في عالم خارج حدود الغرب. كذلك تتمتع هذه الدولة بأهمية جيو-سياسية حيوية بسبب موقعها عند خطوط التواصل البحرية الرئيسة. إذن، لتايوان أيضاً أهمية كبرى. برزت فيتنام بحكم الواقع كحليف أساسي للولايات المتحدة، فتُعتبر الدولة الأبرز في جنوب شرق آسيا التي تحول دون هيمنة الصين على بحر الصين الجنوبي، الذي يتمتع بأهمية استراتيجية أساسية. فماذا تفعل فيتنام؟ تعيد تجهيز خليج كام رانه وتحوّله إلى مرفأ عميق المياه كي تجتذب إليه سفن البحرية الهندية والروسية، وخصوصاً البحرية الأميركية.

تحاول ماليزيا الحد من علاقاتها بالولايات المتحدة كجزء من مناورة دبلوماسية دقيقة تتيح لها مجاراة الصين والعالم الإسلامي على حد سواء. رغم ذلك، ارتفع عدد زيارات السفن الحربية الأميركية إلى المرافئ الماليزية من 3 سنوياً عام 2003 إلى ما يفوق الخمسين. أما بالنسبة إلى سنغافورة، فقد أخبرني أحد دبلوماسييها: "نعتبر القوة الخشنة الأميركية أمراً إيجابياً. فالبحرية الأميركية تدافع عن العولمة بحماية الممرات البحرية، التي نستفيد منها نحن أكثر من غيرنا. ونرى أنه ما من جانب قاتم أو خبيث للولايات المتحدة وجهازها الأمني الضخم".

في عام 1998، بنى السنغافوريون قاعدة شانغي البحرية على أمل أن تستضيف حاملات الطائرات والغواصات النووية الأميركية. وفي عام 2011، زارت سنغافورة 150 سفينة حربية أميركية. أضف إلى ذلك السفن الحربية الأميركية الأربع التي أُعلن عام 2011 أنها ستتمركز في سنغافورة.

في الجانب الآخر من أوراسيا، يشعر الدبلوماسيون في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، رغم تصريحاتهم العلنية، بالقلق من ابتعاد الولايات المتحدة عن القوة الخشبة. ففي تسعينيات القرن الماضي، بدت الأوضاع الأمنية مؤاتية بالنسبة إليهم. كانوا يعملون على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، فيما راحت روسيا تضعف بسبب الفوضى التي عمتها نتيجة حكم بوريس يلتسين غير المنضبط. وهكذا، بعد قرون من الحرب المتواصلة، بدأت هذه الدول أخيراً تهرب من التاريخ، إذا جاز التعبير. لكن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، اللذين كانا قويين ومتماسكين في تسعينيات القرن الماضي، باتا اليوم سقيمين جداً. في المقابل، استعادت روسيا في الوقت الراهن عافيتها من خلال مزيج من عائدات الغاز الطبيعي وحكم فلاديمير بوتين المستبد الديناميكي. وهكذا، عادت روسيا مرة أخرى لتشع على عتبة أوروبا، ما يولد الخوف في نفوس البولنديين والرومانيين وغيرهم.

لننسَ أمر حلف شمال الأطلسي، فمع تراجع ميزانيات الدفاع في كل الدول الأعضاء الأوروبية تقريباً، يُهمَّش حلف شمال الأطلسي تدريجياً. نتيجة لذلك، يُطالب البولنديون والرومانيون وغيرهم بقوة خشنة أميركية أحادية الطرف. فقد ساهم البولنديون والرومانيون طوال سنوات في البعثات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق وإفريقيا السوداء. ولا تعود مشاركتهم في هذه العمليات إلى أنهم يؤمنون بها فحسب، بل إلى أنهم يريدون أيضاً أن يبرهنوا للولايات المتحدة أنهم حلفاء شجعان يُعتمد عليهم، ما يدفع قوات الولايات المتحدة إلى الوقوف إلى جانبهم عندما يحتاجون إليها في المستقبل.

أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وإسرائيل، والأردن، والمملكة العربية السعودية، ودول الخليج العربي، فكلها تبدو بأمس الحاجة إلى القوة الخشنة الأميركية. وإن لم تحتج إليها على وجه الخصوص لتنفيذ هجوم ضد منشآت إيران النووية، فلا يمكنها الاستغناء عنها في تعزيز ميزان القوى الذي يتصدى للهيمنة الإيرانية الإقليمية.

باتت القوة الناعمة مصطلحاً رائجاً في أعقاب التوسع الأميركي المبالغ فيه في العراق وأفغانستان، لكن القوة الناعمة يجب أن تكون مكملاً أساسياً للقوة الخشنة ووسيلة الحدّ من التشديد على هذه الأخيرة، لا بديلاً لها. فلا تُعتبر الغزوات الأميركية ونشر الجنود على الأرض تطبيق القوة الخشنة الأمثل، فتُطبق هذه القوة بالطريقة الفضلى عندما تنشر العظمة الأميركية في مساحات واسعة من الأرض، خصوصاً بواسطة أصولها الجوية والبحرية، بغية حماية حلفاء الولايات المتحدة، والتجارة العالمية، والنظام البحري الليبرالي. إذن، يجب ألا تتخلى الولايات المتحدة مطلقاً عن قوتها الخشنة.

back to top