{الأيقنة} المفرطة في السياسة اللبنانية

نشر في 07-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 07-08-2013 | 00:01
No Image Caption
تنتشر في لبنان ظاهرة استعمال الأيقونات الدينية وبعض الرموز الأخرى في إطار الترويج لبعض الشخصيات السياسية، لا سيما أن السياسة في هذا البلد تقوم بدرجة بارزة جداً على الأشخاص.
تميل الأحزاب في لبنان، كذلك الجماعات والميليشيات اللبنانية، إلى أيقنة قادتها بطريقة «مفرطة» على حد تعبير الكاتب الألماني تيودور هانف، إذ إن ملامح السلطة والزعامة تبرز عبر الصور والرسوم الكثيرة للزعماء أكثر ممّا تبرز عبر البيارق أو الأزياء الموحّدة. والولاء السياسي هو ولاء لأشخاص بدرجة أولى أو للمنظمات أو البرامج بدرجة ثانية.

يمكننا التطرق إلى ثلاثة نماذج للأيقنة المفرطة في لبنان، وهي أمين عام {حزب الله} حسن نصر الله والرئيسان الراحلان كميل شمعون وبشير الجميل. قد يكون تناولهم مرآة للسياسات اللبنانية، مع التذكير بأن غالبية الجماعات السياسية اللبنانية (والعربية) تتهافت خلف سياسة {الأيقنة المفرطة} بدءاً من الحزب السوري القومي زعيمه أنطوان سعادة مروراً بالحزب الاشتراكي ومعلمه كمال جنبلاط وحركة {أمل} وإمامها موسى الصدر، وصولاً إلى جمال عبد الناصر والخميني...

الأيقنة المفرطة في تجلياتها القصوى يكثر حضورها في هذه الأيام لدى مجتمع {حزب الله} ودولته، فمنذ {حرب تموز} 2006، أصبح جمهور {حزب الله} يردد عبارة {فِدا إجر السيد حسن} (و{فدا المقاومة})، ولم يعد ترداد هذه العبارة يقتصر على الجلسات الخاصة والزواريب بل بات لازمة في وسائل إعلام {حزب الله}، في كل مناسبة وفي كل مأساة وفي كل حادثة، وكأن الحزب يحولها إلى ثقافة مرغوب فيها، بعدما قرن اسمه باسم الجلالة، واعتبر كل حروبه إلهية ومقدسة.

 ولم يعد مستغرباً أن تحاك الأساطير والتوهمات حول شخصية نصر الله، فبات له مدلول {طوباوي خلاصي} لدى كثير من جمهوره، خصوصاً بسبب تخفيه خوفاً من استهداف إسرائيلي، واعتماده الشاشة العملاقة لإلقاء خطبه.

أبعد من ذلك، قبل مدّة ظهرت صورته في سبحة كانت تباع في عدد من المحال التجارية في منطقة {بيروت الشرقية}، تضم صور قديسين مسيحيين، من بينهم مار شربل والقديسة رفقا وصورة للعذراء. وأحدثت السبحة القلاقل في الوسط المسيحي، باعتبار أن الأيقنة المفرطة لشخصية ما في المجتمع والسياسة تقلق أبناء الطائفة الواحدة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بصورة رجل دين شيعي زجت في مسبحة تضم صور قديسين مسيحيين.

صورة نصر الله ضمن سبحة القديسين أمارة بالتأويل وهي موجهة، في لبنان على الأقل، للإقناع (للإشهار والدعاية) وأتت في مرحلة {التفاهم} بين {حزب الله} والتيار الوطني الحر، وبات رائجاً أن يتحدث نائب عوني بالمدلولات الدينية الشيعية في الوسط المسيحي، أو أن يتحدث نائب من {حزب الله} بالقيم والرموز المسيحية، وذلك كله ليس للدلالة على الإيمان، بل في إطار المنحى العام لتثبيت {التفاهم} الذي وصف بالغير المنطقي.

