الأرض ما بعد انتفاء الحياة
يمكن أن تكون نهاية الحياة على الأرض دراماتيكية على شكل انفجار نجمٍ كبيرٍ قريبٍ من الأرض يغرق كوكبنا بأشعة غاما المميتة، وربما تكون تدريجية خفيفة على شكل فيروس شديد يفتك بحياة جميع أنواع الخلايا الحية على الكوكب. الاحتمالان بعيدان، ولكنهما ليسا بمستحيلين، والاثنان يؤديان إلى سوأل واحدٍ محيّر هو: ماذا يحصل للأرض في حال توفّيت الكائنات الحية عليها كافة؟ بوب هولمز، مستشار مجلة {نيو سينتست}، جاء بالتالي.
ماذا سيحلّ بالأرض في حال توفّيت الكائنات الحية؟ ستكون التغيرات كبيرة بالطبع، أكبر مما تتوقع! فوجود الحياة على الأرض ليس بمجرّد وجود عادي. تضطلع الكائنات الحية بدور كبير في سلسلة واسعة من أمور تبدو لنا للوهلة الأولى خالية من عناصر أو مكونات الحياة، من المناخ، إلى كيمياء الغلاف الجوي، فشكل سطح الأرض، وصولاً إلى الصفائح التكتونية!الاختصاصي في علم نظام الأرض في جامعة فيكتوريا في مقاطعة كولومبيا البريطانية كولين غولدبلات يقول: {تركت الحياة أثرها وتوقيعها في كل مكان، غيّرت الكوكب بأكمله. إذا انتفت الحياة عن الأرض، يتغيّر كلّ شيء}.
فنلفترض الآن، في سبيل المزاح، أن الأسوأ قد حصل، وأن الكائنات الحية على الأرض قد توفيت: الحيوانات، النباتات، الطحالب في المحيطات، وحتى البكتيريا التي تعيش على عمق كيلومترات داخل قشرة الأرض. ماذا يحصل في حال انتفت هذه الكائنات كافة؟سنتوقف في البداية عند الأمور التي لن تحصل. أولاً، سينعدم التآكل السريع الذي تتعرض له الكائنات الميتة اليوم، وذلك لأن الانحلال هو في الأساس نتيجة لإفرازات البكتيريا والفطريات. لن يتوقف التآكل بالكامل، ولكنه سيتم ببطء شديد نتيجة تفاعل الجزئيات مع الأوكسيجين. غالبية الكائنات الميتة ستتصلّب، في حين أن بعضها الآخر سيحترق ويتحوّل إلى رماد بفعل الحرائق الناجمة عن البرق.بخصوص ظهور الآثار الأولى، يقول عالم المناخ في مؤسسة كارنيجي للعلوم في سانفرد في كاليفورنيا كين كالديرا إن الآثار الأولى لن تطول حتى تظهر، ومن بينها الارتفاع في معدلات الحرارة والجفاف، لا سيما في أوساط القارات، والسبب في ذلك التغاء الغابات والأحراج التي تشكل مضخّة هائلة للمياه كونها تسحبها من الأرض وتطلقها في الجو. مع انتفاء النباتات الحية، تتوقف المضخّة عن العمل، وبالتالي تتوقّف الأمطار. وهذا كلّه خلال أسبوعٍ فقط. المياه التي تتبخّر عن ورق النبات، بما يمكن وصفه بتعرّق النبات، إنما تساعد هي الأخرى على تبريد الكوكب. عندما تخفّ درجة الرطوبة الناجمة عن ذلك، ترتفع درجة حرارة الأرض بسرعة.يمكن أن تكون الآثار أكبر في بعض أجزاء العالم. الأمطار في حوض الأمازون مثلاً تعتمد بشكل كبير على الرطوبة الناجمة عن النباتات. يقول الاختصاصي في علم الأرض في معهد ماكس بلانك في ألمانيا إن درجة الحرارة في مثل هذه المناطق يمكن أن ترتفع بشكل سريع، بحوالى ثماني درجات مئوية.الارتفاع الأولي في درجات الحرارة ليس سوى البداية. مع مرور السنين، سيتواصل ارتفاع حرارة الأرض وستزيد كميات ثاني أكسيد الكربون في الجو بسبب انتفاء وجود العوالق المخزِّنة للكربون في المحيطات، ووصول الفائض في الكربون إلى الغلاف الجوي. ويقدّر عالم الجيولوجيا في جامعة ولاية بنسلفانيا جايمس كاستنغ أنه، في غضون 20 عاماً، ستتضاعف كمية ثاني أكسيد الكربون الموجودة في الجو ثلاثة أضعاف، بما يكفي لرفع معدّل الحرارة العالميّة بحوالى خمس درجات.