أمي

نشر في 10-09-2013
آخر تحديث 10-09-2013 | 13:01
 باسم يوسف "أنا خايفة عليك"

أكثر جملة كانت تقولها أمي في كل مرة نختلف فيها.

"أنا خايفة عليك"

أكثر جملة قيلت في كل مرة ثار بيننا خلاف، كانت تكررها كثيراً حين فضلت أن أسافر بدلاً من أن أبقى في مصر وأتزوج أولاً "زي كل اللي في سني"، تأخر بي سن الزواج، وكانت أمي لا تهتم بحصولي على الماجستير أو الدكتوراه أو أن أنجز أي شيء على المستوى المهني، المهم ان ربنا يهديني وأتزوج.

"أنا خايفة عليك"

ظننت أن هذه الجملة سوف تتوقف بعد أن أتزوج، ولكن جاء دخولي المجال الإعلامي صدفة ليزيد خوفها وقلقها، كانت قلقة من أن تسبب آرائي لي المشاكل في فترة مضطربة في وطن مضطرب لا أحد فيه يعلم أي شيء إلا شيئاً واحداً فقط: أن الكل خائف، الكل مرعوب، وفي فترات الخوف والرعب يختفي المنطق ويتحكم العنف والغضب والعشوائية في تصرفاتنا.

"أنا خايفة عليك"

قالتها حين هاجمتُ الإعلام والمجلس العسكري والإخوان والرئيس.

مع أنها كانت تفتخر بي أمام أصدقائها إلا أن الخوف والقلق كانا يحددان علاقتنا دائماً.

كأن الأم وجدت في هذا العالم لتقوم بهذه المهمة فقط: الخوف علينا.

"أنا عايزاك تدخلني على النت".

مع أنها أستاذة جامعة مخضرمة والتعليم هو مجالها إلا أن الإنترنت كان هو التحدي الأكبر بالنسبة لها، بعد أن قطعنا شوطاً كبيراً في أن تفهم موضوع البريد الإلكتروني، قررت بعد الثورة وبعد أن بدأ "البرنامج" على "اليوتيوب" أن تتعرف على اليوتيوب ومعه الجانب المظلم من الإنترنت: فيسبوك وتويتر وعالم التعليقات المريع.

"يرضيك أمك تتشتم؟"

لم تصدق كم البذاءات التي كانت تقرأها على الإنترنت والتي تبدأ بـ "يا ابن....".

كانت تأخذ هذه الشتائم بشكل شخصي وفشلت محاولاتي في أن أشرح لها أن عالم تعليقات وشتائم الإنترنت ما هو إلا مستنقع كبير تتكاثر فيه شخصيات لا حياة لها ولا هم لها إلا شتيمة خلق الله، لم تفهم لماذا يشتم الناس بهذه الطريقة ولم تفهم لماذا يسب الناس شخصاً بأمه لمجرد أن رأيه لا يعجبهم أو لمجرد أنهم لا يضحكون على ما يقول.

حين انفجرت بالوعة الشتائم في وجهنا لم أستطع أن أفعل شيئا لتهدئة أمي، كانت غاضبة، وهذا الشخص الشتَّام يلف على القنوات لا ليشتمني ولكن ليشتم أمي، لا ليواجه سخرية بسخرية بل ليخوض بدناءة منقطعة النظير في الأعراض، شخص كل مواهبه الشتيمة وإلقاء البذاءات على الناس وتكرار كلمة "أمك" كل خمس ثوان، لأن هذا هو "تمامه" الذي يترجم عجزه إلى هجوم على أعراض الناس بدلاً من مواجهتهم كالرجال.

لم تصدق أمي أن تجتمع صفات مثل الحقارة وقلة الأدب والكذب في شخص واحد بهذه الطريقة.

"هو بيجيب سيرتي ليه؟"

تساءلت متعجبة وهو يشتم ويفتري ويقول إنه كلمها أو يعرفها.

حين قررنا اتخاذ الإجراءات القانونية لمقاضاته بتهمة السب والقذف رفضت أمي وقالت: "أنا ست كبيرة، لا أقبل أن أكون محور قضية يذكر فيها اسمي مع هذا الشخص، أنت عارف القضايا بتأخد قد إيه، أنا مش حمل الهم ده".

حين حاولنا إقناعها ردت بجملة واحدة: "ربنا حياخدلي حقي".

نجلس أنا وأخي في السيارة التي تقطع بنا الطريق إلى الساحل الشمالي، أبي وحده هناك ينهي الإجراءات في انتظارنا لنعود به هو وجثمان أمي إلى القاهرة، لا يوجد أي كلام يقال، يحاول كل منا ألا يبكي بصوت عالٍ حتى لا يبدأ الآخر في البكاء أيضاً، كنا نبكي "إلى الداخل".

لاحقاً سوف تنفجر كل هذه الدموع.

كلما تكلمت مع أمي في السياسة توترت المكالمة، "مش عايز أتكلم في السياسة" كانت هي الجملة التي أنهي بها المكالمة بعد أن تتوتر.

"أنا خايفة عليك"

كان ردها دائماً لخوفها أن تجلب آرائي المشاكل، في أقل من سنتين تم اتهامي بأنني متآمر وخائن وإخوانجي وطابور خامس وكافر وماسوني وعميل وتلقيت تهديدات بالقتل والتفجير ومعها يتم شتمها هي بدون ذنب.