انقلاب أبيض

وما تفعله جموع {حزب الله}اليوم من خلال وضع صورة نصر الله بين القديسين، فعل مثله مناصرو الرئيس كميل شمعون في الخمسينيات، لكن بوتيرة أقل. فشمعون الذي جاء بانقلاب أبيض وذهب بثورة {نصف حمراء} كما قيل، نجد أن حضوره في النسيج الاجتماعي والشعبي كان له بعد أسطوريّ وبطولي في المتخيل الماروني المسيحي. في المقابل، سيلجأ كثير من المسلمين لاختيار جمال عبد الناصر أيقونتهم، وبإزاء هذا سيشهد {الشارع} انقساماً طائفياً، بين غلاة العروبة الذين يقدسون ناصر وغلاة اللبنانوية الذين يفرطون في أيقنة شمعون. وقد انتبه المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه مبكراً للأيقنة الشمعونية المفرطة في لبنان، فكتب عام 1961 دراسة بعنوان {السياسة والدين في الشرق الأوسط: دراسة للأيقونات الدينية للموارنة في لبنان}، نشرها في كتاب {حبر الشرق/ بين الحروب وصراع السلطة}، وهو ينطلق في دراسته من صورة جمال عبد الناصر التي كانت تعدّ في تلك المرحلة {رمزاً للوحدة العربية}، متطرقاً إلى حساسية الصور ودلالتها التي تؤثر في منطقة جعلت {الحركات أو الأحزاب السياسية التحديثية الصورة الشخصية عنصراً مهماً في علاقاتهم الوجدانية مع الجماهير (أو الجمهور)}.

ويقرأ صاحب كتاب {مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية الأوروبية} الحياة العامة للسياسة اللبنانية من خلال صور شمعون التي تخاطب وجدان الموارنة. فالصورة الأكثر شهرة وانتشاراً في زمن الخمسينيات بين المسيحيين هي تلك التي تجمع بين العذراء وكميل شمعون، وهي الصورة التي تم تداولها بمناسبة دينية مارونية مع احتفال بحدث سياسي، كما يشي بذلك ما كتب على تلك الصورة من تعليق: {سيدة التلة شفيعة دير القمر تحضن ابنها البار كميل نمر شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية، مقدمة من أرنست أفرام البستاني في 9 مارس 1953}.  

التقطت هذه الصورة عند مصور يدوي ماروني يعيش في بيروت، وكانت تعلق على جدران غرف الجلوس، قي مكان بارز، في إطار مذهب ضمن صور أخرى دينية يزين بها عادة المسيحيون بيوتهم، وقد وضعها العمال بالقرب من أجهزة عملهم. حتى إن سائقي سيارات الأجرة يضعونها داخل سياراتهم بين صور دينية أخرى.

كان سعي شمعون الذي وصف بـ{المحنك} و{الثعلب}في وضع نفسه تحت وصاية سيدة دير القمر موفقاً: فهذه الدعاية السياسية ذات الصبغة الدينية لا يمكنها إلا أن تمس وجدان الموارنة الذي يصر على تقاليد السيدة العذراء الدينية التي يتعلق بها كثيراً. فسيدة التلّة تمثل أحد العناصر الأكثر أهمية بالنسبة إليه، سواء بما يتعلق بنفوذها الديني أم بما يتعلق بالذكريات التاريخية التي تستدعيها.

الصورة الثانية التي كتب عنها شوفالييه تمثل رسماً لكميل شمعون في قلب المسيح المقدس، وهي لم تطبع بشكل تجاري في مطبعة، بل هي مجرد صورة، يعود تاريخها إلى عام 1958 الذي شهد صدامات دامية فرضت على شمعون أن يتخلى عن التمديد لولاية رئاسية جديدة، بعدما صمد لبعض الوقت أمام {التمرد} الذي هاجم سياسته. ألصق المصور صورة لشمعون على صورة كبيرة لقلب المسيح المقدس، ثم صوَّرها وطبعها ووزعها.

الصورة الأولى لكميل شمعون مع العذراء كانت علامة انطلاقه وصوته نحو الرئاسة والصورة الثانية مع المسيح تنهي فترة مأساوية من تاريخ لبنان. حتى لحظات وداع الرئيس شمعون القصر الجمهوري في القنطاري كانت أشبه بوداع كنسي. أصدر الدكتور زيدان كرم، طبيب شمعون الخاص، قبل مدة كتاباً عن شمعون يظهر جوانب مهمة من الإفراط في أيقنة الرئيس {النمر} كما تحلو للبعض تسميته، والمشهد الأكثر دلالة كان في لحظات مغادرة شمعون قصر القنطاري الرئاسي. يقول كرم: {في 23 أيلول 1958 تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، جرى حفل التسلّم والتسليم في قصر القنطاري. خيّم على مشهد وداع الحرس الجمهوري للرئيس جوّ عاطفي، وساد الذهول محيط الرئيس وكتب أحدهم لشمعون: {ليحفظك الله! أنت أنقذت لبنان! لا تتركنا!}. قد تكون هذه المناجاة تعبيراً واضحاً عن فكرة البحث عن المخلًص والمنقذ التي كانت تطمح اليها مجموعة من اللبنانيين، والمناجاة هنا تبدو كأنها شعور باليتم بعد ترك الزعيم السلطة تحت وطأة الأحداث والتحولات والحروب، وقد غلّب الجمهور المسيحي في تعاطيه مع صورة شمعون المنطق الكنسي الديني على الواقع السياسي، وبالتالي غلب على صورته الترجيح الأهلي الخلاصي والشعبوي و{الطوباوي}.

