في ظل غياب «الهيمنة»... العالم يسير نحو الفوضى!
صارت الدولة المهيمنة والدول الكثيرة التي تؤثر فيها ضعيفة. وهكذا بدأت الهرمية تتداعى على شتى المستويات. في المقابل، تزداد المساواة بروزاً في السياسة الجغرافية: فما عادت الهيمنة الأميركية قوية. وفي دول أخرى، مثل مصر، وسورية، وليبيا ما عادت القوى الداخلية تخضع للنظام.
لا شك أن الجميع يؤيدون المساواة: المساواة بين الأعراق، والمجموعات الإثنية، والجنسين، وغيرها. لكن المشكلة تكمن في أن المساواة الجيو- سياسية لا تنجح. طوال عقود، شهدت أوروبا مساواة صعبة بين الدول الكبرى، أو ما أطلق عليه في الغالب نظام توازن القوى. لكن هذا النظام أدى إلى حروب كثيرة. في المقابل، نظمت منطقة شرق آسيا علاقاتها بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر وفق نظام قبلي كانت فيه الصين المهيمنة. نتيجة لذلك، ساد آسيا جوٌّ أكثر سلاماً، مقارنة بأوروبا، حسبما يرى العالِم السياسي ديفيد كانغ في جامعة جنوب كاليفورنيا.إذن، تُظهر الوقائع أن الهيمنة بطريقة أو بأخرى، سواء كانت مستبدة أو لا، تملك فرصة أفضل لمنع اندلاع الحروب، مقارنة بنظام لا يكون فيه أحد مسؤولاً، أو لا يكون فيه أحد القائد، إذا جاز التعبير. نتيجة لذلك، يذكر كينيث والتز، عالِم سياسي من جامعة كولومبيا يعتبره البعض من الأشد واقعية، أن نقيض "الفوضى" ليس الاستقرار، بل "التسلسل الهرمي".تلغي الهرمية المساواة، وتوحي بأن البعض هم حقاً "أكثر تساوياً" من الآخرين. ويساهم هذا الشكل الرسمي من عدم المساواة (الذي يتمتع فيه شخص أو دولة أو مجموعة ما بسلطة أوسع وقوة أكبر من الآخرين) في منع تفشي الفوضى. ويمهد عدم المساواة بحد ذاته غالباً الطريق أمام السلام.تُعتبر الحكومة الشكل الأكثر شيوعاً من الهرمية. فتحتكر الحكومة استخدام العنف في مساحة جغرافية محدَّدة، ما يحول دون انتشار الفوضى. وكما ذكر توماس هوبز، فيلسوف إنكليزي من القرن السابع عشر، لا يكون للصواب والخطأ أي معنى إلا عندما يكون من الممكن معاقبة الأشرار، ويتطلب هذا اللجوء إلى "بعض القوة القاسية".تُعتبر الهيمنة أفضل أنواع عدم المساواة. ففي حين يعتمد التفوق، كما ذكر كانغ، على السيطرة من خلال القوة العسكرية أو الاقتصادية فحسب، تشمل الهيمنة "الشرعية والإجماع". ويعني ذلك أن الهيمنة نوع من عدم المساواة المتفق عليه، يتوقع فيه الآخرون من القوة المهيمنة أن تتولى القيادة. وعندما تمتنع هذه القوة عن القيادة، ينم تصرفها هذا عن عدم تحمل للمسؤولية.صحيح أن وسائل الإعلام تقدّم صورة سيئة عن الهيمنة، لكن ذلك يعود إلى أن الصحافيين يسيئون التمييز بين المصطلحات، حتى عندما يحكمون بتعالٍ على الحقبات التاريخية السابقة من خلال معاييرهم الخاصة الصارمة. لكن الوقائع تُظهر أن حقب السلام النسبي خلال معظم التاريخ البشري كانت نتاج الهيمنة بطريقة أو بأخرى. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وقت ليس ببعيد، أدت الولايات المتحدة دور القوة المهيمنة في سياسات العالم. صحيح أن الولايات المتحدة دولة ديمقراطية في الداخل، إلا أنها مهيمنة في الخارج. لذلك تشمل مسؤولياتها القيادة، وفق بعض المقاييس القاسية للتوافق الدولي. شكلت الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي في أوروبا، رغم أن قواتها البحرية والجوية تمارس قوة كبيرة في المحيط الهادئ. وعندما تقع كارثة إنسانية في العالم النامي، يُتوقع من الولايات المتحدة أن تنظم رداً. لا شك في أنها أخفقت أحياناً. ولكن من دون الهيمنة الأميركية سنشهد عالماً مختلفاً أكثر فوضوية.