العوالق سيكون لها أثر آخر مهم، فهي تصدر كميات كبيرة من مركّب ثاني ميثيل السولفيد من المحيطات إلى الجو. يساعد المركّب البخار على التكدّس على شكل غيوم، لا سيما المنخفضة منها قليلة الكثافة التي تساعد على التخلّص من الجو الحار على سطح الأرض. مع انتفاء العوالق، ستصبح الغيوم التي تتشكل فوق المحيطات داكنة جدًا ونقاط المياه التي تشكلها ستكون أكبر، ما سيؤدي إلى ارتفاع الحرارة بدرجتين خلال عدد من السنوات (عقد من الزمن ربما). إذا أضفنا هاتين الدرجتين إلى الدرجات الخمس التي ستنجم عن ارتفاع كمية ثاني أكسيد الكربون في الجو، يمكن القول إنّ الغطاء الجليدي سيذوب بسرعة أكبر.ومع ارتفاع حرارة العالم، ستزداد كميات المياه المتبخرة من المحيطات. بالتالي، ستزداد كمية المتساقطات، ولكن هذا لا يعني أن نسبة المتساقطات ستزداد في أجزاء العالم كافة. ستتساقط الكميات الإضافية من المياه على الأرجح حيث تتساقط الأمطار اليوم، أي المناطق الاستوائية حيث تتسبّب التيارات الهوائية عند التقائها بارتفاع الهواء إلى الأعلى. بالتالي، من المتوقع أن تزيد نسبة المتساقطات في المناطق الرطبة، وأن يرتفع الجفاف في المناطق الجافة، ولكن في مطلق الأحوال، لن تكون على الأرض كائنات حية لتكترث لهذا الأمر!الأرض تتعّرى من غطائهاالتربة التي كانت متماسكة على سطح الأرض بفضل جذور النبات، ستزول من مكانها، تحوُّل قد يستغرق مئات من السنين في المناطق الجبلية التي تتساقط عليها كميات كبيرة من الأمطار، وقد يحتاج إلى مدة أطول في المناطق السهلية، حوالى آلاف السنين في حوض الأمازون، بحسب عالم مورفولوجيا الأرض في جامعة كاليفورنيا ويليام ديتريخ.هذه التربة التي انسلخت عن الأرض لا بد لها من أن تذهب إلى مكانٍ ما، المحيطات في الأغلب، من خلال مصبات الأنهر التي ستتوسع مساحتها أيضاً.يقول عالم الجيولوجيا في جامعة واشنطن، سياتل، بيتر وارد إن حال الأنهر ستتغيّر. الأنهر التي نعرفها عميقة اليوم بفعل جذور النبات التي تمنع ضفافها من التآكل وتمنع مياهها من الانسكاب على الأراضي المحيطة ستخرج بفعل انتفاء جذور النبات، ستخرج عن مسارها وتتحوّل من نهر أو ممر رئيس إلى شبكة من الأنهر المتقاطعة كالتي نراها اليوم في الصحارى وعند أقدام الأنهار الجليدية. شهدت الأرض مثل هذا الأمر سابقاً، عند انقراض العصر البرمي منذ حوالى 250 مليون سنة.مع اختفاء التربة، ستزداد الرياح الرملية في العالم. الترسبات الطينية الدقيقة الشائعة اليوم هي نتيجة غير مباشرة لتحركات الديدان وغيرها من كائنات تؤدي إلى تفكيك التربة. من دون هذه الكائنات، الآلية التي تؤدي إلى تفكيك الطبقة الصخرية تتوقف، وبالتالي تصبح المتكسّرات أقل وأكثر خشونة.مع امتداده على مئات آلاف السنين، سيؤدي هذا التغيير الذي يبدو صغيرًا في حجم الذرات إلى أثرين كبيرين. الأثر الأول الذي سيكون ظاهراً بشكل كبير للعيان سيكون على شكل سطح الأرض. عندما تكون الذرات أكبر وأكثر خشونة، تتعزّز صفة الكشط في الترسبات النهرية، ومع الوقت، يصبح المجرى إلى المحيط أكثر انحدارًا. والوديان أيضاً.