فتى الكتائب

تكرَّر مشهد مزج الصورة الشخصية بالرمز الديني بطريقة أشمل وأكثر لحظة اغتيال الرئيس بشير الجميل عام 1982. يتأرجح {فتى الكتائب} بالنسبة إلى محازبيه بين القداسة بمعنى أنه {المخلّص}، والمتواضع أي أنه يتصرّف في حياته كما لو أنه من العوام والناس العاديين، فالحكايات في هذا الإطار كثيرة ومتشعبّة وخرافيّة عن الشاب المسيحي الكاريزماتي {المتمرد} والمارق والمتهور و{الثوري}(بالمعنى التعسفي) والفاشي، الذي عُلقت صوره في غرف النوم وعلى أعمدة الإنارة ووصف بأنه {الحلم}.

الأيقنة المفرطة لم تكن في حياة الرئيس بشير الجميل، بل ظهرت بعد اغتياله عام 1982، إذ كانت صورة الجميّل، غداة اغتياله في كل مكان، على الجدران، على الأبواب على ذرى الأعمدة، على السيارات، بآلاف النسخ. ولم تكن تحمل سوى كلمة واحدة {الأمل}. وكانت صحيفة فرنسية نشرت الخبر بعنوان: {اغتيال الأمل}. وأنشد الجمهور القواتي {ع دعساتك نحن مشينا} و{بشير حي فينا}.

وإذا كان بشير الجميل غاب جسدياً، فقد حضر من خلال الاحتفالات والأغاني والأناشيد والملصقات التي اختلطت فيها التعابير السياسية بالرموز المقدسة، والصليب بالبندقية، والتواضع بالقوة. في كتابها {ملامح النزاع - الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية}، تسرد الكاتبة زينة معاصري من خلال حرب الملصقات مسار النزاعات التي اجتاحت شوارع لبنان، واحتوت على معان ودلالات متناقضة، وممارسات جمالية متنوعّة ومن بينها ملصقات بشير الجميل. أحد الملصقات التي تخلّد ذكرى اغتياله، تحاط فيه صورته بهالة بيضاء تذكّر بصور القديّسين، وتستعار في صنع هذه الأيقونة تمثيلات الشخوص المسيحية المقدّسة. شمس تنشر أشعّتها من خلال الغيوم، وتمنح البركة عبر نورها المقدّس على خارطة لبنان.

تبيّن معاصري أنه صُمّم عدد هائل من الملصقات حداداً على غياب {الفتى} (بشير) في تاريخين معروفين، 23 أغسطس و14 سبتمبر، ما ساعد على بناء أسطورة {الأمل} في الوعي الجمعي المسيحي. في أحد الملصقات، يظهر بورتريه بشير معلقاً فوق الأرض على خلفية زرقةٍ سماويةٍ داكنة، يمثّل {بروفايله} مفارقة حضوره وغيابه معاً. فالصورة الظليلة البيضاء الفارغة تنبئنا بغيابه، مثلها مثل أثر قدمٍ على الأرض، في حين تدل أنّ {البطل القومي} المزين بالعلم اللبناني قد خلّف علامةً بارزة في {سمائنا}. وتستنتج معاصري أن خسارة الرئيس مسألة، أمّا خسارة الزعيم العسكري المؤله فتلك مسألة أخرى تستدعي نمطًا آخر من الملصقات. اليوم على رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على اغتيال بشير الجميل، ما زال الجمهور المسيحي يبحث عن مخلّص جديد، وحاول بعض ورثته مثل سمير جعجع وميشال عون، أن يكونا بديلا عنه، لكن الزمن اختلف بين الفتى الكاريزماتي وبين مقلديه، والقاسم المشترك بينه وجعجع وعون اعتبارهم «قادة ملهمين»، انشأوا بنيتهم التحتية على الحرب المزمنة، نسفوا كل شيء في هدف يسمونه «الخلاص».  

اللافت من خلال ما تقدم أنه كلما ازداد تقديس الحاكم أو السياسي وأيقنته، كلما ازداد هزال السياسة، وما الصور المؤيقنة إلا أداة للتحكم والتضليل والتوجيه.

back to top