ولكن يبدو أن بعض أوجه هذه الهيمنة بدأت تتراجع. وهذا ما يجعل هذه المرحلة المفصلية في التاريخ مميزة. فما عاد حلف شمال الأطلسي كما عهدناه سابقاً. كذلك لم تعد القوات الأميركية في المحيط الهادئ بنفس القوة عينها كما في الماضي، وخصوصاً أن الصين تتصدى اليوم للهيمنة الأميركية في المنطقة. لكن الأهم من ذلك أن رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما يطوّر عقيدة تعتمد على تنفيذ ضربات دقيقة ضد أفراد محددين تترافق مع الامتناع عن التدخل (أو الحد الأدنى من التدخل) في الاضطرابات الإقليمية. وتشكّل ليبيا وسورية خير مثال. وهكذا تكون قد ولت الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة مستعدة دوماً لتصويب الأمور في هذا البلد أو ذاك.في مسألة الشرق الأوسط الكبير، يبدو أن الأميركيين يريدون الحماية بدون تكبّد كلفة كبيرة، وهذا ما يقدّمه لهم أوباما. نقتل الإرهابيين بواسطة طائرات من دون طيار. ولكن باستثناء بعض قوات العمليات الخاصة، لم تُنزل الولايات المتحدة على الأرض أي جنود في ليبيا، سورية، أو أي دولة أخرى. أما بالنسبة إلى إيران، ومهما أعلن البيت الأبيض، فإنه يسود اليوم المفهوم أن الإدارة الأميركية تفضّل احتواء دول إيرانية نووية على أن تنفّذ ضربة عسكرية لتمنع إيران من تطوير أسلحة نووية.لا يُعتبر هذا التبدل بحد ذاته استثنائياً. فقد امتنعت إدارات سابقة عن استخدام القوة. ففي العقود الأخيرة، كان جورج بوش الابن وحده مّن تبنى مفهوم إنزال أعداد كبيرة من الجنود على الأرض في حرب اختيارية، ولم يعمد إلى ذلك إلا بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. رغم ذلك، حدث تبدّل ما. ففي عالم الدول القوية، عالم يمتاز بالهرمية، اعتادت الولايات المتحدة فرض تطبيق القواعد والتنافس مع دولة مهيمنة أخرى، الاتحاد السوفياتي، لتحقيق ذلك. وقد استندت الولايات المتحدة في مهمتها هذه على دبلوماسيتها الراسخة التي كانت تدعمها عادة بالتهديد باللجوء إلى القوة العسكرية. فاشتهر ريتشارد نيكسون، ورونالد ريغان، وجورج بوش الأب بتعزيزهم الدور القيادي الأميركي وتطبيقهم سياسة خارجية فاعلة وقاسية أحياناً. ولكن منذ انتهاء الحرب الباردة وتسلّم بيل كلينتون السلطة، بدت القيادة الأميركية غير جدية. فقد طُبقت أحيانًا بطريقة عشوائية وغير متقنة، وكانت أحياناً أخرى شبه غائبة. وتجلى هذا الواقع بوضوح مع تراجع دول الشرق الأوسط الكبير بحد ذاتها.بكلمات أخرى، صارت الدولة المهيمنة والدول الكثيرة التي تؤثر فيها ضعيفة. وهكذا بدأت الهرمية تتداعى على شتى المستويات. في المقابل، تزداد المساواة بروزاً في السياسة الجغرافية: فما عادت الهيمنة الأميركية قوية. وفي الدول الأخرى، مثل مصر، وسورية، وليبيا، والعراق، وتونس، وغيرها، ما عادت القوى الداخلية تخضع للنظام. كذلك لم تعد دول، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وباكستان، تدعم الولايات المتحدة بالقدر الذي ألفناه سابقاً، ما يزيد من ضعف الهيمنة الأميركية. علاوة على ذلك، بدأ الاتحاد الأوروبي يضعف أيضاً كمبدأ تنظيمي سياسي، مع أن دولة الحزب الواحدة في الصين تتعرض لضغوط متزايدة.رغم ذلك، يجب ألا نخلط بين الفوضى والديمقراطية في الشرق الأوسط. تتضمن الديمقراطية نظاماً هرمياً غير متساوٍ، مع أنه يُحدَّد من خلال أصوات الناخبين. وما نشهده في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون ديمقراطية لأنه لا يحتوي على أي هرمية جديدة ناضجة كفاية. لا، ما نراه في مواضع كثيرة من الشرق الأوسط ما هو إلا تراجع السلطة المركزية مع غياب أي هرمية جديدة لتحل محلها.ما لم تتمكن بعض القوى، مع أن الظروف غير مواتية، من إعادة إرساء الهرمية (سواء كانت الهيمنة الأميركية التي تبسط سلطتها عالمياً، منظمة دولية تنشط إقليمياً، أو، مثلاً، الجيش المصري يبسط سلطته داخلياً)، فعلينا أن نتوقع المزيد من التقلبات والمساواة وبالتالي المزيد من الفوضى. وهذا مقلق بالتأكيد، لأن الحضارة ترفض الفوضى. يذكر هرمان مالفيل بأسى في روايته "بيلي باد" (1924) أنه من الضروري التضحية بالجمال بحد ذاته بغية الحفاظ على النظام. فكل الأمور تنهار من دون النظام ومن دون الهرمية.