سيساعد التغير في نمط المتساقطات بدوره على تشكل هذه الممرات النهرية والمنحدرات. مع أن كمية الأمطار والثلوج ستكون أقل في المناطق الداخلية، إلا أن غياب التربة التي تساعد على احتجاز الرطوبة إنما قد يعني أن أي أمطار أو ثلوج تتساقط على المناطق الداخلية ستؤدي إلى طوفانات سريعة. ويقول الخبير في مورفولوجيا الأرض في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تايلر بيرون إنه وبما أن التآكل يحصل خلال الفيضانات، فهذه إشارة إلى أن بعض الأنهر سيصبح أكثر عمقًا وانحدارًا من اليوم، مع أنها تحمل كميات أقل من المياه بشكل عام. في الأماكن الأخرى من العالم التي تتلقى كميات أقل من المطر والثلج، فإن التآكل سيكون أقل. بالأحوال، يعني هذا الأمر أن شكل سطح الأرض، من تضاريس ومرتفعات وجبال، سيتغيّر.لا يعني هذا التغير في شكل سطح الأرض أن الأخيرة ستصبح كوكبًا غريبًا، ويمكن لنا أن نستنتج من خلال صور من على سطح المريخ أن المناطق الجغرافية ستبقى هي نفسها، ويقول ديتريخ في هذا الصدد إنه إذا نظرنا إلى صور الأرض، سنتعرف إلى المدن والمناطق، ولكن الطابع الصخوري سيغلب عليها. الأرض ستبقى الأرض ولن تكون كوكبًا غريبًا. هذا في حال لم تنظر إلى ميزان الحرارة، لأن الزيادة في حجم الجزئيات الناجمة عن الترسبات والتآكل إنما ستؤدي إلى اختلاف كبير في المناخ، بفعل خفض معدل التفاعل الكيماوي الذي يحصل عند الصخور، ويقصد به التفاعل بين السيليكات الموجودة في الصخور وبين ثاني أكسيد الكربون، الذي يؤدي إلى تشكيل مركبات الكربونات. وتنتقل الأخيرة إلى أرض المحيط، حيث يحتبس الكربون (على شكل أحجار كلسية). تفكك الكائنات الحية الصخر إلى جزئيات دقيقة، وبالتالي تزيد مساحة السطح الكلي للصخر وتتسارع عملية التفاعل الكيماوي.ما مدى تواتر هذا الأمر؟ لا ندري، ولكن الأدلة القليلة التي نملكها في هذا المجال تشير إلى أنّ الحياة ترفع معدل التفاعل الكيماوي عشر مرات إلى مئة مرة. بالطبع، وعلى مدى مليون سنة، يمكن أن ترتفع مستويات ثاني أكسيد الكربون لدرجة كافية لزيادة معدلات الحرارة من 14 درجة اليوم إلى 50 أو حتى 60 درجة. هذه الدرجات كفيلة بإذابة الغطاء الجليدي.مع ارتفاع كمية ثاني أكسيد الكربون، تكون كميات الأوكسيجين على تراجع واضمحلال. كانت الأرض في بداياتها خالية من الأوكسيجين وشديدة التفاعلية بحيث يستحيل استمرار وجوده من دون قيام تفاعلات كيماوية تؤدي إلى تشكيله بشكل متواصل ومستمر. لم يبدأ الأوكسيجين بالتجمع في الجو إلا بعدما بدأت عملية التخليف الضوئي بتشكيله، منذ حوالى 2.6 إلى 6 مليارات سنة. في هذا المجال، يوضح الخبير في جامعة واشنطن ديفيد كاتلنغ أن كميات الأوكسيجين في الأرض تتراجع بعد اضمحلال الحياة على الكوكب، وفي غضون 10 ملايين سنة، تكون نسبة الأوكسيجين في الجو حوالى 1% على الأرجح.مع هذه النسبة، سيكون من الصعب الحفاظ على طبقة الأوزون، ومن دون هذه الطبقة، ستعاني الأرض الأشعة ما فوق البنفسجية.مع تراجع كميات الأوكسيجين، سيكون الكوكب أصفر مملاً. الصخور التي كانت غنية بالحديد لن تكون قادرة على التأكسد واكتساب لونها الأحمر المعهود.