توترت مكالماتنا في الفترة الأخيرة بسبب السياسة التي فرقت بين العائلات والأسر، في ليلة وفاتها تكلمنا في كل شيء إلا السياسة، تكلمنا في اليوم العاصف الذي مر عليهم في الساحل الشمالي وكيف أثر ذلك على شجرة الجهنمية التي زرعتها بيدها، تكلمنا عن نادية الصغيرة وعن شقاوتها، لا أعلم إن كنت سميتها نادية لأنني أحب هذا الاسم أم أنها خطة خبيثة لأنال رضاها عني وعن زوجتي للأبد.

"راجعة أمتى القاهرة؟"

"مش راجعة، أرجع ليه؟"

قالتها بحزن وبعفوية بسبب ما تشاهده على التلفاز من قرف سياسي يومي.

أمي لم ترجع فعلاً.

منذ سنوات طويلة توفيت جدتي بعد صراع طويل مع المرض والشيخوخة والزهايمر.

"أوعوا تخلوا حد يشوفني كده".

كانت هذه وصيتها لنا إذا تدهورت صحتها ألا يراها أحد، هذه المرأة القوية العنيدة لم تحب أن تظهر أبداً بمظهر ضعف، حتى حين نصحها الأطباء بأن تستخدم عكازاً بسبب التهاب الأربطة المزمن في كاحلها فضلت أن تتحامل على نفسها لأنها اعتبرت أن وقوفها أمام الطلبة بمساعدة عكاز يؤثر على "البرستيج" الذي تحب دائماً أن يحيط بها.

تجنبت أمي مصير جدتي، قامت لصلاة الفجر.

ثم نامت.

ولم تستيقظ.

"دي موتة أنبياء"

قالها السائق البسيط ليخفف عني.

نعم ذهبت أمي بهدوء وسلام ولم تعانِ كما تمنت بالضبط، كم هو شيء جميل وهادئ لها، كم هو شيء مفاجئ وقاس وصادم وفاجع ومؤلم لنا.

كده؟ تمشي وتبعدي كده؟

ينخرط أهل المتوفى في طقوس وأفعال كثيرة أثناء الغسل والدفن والعزاء، يؤمنون أنهم بذلك يخففون عن الميت ويثبّتونه، لكننا في الحقيقة نفعل ذلك للتخفيف عنا نحن، ندعو الله أن يثبّت الميت عند وفاته، لكن في داخلنا نريد من الله أن يثبّتنا نحن.

ألا ندعو له "اللهم أبدله أهلاً خيراً من أهله"؟

أي إنها الآن في مكان ومع ناس خير منا ولا تحتاجنا ولا تحتاج إلى طقوسنا.

نحن من نحتاج إليها.

 هي رحلت ولم يعد لجسدها قيمة إلا لنا نحن لنتجمع حوله ونمارس طقوسنا وشعائرنا لنوهم أنفسنا بأهميتنا أو أن ما نفعله سيحدث فرقاً.

يزداد البكاء للداخل وينفجر على فترات ونتساءل هل لهذا المخزون من الحزن من نهاية؟!

يأتي الناس لتقديم واجب العزاء، وتقال نفس الكلمات بطريقة ميكانيكية: "البقاء لله" ، "البقية في حياتك"، "شد حيلك"، نتجاوب بطريقة أكثر ميكانيكية فنردد كلمات بتلقائية

"شكراً"، "الحمد لله"، "إن شاء الله"، أو نصمت أو ننفجر في البكاء.

هناك أشياء لابد من فعلها، كتابة النعي، إجراءات الجنازة والعزاء.

 متى قرر الجنس البشري أن يغرق نفسه في تفاصيل دنيوية في وسط حدث لا يمت للدنيا بصلة؟

يقولون إن الحزن يبقى ولكن تخف وطأته، ولكن ماذا عن الأشياء التي تذكرك بها فيخرج منك كل هذه الدموع التي كنت تبكيها إلى الداخل.

الموضوع أكبر من أماكن وضعت فيها بصماتها الواضحة وأكبر من أشياء كنا نفعلها سوياً، فكل شيء حولك هو لها، الأثاث في المنزل الكبير، الحديقة التي زرعتها بنفسها في الساحل، نجلس أنا وأبي وأخي لنتجاذب أطراف الحديث فنبذل جهداً مضاعفاً لنأتي بحديث لا تكون هي محوره، كيف يحدث ذلك وهي كانت كل شيء،  كل شيء، هي كانت السبب لكل شيء.

 تكتشف أنه حتى مع تقدم سنك فإنك تريد أن تفعل أي شيء لتفرح بك أمك، من أول رسمة ساذجة في المدرسة إلى مقالك أو برنامجك الأسبوعي.

هناك طفل صغير بداخلنا يريد أن يجري لأمه ليريها ما يفعله.

من سأذهب لها الآن لأخبرها ما فعلت هذا الأسبوع وهي تخفي فرحها لتقول لي جملتها المليئة بالحب والقلق والتوجس:

"أنا خايفة عليك"

يقولون إن الحياة تستمر وإنك ستعود تعمل وتجتهد وتبدع في حياتك.

ربما يحدث ذلك.

ربما نستمر لمجرد أننا نحتاج أن نفعل شيئاً ما بحياتنا.

لكن بعد أمي لا طعم لكل ذلك.

بعد أمي لا قيمة لكل ذلك.

بعد أمي لا شيء يهم.

* ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top