عندما يصبح الغلاف الجوي خالياً من الأوكسيجين، وغنياً بثاني أكسيد الكربون، وعندما تصبح الطبقة الصخرية عارية من التربة، أي عندما تقتل الحياة على الأرض وتنتظر بعد ذلك حوالى 100 مليون سنة، فإن شكل الأرض سيكون على الأرجح كما لو أن الحياة لم تكن يومًا على هذه الأرض، يقول كالديرا، ويوافقه في ذلك كثيرون. الاختلاف يكمن في الشمسالكوكب من دون حياة في المستقبل قد يكون مختلفًا عما كان عليه قبل وجود الحياة عليه، ويكمن الاختلاف في الشمس. كانت الشمس أخف وهجًا بـ 30% في بدايات الأرض، بالتالي ساعد وجود ثاني أكسيد الكربون الأرض بكثافة على عدم التجمد، ولكن مع الشمس بحرارتها الحالية، قد يدفع ثاني أكسيد الكربون الأرض إلى الحد الأقصى.يقول غولدبلات إن اضمحلال الحياة عن الأرض قد يخل بالتوازن المناخي بالكامل. يعتبر بعض النماذج أنه في حال ارتفعت درجات الحرارة إلى حد معين، قد يؤدي الارتفاع في الرطوبة إلى احتباس حراري وبالتالي إلى مستويات أعلى من البخار في الجو، ومن ثم ترتفع الحرارة أكثر فأكثر، فندخل في حلقة مفرغة!ويشير إلى أن المناخ الذي صنعه الإنسان لن يأخذنا إلى هناك. «نحن نتكلم هنا عن تغيرات كبيرة جداً. ولكن أمامنا الملايين في السنين إلى ذلك، لهذا السبب أعتبر أن من الواقعي القول إنه يمكن لنا أن نصل إلى الاحتباس الحراري». في الحالة القصوى، قد ترتفع درجات الحرارة بشكل كبير يؤدي إلى تبخر المحيطات فتصبح حرارة سطح الأرض حوالى 1000 درجة. ويضيف أن الأرض من دون حياة تكون شبيهة بكوكب الزهرة!البعض أقل تشاؤمًا، إن جاز التعبير، في الحديث عن تكنهات حول أحداث يمكن أن تقع بعد مئات ملايين السنين. يقول الخبير في النماذج المناخية في جامعة إكستر البريطانية بيتر كوكس إن كوكب الزهرة تحوّل إلى ما هو عليه لأن حركة الصفائح التكتونية توقفت في بدايات تكوّنه، ويعتبر أن الأرض، التي ما زالت نشطة تكتونيا، ستستمر في دفن الكربون، فتبقى كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون مطمورة خارج الغلاف الجوي، ما يساعد على تلافي الاحتباس الحراري.الخطر في هذا المجال ما زال موجودًا لأن غياب الحياة على الأرض يؤدي إلى تباطؤ في عملية احتباس الكربون. ولا تشجع التوقعات الطويلة المدى حول عقم الأرض، فمن دون وجود غطاء حياتي على الأرض، قد لا يتبدَّل شكل هذا الكوكب بشدة ولكن الكوكب لن يكون مكانًا مريحًا: اشتداد في الحرارة، وعورة، إشعاعات، أمطار حادة، سيكون مكاناً غير قابل للسكن!هذا إن لم يحصل شيء استثنائي. لا أحد يعرف بالتحديد كيف بدأت الحياة على الأرض، ولكن من الواضح أن الأمر قد تمّ خلال بعض مئات ملايين السنين من التبريد إلى أن أصبحت الأرض مكاناً قابلاً للسكن. قد يحصل هذا الأمر مجدداً بعد عملية الانقراض. في الواقع، الكمية العظمى من الأوكسيجين في الجو، وهي بمثابة السمّ لكثير من التفاعلات الكيماوية، ستزول، وسنشهد بالتالي الكثير من الجزئيات الحيوية المتوافرة. ولن تكون هناك «حياة سابقة» تقف في وجه التحولات الأولى، والتي ستشكل إعاقة في وجه البداية الجديدة. كوكب عاقر، بداية جديدة، قد يكون أفضل فرصة لبناء نوع جديد من الحياة.